النظر والعمل والمأزق الحضاري العربي والاسلامي الراهن – عقيل الخطيب

ه

عقيل الخطيب

تمهيد

المشروع الذي طالما انتظره القارىء العربي “غير المختص” في عويص القضايا الفلسفية وعميق الفكر وجليل الكلام ودقيق القول خصوصا وان القارىء العربي غير متعود، او عود، على نمط من الكتابة هي للصحافة اقرب، ومن ثمّ، عندما ظهرت ابداعات الفيلسوف التونسي ابو يعرب المرزوقي وهو يعالج امهات قضايا التراجع والانحطاط العربي/الاسلامي لتحديد اسبابه وعلله ضمن رؤية فكرية شاملة فلسفية يتوق للمستقبل من اجل الاستئناف، وعندما ظهرت هذه الابداعات، ولان الموضوع بطبيعته يتطلب نمطا معينا من المعالجة المجردة، بدت التشكيات من صعوبة الاسلوب او الكتب والمؤلفات اليعربية وكان لزاما على تلامذته ان يجلوا ويشرحوا ويوضحوا الغامض او الملتبس خصوصا وتقاليدنا الفلسفية القديمة لعبت واجادت هذه المهمة لكن مع فلاسفة اجانب اقصد شراح ارسطو، وحتى في زماننا هذا هناك شراحا لفلاسفة غربيين.
لذا نرى من واجبنا الاخلاقي والمعرفي ان نشرح ونتناول كتب ومؤلفات فيلسوفنا التونسي، خصوصا وان ديوننا تجاهه معرفيا وروحيا لا تنقضي، فما نقوم به هو رد لبعض جميله هذا، فضلا على ان قناعتنا تتاكد كل يوم انه جدير بان يكون فيلسوف الامة.
كتب ومؤلفات أبو يعرب غزيرة وكثيرة وسنأخذها تباعا، وما نقوم به هو تلاخيص وشروحات لمضامين هده الكتب، وقد ننقل كل المقالة مع تحويرات وتغييرات في البناء اي تقديم او تاخير نراه ضروريا مع اسلوبنا البسيط والادبي في الكتابة.
وقع اختياري على كتيب النظروالعمل ضمن سلسلة حوارات لقرن جديد نشرته دار الفكر الدمشقية بين ابو يعرب وحسن حنفي الطبعة الاولى ذو القعدة 1423 الموافق يناير2003

عنوان الحوارية: النظر والعمل والمأزق الحضاري العربي والاسلامي الراهن

هذا العمل لا ينفصل عن الدعوة لمن له المام بالفكر والفلسفة كي يشاركنا ويقدم لنا النصيحة او يكتب ناقدا او مستفسرا او شارحا.
والله الموفق.

اختار الدكتور لمداخلته عنوان النظر والعمل من المنظور الحي للفلسفة العربية امتدت على مدى 136 صفحة بهوامشها الكثيرة وهي تتكون من تمهيد ذو 18 صفحة واربعة مقالات في حدود 105 صفحة وخاتمة في حدود سبع صفحات.

  1. المقالة الاولى عنوانها: الدلالة الحضارية للعلاقة بين النظر والعمل
    وتتكون من فصلين:
    • اولهما تحت عنوان المعرفة النظرية شرط الحرية العملية
    • وثانيهما عنوانه مراتب الحضارة وعلاقة النظر بالعمل

  2. المقالة الثانية عنوانها: المدخل التاريخي في اهم محطات العلاقةبين النظر والعمل
    وتتكون هي الاخرى من فصلين:
    • الاول بعنوان المدخل الفلسفي التقليدي للعلاقة بين النظر والعمل
    • والثاني بعنوان المدخل الديني التقليدي للعلاقة بين النظر والعمل

  3. المقالة الثالثة عنوانها: المدخل التاريخي البديل للعلاقة بين النظر والعمل
    وفيها فصلين:
    • الاول عنوانه البنية المحورية
    • والثاني عنوانه من المقولة الى الآية

  4. المقالة الاخيرة: منزلة العلاقة بين النظر والعمل في العمران البشري
    هي الاخرى في فصلين:
    • الاول عنوانه مبدأ تاريخ الفلسفة: بنية العقل العميقة
    • والثاني عنوانه مبدأ فلسفة التاريخ: بنية العمران العميقة

  5. الخاتمة عنونها الطابع الكوني لمقومات العلاقة بين النظر والعمل
    طبعا الكتيب هو حوارية بين الدكتورين ابو يعرب وحسن حنفي وهذا يعني ان كل منهما له ردوده على مداخلة الاخر وما يعنيني هو ردود ابي يعرب التي قد نلخصها في ختام هذا العمل.

اعادة تركيب وبناء التمهيد وتلخيصه

كمقدمة اقول:
تتنزل هذه الإشكالية، اعني النظر والعمل، ضمن المصنفات اليعربية باعتبارها القلب النابض الذي عنه ومنه تتفرع كل المسائل والموضوعات في مختلف المجالات الحضارية وتعيناتها، ولست اجانب الصواب اذ اعتبرتها بؤرة تتجمع فيها كل المضامين بل حتى اشكالها العلاجية وصورها المنطقية.
لقد سبق ان بينا في دراسة لنا عن الفلسفة اليعربية ان التصور الفكري للدكتور (في منحى شبه هيجلي) يتبنى وحدة الفكرين الفلسفي والديني وهو ما له صلة بمسالة النظر في علاقته بالعمل وبيّن، “مستعيرين عبارة ارسطو”، ان العمل هو غاية الدين اما النظر فهو غاية الفلسفة ولا يخلو أحد الطرفين من البعد المقابل له.
للمعالجة، يمهد الدكتور بتمهيد يكاد يكون عسير التلخيص لأهمية كل ما ورد فيه، حتى هوامشه تكتسب دلالة خاصة، ولذا ارتأيت ان اعبر عنه واستوفيه حقه من خلال خمس ملاحظات نعتقد انها تلم بشيء مما فهمته، وان جانبت الصواب، فالخطأ خطئي، وان وفقني ربي فله الحمد والشكر.

الملاحظة الاولى:

الدكتور ابو يعرب ينطلق من الحاضر ويميز فيه بين لحظتين:
لحظة كونية تعينت في الفكر الغربي ومنجزاته:
• النظرية (من علوم وآداب وتقنية وفنون مجردة ومطبقة)
• والعملية (من تاريخ وسياسات وسلوكيات ومعاملات بدورها مجردة ومطبقة)
ولحظة اخرى تخص الامة العربية الاسلامية وهي تسعى للتأقلم مع اللحظة السابقة ومواكبتها لدى البعض والخروج من الانحطاط والاستئناف الحضاري لدى الأخرين والدكتور أبو يعرب أبرزهم لا على مستوى التمني والاحلام وانما بمباشرته العمل الفكري كشفا للتحديات ووضعا لمعالم الحلول.
ما يهمنا هو ان ابا يعرب يعتبر ان المنجز الفكري الحضاري كما تعين لدى الغرب بصفة عامة ولدى امة الجرمان بصفة خاصة، هذا المنجز قد حقق المزاوجة الحية بين ما بعد الفكر الفلسفي (نظرية النظريات او الميتافزيقا) وما بعد الفكر الديني (نظرية العمليات او الميتاتاريخ) للتجربتين العقلية او البعد النظري (العلوم الرياضية والمنطقيةونتائجها)وتجربة العمل او البعد العملي (العلوم التاريخية والسياسية ونتائجها) في محاولة لتحديد المضمون الديني والشكل الفلسفي الحيين بجدلهما من خلال فعاليتي الوجدان والفرقان صياغة للوجود وتعبيرا عنه (الوجدان للفهم والفرقان للتفسير).
هذه الملاحظة ذات البعد الواقعي /العيني يتخذها الدكتور منطلقا للبحث فيما سبقها اي للكشف عن شروط امكانها بلغة كانطية ومن ثم تسليط الضوء على بنيتها وعناصرها علها تسعفنا في فهم ذواتنا وما آلت اليه تجربتنا الحضارية ليكتشف الحقيقة التالية:

الملاحظة الثانية:

ان المنجز الحضاري العربي/الاسلامي هو اول منجز تم فيه تحقيق هده المزاوجة ومن هنا تأتي اهمية هذه اللحظة الروحية في التاريخ الكوني البشري فهي لحظة وسطى بين المنجز الحضاري الاغريقي والمنجز الحديث الالماني لذا ليس اهتمام الدكتور بحضارتنا من باب الفخر او القومية والمركزية الاثنية، وانما لكونها مثلت حقا وعدلا بؤرة التاريخ الكوني الفلسفي والديني رغم ما لحقها من جمود ولم تتطور لتصبح منبع الفكر الحي المتجاوز لذاته نحو افق متعال ومثالي يتحدد ذاتيا وليس كما هو الحال اليوم يتناوس بين عصابتين الاولى تتغنى بالماضي الاهلي والثانية بالحاضر الأجنبي.
وحتى يتم الاستئناف الحضاري على اسس متينة وثابتة، لابد حسب فيلسوفنا من القطيعة مع هذين الموقفين الاصلاني والحداثي والانطلاق لبناء تصور جديد يمكننا من البناء مما هو حي من ماضينا وحي من حاضرنا.

الملاحظة الثالثة:

ان الانسانية اليوم تعيش مآزق حقيقية على المستوى الحضاري وليس ما يعرف بالتوحش الراسمالي المتعولم الا احد مظاهره وظهور الاحزاب ذات الإيديولوجية اليمينية المتطرفة وهي تستلم السلطة يغذيها خطاب الكراهية والاستئصال ضد المختلف الحضاري كل هذا هو عنوان ازمة اخلاقية ووجودية رغم ان التقدم التقني والعلمي (وهذا منجز نظري وعملي) لم يتوقف بل يسارع الخطى حثيثا نحومغامرة لا يدري احد مآلها.
ان الوجود الانساني وحتى الطبيعة والحياة أصبحا مهددا ما لم تتقدم محاولات جدية للخروج من نفق العولمة بتوحشها، ولئن نجحت الانسانية الى حد ما في ضمان التفاهم بعد الحرب العالمية الثانية خصوصا والمنظمين لعائلة النادي النووي أصبحوا كثرا فإن الوضعية الراهنة تستدعي ان يتنادى المفكرون والساسة لبدائل جديدة والا فالدمار لن يبقي ولن يذر.
ويتقدم الدكتور ابو يعرب واثق الخطى بواجب النصح والبناء لرؤية قرآنية يراها الحل المناسب لامراض وآفات العصر وبديله يتمثل في فهم الرسالة القرآنية ومنزلة الانسان فيها.
ان مصير الانسانية في صحراء التوحش رهين صمود الامة وهو واثق أن الاوان والظروف قد هيأت للقرآن الفراغ الذي على المسلم ان يملأه.

الملاحظة الرابعة:

يعتبر ابو يعرب ان اللحظة العربية/الاسلامية من جهة المزاوجة بين النظر/العمل كانت مديدة التكوين والتصوير فضلا عن تعقيداتها مما يجعل الباحث فيها يتيه من كثرة تلويناتها وتشتتها في فوضى اشبه بفوضى العالم الحسي الذي يعطى لنا فهي خليط بين الاسطوري والديني والعلمي والفلسفي وكما ان العقل لدى العلماء يصطنع نماذج يعلل بها فوضى العالم الحسي فكذلك لابد من نموذج يجعلنا قادرين على ايجاد الخيط الناظم لفوضى تراثنا بعيدا عن التمجيد الكاذب وعن التبخيس المضل.
ان عمر هذه العمارة العربية/الاسلامية امتد على طول ستة قرون كاملة هي كل حركة تاريخ حضارتنا وما جاء بعدها كان عصور موات وانحطاط ليس فيه الا بقايا رماد من تحته لهيب يريد ابو يعرب ان ينطلق منه واخذ قبس لاشعال مشعل العودة للاستئناف.
وحسب دكتورنا فإن هذا البناء تم وانجز ضمن التمشي التالي:
• القرنين الاول والثاني فيه بداية تكون صلح خارجي بين بؤر التزاحم التي أبرزها اللقاء الخارجي بين الفكرين الديني والفلسفي، فنشأت خلال هذه المدة المدارس الكلامية والتوجهات الصوفية.
• القرن الثالث فيه تم توطين الفكر الفلسفي بفرعيه المشائي والافلاطوني بداية من الكندي وتبلور نسق المذاهب الكلامية والصوفية.
• القرن الرابع فيه تم اكتمال الصلح الخارجي بين الفكرين الفلسفي والديني ولكنه ضل صلحا خارجيا.
• القرن الخامس حدث فيه الانفجار من خلال ابن سينا /الغزالي مما انجر عنه محاولة حسم التزاحم وفق اسس جديدة اعادت النظر في اصل المقابلة الخارجية لتنتهي انها عين القلب الحي لكلا الفكرين فهما فكرين متحدين بالجوهر (العلاقة بين النظر/العمل هي ذاتها العلاقة بين الحقيقة/المعنى في التجربتين الفلسفية الطبيعيةوالدينية التاريخية)
• هذاما تم الوعي به خلال القرنين السابع والثامن.
• القرن السادس فيه تمت محاولة ترميم الشظايا إثر الانفجار السابق السينوي/الغزالي.
• اما ما وقع في القرنين التاسع والعاشر فهو الجمود الذي دخلت فيه الامة على مختلف الأصعدة فكان هذين القرنين هما قرن اعلان خفوت الحمم البركانية.
• اما القرن الحادي عشرة والى عصرنا، اي ما يعادل اربعة قرون فلن تتم استعادة الوعي والفهم الا بربط المعادلة بين حدي النظر/العمل من خلال الطرح القرآني بما هو نص لا زال ينبض بالحياة وهو رمز كيان الامة منه بدات وضمنه نهاية شوط اول ويرى الدكتور انه حان اوان بداية شوط ثان خاصة والانسانية كلها تنتظر المخلص بعد نهاية تاريخ أعلن من كبرى الجامعات الغربية.

الملاحظة الخامسة:

وتتعلق بدور المنجز العربي/الاسلامي ضمن مساهمات الكيان الحضاري الإنساني، وهنا لابد من معالجة مسألتين تبدوان في الظاهر متناقضتين ولكن لدى تحليلنا يتبين انهما منسجمتين.

  1. المسالة الأولى:

تتمثل في تقويم بمعنى النقد في ما قام به فلاسفتنا باعتبارهم نخبة اخذت على عاتقها مهمة الريادة الحضارية والتفكير لكن ما لا ينبغي ان يغيب عنا هو ان المنجز الحضاري وبناؤه يتم من خلال قوى فاعلةوارادات تتدافع وتتنافس في عملية البناء وهذه القوى تعبر عن توجهات سياسية واجتماعية ودينية ومعرفية فصرح هذا البناء هو خلاصة تظافر هده الجهود، ومجهود الفلاسفة هو احد الاوجه وليس هو كله.
ويرى ابو يعرب ان دور الفلاسفة بالمعنى التقني “اي الكندي والفارابي وابن سينا والسهروردي وابن رشد وابن عربي بل حتى ملا صدر الشيرازي وهو فيلسوف ايراني في القرن السابع عشر ميلادي” كل هؤلاء الفلاسفة مثلوا وهنا وضعفا في هذا البناء الحضاري.
ومن المفارقات ان خصومهم اي كانت مبرراتهم هم الذين واكبوا بشكل او بآخر لحظتهم التاريخية لو استعرنا لغة معاصرة لقلنا مع مفكرنا ان عنوان التقدمية تعين في حضارتنا عند خصوم الفلاسفة بينما مثل هؤلاء الرجعية في أبهى مظاهرها.
ان هذه القراءة التي يطالبنا الدكتور باعادة القيام بها حتى نفهم تاريخنا من اجل مستقبلنا وهي في المجمل سلبية من جهة تقويم ما قام به فلاسفتنا من شيراز بإيران مرورا ببغداد ودمشق وصولا للأندلس، هذه المراجعة التقويمية وان كانت سلبية لا تجعلنا كردة فعل “غير عقلانية” ننتقص من المنجز الحضاري العربي/الاسلامي ودوره في المدونة الكبرى الانسانية وهنا نأتي للمسألة الثانية.

  1. المسألة الثانية

وهي تتعلق بإشكالية الكونية/الخصوصية يلاحظ الدكتور انه ثمة سلوك عجيب يجب التخلص منه وهو التقوقع على الذات باسم الخصوصية فتاريخنا ليس خارجا عن سنن التاريخ الكوني، وبالتالي لابد من ادراج الفكر العربي/الاسلامي تصورات ودوافع في مجرى التاريخ الكوني بدلا من حصره في خصوصية شاذة وقاتلة.
ان التقابل بين الكلي الانساني والذي حصر فيه الفكر الغربي على ما يزعم حداثيينا والخصوصي الحضاري الذي حصرت فيه حضارتنا على ما يزعم انصار الاصالة، هذه المقابلة زائفة ووهمية وهي خطيرة ومعيقة، فالمقابلة بين الجماعات البشرية تتجاوز ما يقتضيه معنى التنوع الضروري للتدافع على اساس الوحدة النوعية، هذا التقابل هو عنوان الحمية الجاهلية كما يؤكد ذالك القرآن، وهو بنقده للتجارب الدينية الماضية كان مرتكزه مبدأ الكلية البشرية في العقيدة دون نفي تعدد الشرعة والمنهاج وهما شرطي التنوع والتدافع المانع من الفساد في الارض والقهر الديني وما احوج الانسانية اليوم لهذا الطرح والعالم يتنادى للصدام الحضاري برا وبحرا وجوا.
يلاحظ الدكتور ان الذي حدث هو ان النخبة المثقفة متعينة في الفلاسفة قد أهملوا طبيعة الثورة القرآنية وهي بالذات ينسب اليها ثمرة الصدام بين التجربتين الدينية الحية التي هي بصدد التكوين الحي لمضمون الوعي الديني ولشكل أدواته النظرية والعملية. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، التجربة الفلسفية التي ضلت شبه غريبة ولم تندمج مع الواقع العربي الجديد الا عندما بلغ رقي التجربة الدينية الى درجة التفلسف في آخر لحضات فكرنا الحضاري (في بحث له درس الدكتور تجليات الفكر عبر مسار رحلة الدين بما هو نقل الى العقل ورحلة الفلسفة بما هي عقل الى النقل اي تنقيل العقل وتعقيل النقل عنوانه تجليات الفلسفة العربية).
هدا الاندماج والاكتمال غير واعيين بنفسهما وعيا يجعلهما مؤثرين بصورة تمكن من تجاوز الفكر القديم ببعده الديني الموروث من السنة التوراتية/الانجيلية وببعده الفلسفي الموروث من السنة اليونانية/اللاتينية.
من هنا تأتي اهمية الحاجة الى تحديد الوجه الثوري في اللحظة العربية/الاسلامية مع فلاسفة النقد، أعني بن تيمية وبن خلدون، ولما كان عملهما نقديا بامتياز دون الدخول في مهمة انجازية تفصيلية للبديل اي البناء (توجد لدى بن تيمية مجرد حدوسات وارهاصات، في حين لدى بن خلدون شبه أسس بناية لم تكتمل) فالامة دخلت في الانسحاب من الفعالية الحضارية في حين تراكمت الانجازات في الغرب وخاصة لدى الالمان.
ان البعد النقدي الساعي لتجاوز السنتين في النظر والعمل (في النظر: افلاطون/ارسطو وفي العمل: التوراة/الانجيل) هو العمل الثوري الذي ينسبه ابو يعرب للحضارة العربية/الاسلامية وهذا التأثير ليس وليد البعد المدرسي الارسطي المواصل للمضامين التي كانت معيقة عندنا وخاصة لدى التجربة اللاتنية والغربية، فلقد عاشت الحداثة معاناة الافلات من قبضة وهيمنة هذه المدرسة سواء باسم النظر، اي الفلاسفة، او باسم العمل، اي رجال الدين.
وهنا يستغل ابو يعرب هذه الملاحظة ليحرر القارىء العربي من زيف اكذوبة العبقرية الرشدية التي اثرت في الغرب حسب زعم الحداثيين عندنا.
ينبه دكتورنا ان كثرةالعقبات الناتجة عن ممارسات الماضي والحاضر في مجال الجدل الفكري لا ينبغي ان تحول دون الاقدام على العلاج الفلسفي بحسب قواعد الفن شكلا وبحسب متطلبات المرحلة مضمونا.
بمعنى آخر، لابد من شروط الدقة في التحليل والعمق وجدية الصياغة وفنياتها مهما تعارض كل هذا مع السائد من تقاليد عامية وكسل معرفي سببه دكاكين الايديولوجيا والاحزاب ولان المسألة المعنية بالنقاش هي علاقة النظر/العمل اقتضت علاجا ذو وجهين:
• وجه مجرد:
يتعلق بعلاقة النظر/العمل من جهة تاريخ صياغتها الفكرية التي حددت مقوماتها الفلسفية والدينية بصفة عامة ثم بصفة خاصة لتعيين ما تحقق بفضل اللقاء بالواقع العيني كما صاغته الحضارة العربية/الاسلامية ضمن مرجعيتها الفلسفية الميتافزيقية (المشائية/الاشراقية) وفي مرجعيتها الدينية الميتاتاريخية (الكلام/التصوف) على مدى قرون هي عمر هذه الحضارة.
• وجه مطبق:
يتعلق بعلاقة العمل بالنظر من خلال التحقق العيني لتلك الصياغات بوجهيها الديني والفلسفي وبحقبتيها الوسيطة والحالية في الوجود العمراني العربي /الاسلامي اذ سبق لهيجل ان كفانا مسالة البرهنة على انه لا معنى لفكر لا يتمظهر ويتعين ويتجلى في مؤسسات العمران المدنية والسياسية وقبلهما في اخلاق السلوك العام.
تخلص بنا هذه الرؤى اليعربية وهو يمهد لاشكالية العلاقة النظر/العمل الى ضرورة الوقوف بحزم ازاء المشاريع (وهي كثيرة وذات طابع أيديولوجي تحريفي) التي تتغنى بتقويمها للتراث الحضاري وهو تقويم كاذب وسطحي وغير علمي ويفتقد ابسط قواعد الموضوعية.
ان الحقيقة المرة التي يجب اعلانها ودون خجل، هو ان فلاسفتنا، بالمعنى الاصطلاحي للكلمة، وهم:
• الكندي
• الفارابي
• ابن سينا
• السهروردي
• ابن باجة
• ابن طفيل
• ابن رشد
• ابن عربي
• مولى صدر الشيرازي
كل هؤلاء لم يكونوا فلاسفة لا بالمعنى المدرسي ولا بالمعنى الكوني ( الاشارة هنا للتمييز الكانطي الشهير للمعنيين فالاول هو معنى موسوعي وهو علة التعلم والاتباع، في حين المعنى الثاني ينتهي بصاحبه للابداع والتفكير) كل هؤلاء وهذا عيبهم المشترك لم يفلسفوا الاشكاليات النظرية (النابعة من علوم الطبيعة) والعملية (النابعة من علوم الشريعة) وما بينهما من اشكالات في الاتجاهين( اثر علوم النظر في العمل واثر علوم العمل في النظر) وأصل هذا الكل الجامع الذي هو منزلة الانسان الوجودية بل ما قام به جميعهم تكرار ممل لنصوص عدت مقدسة تستوجب شروحات وشروح على الشروح هو المتن الموجود في المنهج التعليمي التقليدي الذي خلفته مدرسة الاسكندرية وشراحها.
هذا الموقف الصارم من ابي يعرب يعلم انه سيواجه باستنكار وسيتهم بوابل من رصاص يرتد على اصحابه طالما ان دكتورنا يواجه الكل بمجموعة من الاسئلة تحرج اصحاب المشاريع الوهمية وتصيبهم في مقتل.
يتساءل الدكتور كيف يمكن تفسير توقف فعل التفلسف عندنا من دون فهم بدايته الغير سوية والتي تتواصل الآن بصورة عجيبة؟
ان الخطأ الذي ارتكبه فلاسفتنا سابقا يكاد يتكرر بنفس الطريقة ممن يسمون زورا فلاسفة اليوم ويتمثل هذا الخطأ في التعامل مع النظريات الفلسفية كحكم في موضوعها ( وهي ذات العيب الذي انتبه له بن خلدون عندما نقد الفلاسفة في رؤاهم السياسية، هم لا يغيرون النظرية وانما يسعون حلما ووهما لتغيير الواقع بدعوى انه دون الحقيقة).
إن عدم وجود الابداع النظري والعملي لدينا سببه هذا العائق الابستيمي او هذا الموقف العفوي الذي هو سبب نكبة فلاسفتنا قديما وسبب نكبة وارثيهم حديثا: بدلا من تغيير النظريات لفهم الموضوعات العنيدة التي لا تتلائم معها، نتعسف ونكون محافظين ونتهم الموضوعات، اما النظريات فهي مقدسة وهي الحقيقة المطلقة، وحتى محاولة التجاوز التي سعت اليها بعض الاجتهادات الدينية والكلامية او الصوفية فهي دون الابداع لكونها وليدة الجدل العقدي او الجدل السلبي الفاقد لعملية البناء والتشييد لذلك ضل فكرنا الديني نقدا سلبيا للتوراة والانجيل دون بناء موجب اذ ان علماء الدين اساؤوا فهم القرآن ومنحوه قراءة توراتية (الكلام والفقه) او قراءة انجيلية (التصوف والعرفان ).
اما الفكر الفلسفي فكان نقدا سلبيا للارسطية والافلاطونية دون بناء موجب وذالك لذات السبب عدم فهم الثورة القرآنيةعلى مؤسستي كل فاعلية عمرانية: مؤسستي النظر او الاجتهاد الجماعي ومؤسسة العمل او الجهاد الجماعي.
كانت ثورة حقيقية اساؤوا فهمها وكانت عسيرة فأولوها بردها الى ما كانت تعترض عليه اثناء نقدها للتحريف واتخاذ الاحبار اربابا فتحايلوا واعادوا للامة السلطان الروحي والوساطة الروحية في المعرفة الدينية واعادوا السلطان المادي والوساطة المادية في العمل السياسي ولذا سيطر على الامة امراض الامم السابقة ربوبية زمانية وربوبية روحية (المرتزقة والعلماء).
لقد ضل فلاسفتنا قديما كما هو الحال في حاضرنا غرباء عما يجري في الواقع التاريخي الذي تصوروه دون ما تصفه النظريات التي خصصوا لها شروحهم فاعتبروها غير ذات معنى وتتطلب اما الغاؤها او الهروب منها والعزلة.
لقد حصر الفلاسفة قديما كما حديثا الفلسفة في مضمون معين يستحيل التنازل عنه ولئن كان للقدامى بعض العذر لان المناخ العام الابستيمي هو الحقيقة/المطابقة فاي عذر يمكن ان تلقاه لمن قرأ نيتشه او هيدجير او الفينومنلوجيا؟؟؟
لنكتفي بتأمل ما أنجزه اسلافنا ولنتساءل:
هل قام واحد منهم بعلاج علمي لظاهرات الطبيعة او الشريعة وما بينهما من نسب متبادلة في الاتجاهين؟
ام تراهم اكتفوا بتفسير وشرح النصوص وكانها كتب مقدسة؟
هل بحث واحد منهم في تجاوز شروط المعرفة القولية وشروطها الفعلية من خلال مباشرته للموجود لتعليله؟
هل قام واحد منهم بالتساؤل عن شروط التثبت من قصد صاحب الاثر المشروح او النظرية الموضوعة ام بقوا في مستوى الشرح اللفظي دون شرط تجاوزه؟
من منهم فلسف علم عصره وعمل عصره وذوق عصره وتقنيات عصره ومؤسسات عصره المدنية والسياسية والاقتصادية والثقافية كما فعل بن خلدون او جزءيا بن تيمية؟؟
من منهم اجتهد ووضع نظرية في الشعر او الخطاب او حتى الشرح مستقراة من عصرهما؟؟ علما وان من ابجديات الامور ان الشعر هو ديوان العرب؟ ومعجزة الاسلام هي نص لغوي؟ (طبعا خارج اختصاص الفلاسفة هناك اعمال).
هل تساءل أحدهم عن خصائص تاريخ الفكر والعمران في صلته بنظرية النبوة عله يتخلص من علم النفس الارسطي مضمونيا ومن تصانيفه للخطاب صوريا؟؟
من منهم مارس الما بعد الفلسفي من العلم الطبيعي/الرياضي كما كان بصدد الانجاز في لحظتهم وتاريخ العلم ينبؤنا بالكثير المنجز والمهمل من طرفهم؟؟
لقد ارتكب قدماؤنا حماقة وجرما: حققوا منابع الفكر بما زعموه تخليصا للممارسة الفلسفية القديمة وهي بزعمهم علما من الجدل الزاحف عليها من الخارج الديني اي انهم اعتبروا خيارات ارسطو من الفرضيات التي امتحنها في مقدمات تصنيفاته رغم ان زمنهم العلمي كان متجاوزا لهذه المقدمات وهو دات الخطىء الذي يفعله ادعياء الحداثة والتفلسف اليوم فتراهم يخلطون ولا يميزون بين حاجة فلاسفة الغرب ومجتمهم وحاجة مجتمعنا فاءستنساخ الوضعية وانباتها في بيئة تفتقر لتقاليد الابداع العلمي جريمة في حق الشعوب.
لقد اقتصروا على النتائج الجاهزة وهي منشورة في صحف ومجلات التقريب الجمهوري فتراهم يتأففون من التجريد العلمي والبعد عن الاشياء ذاتها بالمعنى الفينومنلوجي الهسرلي في مجتمع لم يغادر بعد المظاهر العفوية/الطبيعية.
تنبع اهمية المسالة: النظر/العمل حسب ابو يعرب من جهتين كما ذكرنا سابقا وجهي المجرد والمطبق سواء في الفكر الحضاري الكوني او العربي/الاسلامي ومما يجعل البحث فيه مغامرة غير مأمونة النتائج هو عائقين:

  1. الوضع الحالي للفكر وقد صنعته صور الفكر الفلسفي المنحطة وهم نخبة علمانية تدعي زورا وبهتاناخيار الحداثة وقصارى المامها بها ملخصات الدوريات والصحف الاجنبية ذات المنحى الجمهوري التقريبي وظنوها بخلاف ماهي عليه علما وفلسفة فنادوا بالقطيعة مع الاصول اليونانية والعربية في حين يتنادى اهل الحداثة اليها بل الى ما قبلها.
    كثرة المشاريع وكثرت النظريات وكلها تقرأ التراث وتتافف من التخلف والانحطاط وتتهم به الماضي الاستبدادي وهم يكررون نفس الخطىء والممارسة التي قام بها سلفهم مع فارق ان السلف بعي ويفهم مراجعه في حين هذا الخلف صم بكم وعمي.
  2. صعوبة التوجه للقارئ العربي بخطاب جدي وعميق فلسفي ونظري مجرد وهو متعود على نمط من القراءة او الكتابة التي تقول شعارات وتبني احلام وتفتعل معارك مع الماضي وحتى الحاضر.
    ضاع القارىء العربي وسط زحام المشاريع والتنظيرات والكل يدعي العلم والمعرفة الموضوعية حتى إذا حصل من ينادي بغير ما تعود عليه هذا القارئ اتهم وسخر منه ولم يتجشم أحد القراءة الجادة والحوار من اجل حاضر وغد يسعى الكل اليه.

تونس في 4/11/2018
الساعة العاشرة

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي