لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله
تسمى الفاصلة بين ظاهر الأفعال وباطنها نفاقا دينيا وخلقيا وحدد فيه ابن خلدون مستويين في شفاء السائل واعيا وغير وع. فما النظير الأنطولوجي؟
في اللغة الفرنسية يناظر هذه المقابلة في سلوك الإنسان المقابلة الأنطولوجية بين “باراتر” الظهور و”آتر” والوجود. وهذه تعتبر علامة تلك بل وعلتها.
لكن الظهور في العربية لا تؤدي الـ”باراتر” لأنها قد تفيد ما يسود وليس ما يبدو. وهو ما أصبح أكثر مناسبة لفلسفة حديثة تتجاوز ابستمولوجية كنط.
فنفي المقابلة بين “الفينومان” و”النومان” الكنطيين يعللها الرأي المتجاوز لأبستمولوجيته بكون دينامية الوجود هي تجليه في ظهوره. فهما شيء واحد.
كل تفاقهات هيدجر في كلامه على الفينومان لتأسيس الفينومينولوجيا لا يتجاوز هذه الفكرة: الوجود يتجلى ليمر من الخفاء الى الجلاء وذلك عين حياته.
لكنه مع ذلك لا ينفي قصور الجلاء عن الإحاطة بالخفاء. فلكأن الينبوع يبقى دائما رمز اللامحدود الوجودي واللاتناهي لفاعلية التجلي الذي لا يتوقف
فتكون كل لحظة منه تجددا متكررا في سيلان أبدي لا يحتاج المرء إلى اعتباره عودة سرمدية للمثل بالمعنى النيتشوي بل هو مجهول الطبيعة وغريب الطريان.
وغرابة طريانه اللحظي هي التي يعتبرها هيدجر “آريقنيس” أي حدثا فريد النوع في لحظة حدوثه بمعنى أنه غير قابل للتوقع: بنبضات قضاء وقدر لامتناهية.
ولا يمكن تصور هذا التوالي اللامحدود معقولا إلى بالتحرر من نظامي إضفاء المعقولية عما يحدث: النظام السببي بداية وغاية شرطي العقل عند ابن خلدون.
حدس الطريان انضواء في مجراه، لكأن وعي الإنسان ووجدانه هو عين مجرى التجلي الوجودي فيحدث للإنسان شيء من أوهام التصوف القائل بوحدة الوجود.
ما أوردته هنا ليس تأملات فلسفية لمجرد التأمل. فهو تمهيد لعلاج مشكل عويص هو سر المعركة بين أدعياء الدفاع عن الإسلام وأدعياء الدفاع عن الحداثة.
ذلك أن كلا الصفين كان يمكن أن يتهمني بأني اقابل بين ظاهر وباطن واتهمهم بالاكتفاء بظاهر كاريكاتوري من باطن ادعي أنهم يجهلون أو يتجاهلونه.
فيمكنهم أن يزعموا أنهم قائلون بأن كل باطن وهم إذا لم يتجل في ظاهره. ومن ثم فكل حججي تسقط وأكون أنا الذي أمثل الكاريكاتور أي حقيقة لا تتجلى.
ولهذا بدأت فعرضت حججهم الفلسفية الأقوى -عملا بطريقة ابن تيمية في الاحتجاج لخصومه بما لا يستطيعون فعله لمساندة آرائهم-ثم يدحضهم بأعدل قضاء.
ولما كنت لا أكتفي بعرض رأيي عريا عن مصادر من تراثنا، وضعت المسألة بين رجلين من أهم مؤسسي المدرسة الفلسفية النقدية العربية: الشيخ والعلامة.
انصاف الخصوم التيمي وبيان مستويي النفاق الخلدوني. إنهما منطلقي المنهجي للأول والموضوعي للثاني لعلاج موقف كاريكاتوري علاقة الحقيقة بالزيف.
فالزيف يعترف بزيفه لمجرد حكاية ما يزيفه لئلا تظهر تزييفه. فالزيف شهادة ضد نفسه بمجرد انه يحاول التشبه بالحقيقة وخاصة في زينة المرأة وحليها.
فالمرأة الجميلة مستغنية عن مبالغات الماكياج. والحلي الحقيقي لا يعتبر كل أصفر ذهب. وكذلك الحقيقة تتميز عما يحاول الظهور بمظهرها فيفضح نفسه.
وهذه حال الكاريكاتورين من الأصالة والحداثة في المعركة الدونكيخوتية بين النخب العربية: فقد فضحتهم ثورة الشباب فتبين زيف أصالتهما وحداثتهما.
ومعنى ذلك أنهما أغنياني عن الحجاج: فها أنت تراهم في كل بلاد العرب من الماء إلى الماء قد اصطفوا وراء “واقع” هو كاريكاتور كل ما يدعيه.
فهل يوجد من يصدق ما على صدر السيسي وحفتر من رموز البطولة العسكرية؟ وهل يوجد يصدق ما في أفواه الدعاة من رموز القيم القرآنية؟
وهي يوجد من يصدق ما في أفواه وزراء خارجية دول الثورة المضادة من كلام على السيادة والاستقرار والنماء في حربهم على الثورة والإسلام؟
وهل يوجد من يصدق مليشيات القلم العربية وهم أنفسهم بمجرد أن تجالسهم يعترفون لك بأنهم يأخذون مستعمليهم على حد عقولهم لحلبهم والسخرية منهم؟
وهل يوجد من يصدق مليشيات السيف عندما تتكلم مليشيات إيران عن مقاومة أمريكا والاستعداد للقضاء على إسرائيل وهي التي تحميهم في الهلال؟
وهل يوجد من يصدق أن داعش تمثل الخلافة الإسلامية؟ وهل يوجد من يصدق أن خدمة الحرمين خدمة أم استخدام؟ وهل يوجد من يصدق أن إسرائيل ديموقراطية؟
وهل يوجد من يصدق أن الغرب القديم والغرب الحديث يؤمنون حقا بما يزعمون الإيمان به من قيم هي ماكياج لم يعد يصمد أما شمس ثورة شبابنا؟
المسألة ليست سياسية فحسب بل هي انطولوجية (وجودية) وابستمولوجية (معرفية): دعوى رد الوجود للظهور هدفها تيئيس المقاوم الصادق من التغيير.
لكن الأساس يصبح الخلقي وليس الوجودي: فالخلقي المميز بين الظاهر والباطن ليحدد مساحة النفاق هو الذي يجعل وجود الإنسان اجتهادا وجهادا خلقيين.
الاجتهاد هو البعد المعرفي (الابستيمولوجي) والجهاد هو البعد الوجودي (الانطولوجي) وبهما يكون الإنسان فوق ضرورة الطبيعة خليفة بحرية التاريخ.
وهذا هو جوهر الإسلام. وهو فلسفيا ما يحاول فلاسفة المدرسة النقدية العربية رغم أنها-بخلاف ابستمولوجية كنط-لم تحتج لنفي معرفة الحقيقة بالكلية.
فهي لم تستثن من علم الإنسان إلا ما لا علاقة له بعلم الشاهد من الوجود. لم تستثن إلا الغيب الذي هو الفضاء الموسع للعالم شرط تجاوز التناهي.
ولا تجاوز للتناهي إلا بالإيمان باللامتناهي الذي هو مجال الغيب. عالم الشهادة يكون محلا للعيش المطمئن بفضل الإيمان بعالم الغيب: جوهر الإسلام.
والعيش المطمئن شرطه تبين الرشد من الغي اي الحرية الروحية والحرية السياسية. والأولى علاقة مباشرة مع الله والثانية علاقة مباشرة مع الشأن العام.
تبين الرشد من الغي هو عين الإسلام أي الحريتان وهما شرط العيش المطمئن للنفس المطمئنة: فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها.
وإذن فالمسألة معرفية (تبين الرشد من الغي) وخلقية (التحرر من الطاغوت) وثمرة البعدين وجودية: الاستمساك بالعروة الوثقى لا انفصام لها.
وتنتهي الآية بما يتقدم على هذه الحال الروحية والسياسة المعرفية والخلقية وجمعها هو عين الوجود وبما يتأخر: فالله سميع للإنسان وعليم بأحواله.
بهذا نبين قدر الوسع العلاقة بين المعرفي والخلقي في القرآن الكريم بوصفهما شرطي الوجودي الذي يتحرر من ضيق عالم الشهادة بعالم الغيب. والله أعلم
الكتيب