لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله
علاماته السياسية والحضارية
ما الذي يجعل حكام أي بلد عربي يزعم أو يزعم له من طباليه أنه قادر على شيء غير ما نراه يفعل بأمر من سيده وحاميه: قهر شعبه واستعباده وتبذير ثروته؟
لما تسمع أبواقهم تتصور أن حكام العرب يأمرون القوى الدولة فيطاعون وهم لمن يدرك الخفايا رهن إشارة ذارعيها في الإقليم بل وأمراء ميليشياتهما.
جيوش وأسلحة وابهة لكأنهم أباطرة العالم وهم لا شيء. لا حضور لهم إلا في عنترياتهم المتبادلة: عشت في شبابي على صوت عربي واحد يكذب كما يريد.
فصارت أصوات العرب بعدد المحميات العربية بل وبعدد ليبرالييهم وأصولييهم وأمراء حرب الحكم وأمراء حرب المعارضة والممانعة وتجار القضايا والبلايا.
كل شعوب العالم التي كانت دون العرب منزلة حضارية وتاريخية تداركت أوضاعها واندرجت في عصرها باجتهاد نخبها وجهادها إلّا العرب فإلى نكوص دائم.
شرع شبابهم في تحريك أواسن مياههم فتجندت لهم الأنظمة بصنفيها القبلي والعسكري وخاصة ما يسمى بالنخب التأصيلية والتحديثية بعكس ما يدعون تمثيله.
وعندما حاق بهم شر ما فعلوا لم يبق لهم مفر من اللجوء إلّا بيع كل شيء من أجل كراسي، سلطانها مقصور على شعوب أفقدوها معاني الإنسانية بالهمجية.
وكلما حاولت أن أفهم بأي منطق ممكن أحوال هذه الأنظمة القبلية العسكرية، لم أجد فرضية عمل أفضل مما وصف به ابن خلدون من صفات الانحطاط الشامل.
لكن وصف ابن خلدون ينقصه ما نتج عما لم يكن حاصلا في عصره: أعني قابلية كل قشور الحداثة للاستيراد لتجتمع مع كل مظاهر الوحشية القبلية والعسكرية.
وليست بها أبخس القبائل والجيوش إذا كانت بحق قبائل وجيوش. فهذان يمكن أن يصح عليهما قول القائل عن تكرار تجارب التاريخ: فهو كوميدية التراجيديا.
القبائل الأصلية أصيلة. القبائل النسخة هجينة. ذلك أنها نكوص إلى الوحشية دون فضائل الفطرة الأولى. ومثلها الجيوش. شتان بين الفرسان واللصوص.
والدليل أن قبائل العرب الأولى هي التي كانت جند الإسلام. وجند الإسلام كانوا فرسانا فتحوا العالم بشعار تحرير البشر من عبادة بعضهم البعض.
ولا بد من التمييز بين بداوة البداية وبداية الغاية. الأولى عنفوان الشباب والثانية إعياء الشيخوخة. الأولى أصل الفضائل والثانية أصل الرذائل.
ونفس الأمر عن الجيوش: فما تكون منها من الأولى كان جيش فرسان. وما تكون منها من الثانية كان جيش لصوص. وتلك حال الجيوش التي لا تحمي الأوطان.
وأريد الآن أن استعرض الحيل التي يبرر بها الناكصون تدنيهم إلى ما وصفت: وهي مفهومات مقلوبة حتى صارت من الأضداد لإفادتها عكس معناها المعهود.
وسأكتفي بما قلبوه من مفهومات تعرف فساد كيانهم المهزلة: حقيقة السياسة والعداوة والمصلحة والدولة والأمة. وهذا دور نخبهم التأصيلية والتحديثية.
يعرفون السياسية بفن الممكن ليبرروا قصورهم السياسي. وينسون أن الممكن علاقة بين قدرتين تختصمان على المطلوب بالمتاح لديهما من شروط التحقيق.
فلا يفهمون أن السياسة قبل ذلك هي الاستعداد لتحقيق القدرة التي تحقق الممكن الحاصل من تعارض قدرتين عليه في صراع الإرادات المتنافسة عليه.
لذلك تراهم نياما فلا يستعدون لشيء. فإذا فاجأهم شيء حصلت لديهم فزة بدوية يغلب عليها الذعر واللجوء إلى حام غالبا ما يكون هو بدوره عدوا.
وتلك حال المحتمين بإسرائيل من إيران أو المحتمين بإيران من إسرائيل وهذان هما الذراعان الحاميان لنوعي الأنظمة والنخب العربية بصنفيهما.
وحتى يدعموا هذا السلوك القاصر يأتي تعريفهم للمفهوم الثاني: لا توجد عداوة دائمة بين الدول بل الدائم هو المصالح. وهنا أيضا ينسون الجوهر.
نعم المصالح دائمة لكنها في إطار ما يحفظ الوجود وليس خارجه. والعداوات نوعان: ما يتعلق بالمصالح وما يتعلق بالوجود. ولا معنى لتلك من دون هذه.
في تنافس المصالح لا تكون العداوات دائمة لأنها تتبع حوالة الأسواق بلغة ابن خلدون. أما تنافس الوجود فلا حلول وسطى أو عداوة نسبية فيه. وهي الحال.
وإذن فمن علامات هذا القصور عدم التمييز بين التنافس المصلحي والتنازع الوجودي فيقع الخلط فيحتمي الحكام العرب في النظامين بالأعداء الوجوديين.
فيتبين أن الأنظمة القبلية والعسكرية ونخبهما يخلطون بين الدولة وكراسيهم. فهبنا سلمنا بالخلط بين التنافسين هل مصالح الدولة هي مصالح الكراسي؟
من هنا يأتي التحريف الاساسي في تفكير الأنظمة الناكصة بصنفيها القبلي والعسكري ومليشيات القلم بصنفي مطبليها: حصر الدولة في كرسي الحكام.
فتجدهم يتنازلون عن السيادة للمحافظة على الكرسي: كلهم وبدون استثناء تنازلوا عن شروط السيادة وجعلوا ما يسمونه دولا محميات الاستعمار وذراعيه.
والعلة الأساسية هي أنهم حرفوا مفهوم الأمة: سموا كل جذاذة من الأمة أمة ففتتوا الجغرافيا وشتتوا التاريخ حتى يضفوا الشرعية على فقدان السيادة.
وبعيارة وجيزة: أمراء طوائف جدد تنازلوا عن قلب دار الإسلام تنازل السابقين عن الأندلس. يفرطون فيها للاستعمار وذراعيه من أجل كراس بلا سيادة.
لكن علة العلل هي القصور الذهني: فمن خصائص البداوة والعسكر الناكصين والجامعين بين ترف الانحطاط ووحشيته أنهما كالحمير بلا عقل ولا ضمير
الكتيب