لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالنخب
ومن الفضيلة عرفان الفضل لأصحابه. فقد يظن الكثير أن تركيزي على شروط بناء المستقبل أني أقلل من قيمة ما حققه الاجداد حتى بعد الانقلابين. لو فعلت لكنت من ناكري الجميل. فلولاهم لكان مصير حضارة الإسلام وعروة الوحدة الروحية الوثقى لأصابها ما اصاب مسيحية أوروبا لتأسيس الأمم على القومية.
وكلنا يعلم أن هذه الظاهرة-الدولة ذات الأساس القومي-بدأت عدواها تسري في الحضارة الإسلامية بتأثير الثقافة الأوروبية الحديثة وكادت تكون النتيجة مماثلة لولا لطف الله وخصائص التاريخ والتنافس الدولي في عالم العولمة: اوروبا نفسها بدأت تتجاوز مفهوم الدولة القومية إلى ما يسمو عليها.
وهذا هو الفضل الذي أريد وأؤكد أني أريد صادقا الاعتراف به للأجداد رغم ما عبته على ما تلى عصر الراشدين من الانقلابين الروحي والسياسي وتحكيم القوانين الاستثنائية في حالة طوارئ دامت الى الأن: فلا توجد قومية من سنة الأمة لم يكن طموحها رمز وحدتها أي الخلافة: كانت طموح دول السنة كلها.
والأمر الثاني الذي ينبغي أن اعترف به للأجداد أنهم بشيء من الحدس غير الواعي تمام الوعي حافظوا حتى في الأقوال على نفس المثل العليا للحريتين الروحية والسياسية. وأقول غير الواعي تمام الوعي ليس بالمحافظة بل بعلتها التي حاولت بيانها بنظرية أبعاد الزمان التاريخي الخمسة.
فقد بينت بها أن الزمان التاريخي بخلاف الزمان الطبيعي لا يتألف من ثلاثة أبعاد (الماضي والحاضر والمستقبل فحسب) بل من خمسة: والعلة أن التاريخ ليس أحداثا فحسب بل هو أحداث في وجودها العيني والمادي وأحاديث حول تلك الأحداث في وجودها الذهني والروحي: ولكل منهما إيقاعه الزماني.
فالماضي أحداثه متقدمة على أحاديثه وهي تمضي ولا تعود ولا تتكرر لكن أحاديث الجماعة حولها لا تتوقف فتبقى حية إلى الأبد وهي سر التاريخ المديد بخلاف الأحداث التي هي سر التاريخ القصير. الماضي إذن منه ما يمضي ومنه ما لا يمضي. وهذا هو ما ندين به للأجداد نعم الامجاد.
والأعداء لا يحاربون الاحداث بل الأحاديث لأنهم لا يستطيعون تشويه الاحداث إذا لم يحرفوا الأحاديث. وتلك هي العلة في أن حربهم تستهدف اسمى حديث في حضارتنا -القرآن والسنة-لأنهما لا يقتصران على حديث حضارة بعينها بل هما حديث الحضارة الإنسانية روحيها وماديها وعلاقتهما بما بعدها الخلقي.
أما المستقبل التاريخي فأحاديثه متقدمة على أحداثه. وما يمكن أن تدين به الأمة للأجيال المقبلة يناظر ما تدين به للأجيال السابقة أعني أن يكون أنجازها على الاقل بحجم إنجاز الاجداد وقيمته ومنزلة الكونية: فبئس أمة دخلت التاريخ الكوني بثورتيها تتحول إلى محميات للأميين من العساكر والقبائل.
أما الحاضر فهو مرجل حياة الأمم: في الحقيقة كل ابعاد الزمان التاريخي الاربعة يحيط بها الحاضر لكأنه يمتد على الاقل في وعي الجماعة من بدايتها إلى غايتها باعتباره بؤرة الوعي التاريخي الذي هو ذو التفاتين حديث ماضيه يدفعه إلى التجاوز المنفصل وحديث مستقبله يدفعه التجاوز المتصل.
وقد يبدو الكلام على التجاوز المنفصل تنكرا للأجداد وهو في الحقيقة مبدأ قرآني هو سر الحريتين والإبداعين: فكلنا يعلم أن القرآن لا يتوقف عن ترديد حجج الجامدين لينهى عنها: هذا ما وجدنا عليه آباءنا. فيكون التجاوز المنفصل مطلوبا قرآنيا. فالأمة التي لا تتجدد تموت بالقشور التي تقتل البذور.
وذلك هو معنى التجاوز المتصل في الالتفات إلى المستقبل: ذلك أن بناء المستقبل يراعي أمرين. المحافظة على حياة البذور وهو مرجعيات الأمة التي بها صارت أمة ومراجعة ما تراكم عليها من قشور لإعادة انبجاس النبع الأول ومنه حيوية الامة وهو شرط تداول الأجيال وبه نعود إلى إشكالية الانتخاب.
وما وصفته بحالة الطوارئ التي دامت أربعة عشر قرنا وبالانقلابين اللذين سيطرا خلالها لم يحل دون التجديد في الأذهان لكنه حال دون ترجمته في الأعيان. فلا الغزالي ولا ابن تيمية ولا ابن خلدون -وهم عندي ممثلو التجديد بالمعنى الحقيقي للكلمة-تحقق مشروعه التجديدي بل بقي في مستوى الجدل الكلامي.
ولهذه العلة فالتجديد الآن يبدو شبه ممتنع لفرط ما تراكم من قشور حتى إن المجدد إن وجد قد يعتبر في قطيعة تامة بسبب عدد التجديدات التي كان ينبغي أن تقع(على الأقل أربعة عشر تجديدا إن قلنا بمبدأ مجدد في كل قرن) والتي ينبغي ألا يقتصر وقوعها على الاذهان بل لابد من اثرها في الأعيان ليقيم أثرها.
فإذا قبلنا بهذا المبدأ يكون كل رابع جيل ممثلا للحظة التغير النوعي في رؤية الجماعة لذاتها ولمنزلتها في العالم بمقتضى رؤيتها لمنزلتها الوجودية روحيا في ماورائه وفيه. فيكون الجيل الرابع جيل الالتفاتين المقومين للماضي والمخططين للمستقبل في الجماعة بالمنظور الذي ساد الفكر الإسلامي.
ولعل ابن خلدون قد راعى هذا المبدأ ولم يكتف بالاستقراء عندما قال إن الدول لا تدوم أكثر من أربعة أجيال وأن النسب لا يتجاوزها والقصد وحدة الرؤية التي تستنفد قوتها الحيوية في قيام الجماعة والتي تحتاج إلى التجاوز المنفصل (الذي يخلع القشور) بمنظور التجاوز المتصل (المحافظ على البذور).
لكأن الحضارة مثل الحياة -حياة الثعبان-يستبدل جلدته-نقول في تونس ينزع ثوبه-ليستأنف الحياة بعنفوان جديد يبقى على حيوية البذور ويخلع ما تراكم عليها من القشور. واليوم أصحاب المشاريع -ما أكثرهم وما أعلى أصواتهم-يشبهون ما عرفته الجاهلية من المتنبئين قبل نزول القرآن وحتى خلاله.
لكني أومن بأنه لم يعد بوسع أحد بعد الرسول الخاتم تقديم مشروع للإنسانية بديل من الكونية القرآنية. ذلك أن من يعرف تاريخ الاديان المنزلة والطبيعية يعلم أنها جميعها موجهة لأقوام الناطق باسمها إلا الإسلام. ولا توجد رسالة كونية تعترف بالشعوب والقبائل وتدعوها للتعارف غير رسالة الإسلام.
ولا يعنيني أن كان ذلك ممكنا أو غير ممكن أو كان حقيقة فعلية أو مجرد عقيدة إسلامية ما يعنيني أن مرجعية المسلمين تقول بها وتريد من المؤمنين بالإسلام أن يعملوا بمقتضاها. ولا أجهل أن الكثير ممن لهم سلطان بينهم يعملون بعكسها في الأغلب: لكن العولمة الروحية والسياسية الأولى قرآنية.