لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالنخب
سيرد علي بعض المصدقين لأكاذيب الكنيسة أن المسيحية تقول بالكونية الإنسانية. فلا يمكن أن اصدق كذب الكنائس وأكذب عيسى عليه السلام: فهو يقول بعظمة لسانه كما يقول اخوتنا في مصر-لا اعلم للسان عظما-إنه إنما بعث لنعاج إسرائيل الضالة جوابا على طلب امرأة استنجدت به.
ولا اصدق أكاذيب البوذية لأنها حتى في شعبها جعلت جله عبيدا مناجيس ومنبوذين لا يستأهلون اللمس مبدئيا وليس في الممارسة فحسب. ولم أعلم دينا أسس دولة قبل الإسلام بل كلها تأسست في دولة سابقة وخاصة اليهودية والمسيحية تحت الاستعمار وليس بالقضاء عليه مثل الإسلام: دين الحرية والتحرر.
وحتى إذا وجدت شواهد تناقض إطلاق هذين الحكمين فإن ذلك لا ينفي أنهما يمثلان الحالة الغالبة في المعلوم من الأديان المنزّلة (بإطلاق) والطبيعية (إن حصل التنسيب) ولست أورد ذلك للمفاضلة بل لبيان الفرق بين المشاريع الروحية التي انبنت عليها الحضارات المتنافسة حاليا حتى لو علمنت رؤاها الاصلية.
فالإيديولوجيات العلمانية لم تتجدد من عدم بل هي ترجمة علمانية انتقلت من الديني إلى الايديولوجي كما بيّنا في الكلام على فرعي الهيجلية يمنيها ويسارها وعلى وريثتيهما الاشتراكية والرأسمالية. والعلمنة هي في الحقيقة ترجمة إلحادية لدين العجل: فهي رؤية للبشرية بمنطق التاريخ الطبيعي.
لكن كاريكاتور التأصيل نفى هذا الأفق الكوني وجعل الإسلام دينا مثل الاديان الاخرى خاص بالمسلمين الحاليين في حين أن القرآن رسالة كونية تشمل المسلم بالفعل والإنسان عامة بوصفه مسلما بالقوة حتى وإن لم يعي ذلك وبقي غير مسلم بالفعل. ولعل السبب هو حال رد الفعل لأمة فقدت ثقتها بنفسها .
وكاريكاتور التحديث بحربه النفسية على شعوب الامة الإسلامية بعد أن صار أصحابه مستعمرين ذهنيا ركز على قيس الإسلام على اليهودية والمسيحية دون حتى أن يعطيه ما يعطيهما من تقدير واحترام جعل الإسلام -وخاصة عند بعض أعدائه من بقايا الصليبية والباطنية-دين بداوة وتوحش أي نقيض صفاته.
والصراع بين الكاريكاتورين جعل كاريكاتور التأصيل يحط من قيمتي الإسلام (الحرية الروحية والحرية السياسية) وثورتيه الكونيتين (الاخوة والمساواة) يؤيد بسلوكه الناتج عن الجهل بالإسلام وبقيم العصر التي هي دون قيمه كونية ما يقوله في الإسلام كاريكاتور التحديث: تشويه الاجتهاد والجهاد.
ولأعد الآن إلى قضية الانتخاب: سميته طبيعيا وبينت أن الانتخاب الثقافي يفسده بمنع بروز القدرات الفعلية لنخب الامة. تسميته طبيعيا لا تعني الانتخاب الطبيعي بالمعنى المطبق في علم الاحياء بل القصد ما ليس مكتسب من قدرات الإنسان وهو بالمصطلح الديني الاصطفاء. فالطبيعة أداة وليست الفاعلة.
فالرسول الخاتم من مميزاته أنه كامل في المقومات الخمسة: ويكفي دليلا على كمال إرادته رده عمن أراد رده عما أراده من تبليغ الرسالة. ويكفي دليلا على كمال علمه ما مكنه من تحقيق ما اراد. ويكفي دليلا على كمال قدرته أن استطاع توحيد فتات العرب والبشرية ويكفي دليلا على كمال حياته ذوقه المثلث.
فذوقه المثلث (الصلاة والنساء والعطر) أكبر دليل على أن الحياة عنده هي العبادة (رمزها الصلاة) وسر الحياة المتعين في اسمى عبارات الجمال (رمزها المرأة) وفي ذائقة حضورها (رمزها العطر) وأخيرا فهو المبلغ للرؤية الوجودية (القرآن) والمعلم للبشرية قولا وفعلا (السنة).
وهذا المثال الأعلى لبناة الحضارات ومؤسسيها. لكن الحضارة لا تحتاج بعد الرسول الخاتم لتعين هذه الوظائف في شخص واحد مصطفى بل هي تحتاج إلى الاصطفاء الموزع على النخب في الجماعة: من تغلب عليه الإرادة (سياسي) أو العلم (عالم) أو القدرة (اقتصادي) أو الحياة (فنان) او الرؤية (دين وفلسفة).
وسأخصص بقية هذا الفصل الاخير لما سميته هرم النخب وعلاقة وظائفها بقيام الأمم السوية التي تكون نخبها مسماها مطابق لاسمه عندما لا تفسد في الجماعة معاني الإنسانية. أما إذا فسدت فالسياسي يصبح تاجرا والعالم إيديولوجي والاقتصاد سمسار والفنان مهرج وصاحب الرؤية داعية للمستبد والفاسد.
والهرم مستخرج من القرآن الكريم وليس من خيالي: فقاعدة الهرم هي الفروع الاربعة اي الإرادة والعلم والقدرة والحياة وقمته هي الأصل أي الرؤية الوجودية سواء كانت بصيغة دينية أو فلسفية (وهما نفس الشيء من حيث الجوهر وإن اختلفا من حيث الشكل).والجوهر هو القيم الخمس منشود هذه المقومات.
فمنشود الإرادة الحرية (أو التحرر من الضرورة) ومنشود العلم (الحقيقة أو التحرر من الباطل) ومنشود القدرة (الجلال أو التحرر من المذلة) ومنشود الحياة (الجمال أو التحرر من القبح ) ومنشود الوجود (البقاء أو التحرر من الفناء): وكلها تمثل انشداد الإنسان لمثاله الاعلى: الله.
وهذا الازدواج في كيان الإنسان هو كونه خليفة أو جسرا بين الوجودين الأول والأخير أو بين الدنيا والأخرى. فالعالم كله مهما اتسع وتواسع يبقى سجنا لروح الإنسان ولا يوجد أحد يكتفي به وخاصة من يدعون الإلحاد: يطلبون الفرار منه بكل المخدرات الممكنة طلبا لأخرى ذهولية يسميها باسكال لهوا.
وقمة الهرم -الرؤية الوجودية التي تتأسس عليها الجماعة-إذا تحولت إلى مضمون تربيتها (اساس الوازع الذاتي بلغة ابن خلدون) وحكمها (أساس الوازع الاجنبي بلغة ابن خلدون)تساعدها على اكتشاف معايير الانتخاب في نشئها فتمكنهم من تنمية ما لديهم من مواهب لعلاج علاقتيها العمودية والافقية: الانتخاب.
فتكون أول نخبة هي نخبة الرؤى الوجودية دينية كانت او فلسفية ثم بقية النخب الاقرب فالاقرب:
نخبة الإرادة لتحقيق ما آمنت به من هذه الرؤى
ثم نخبة العلم لعلاج العلاقة العمودية (بين الجماعة والطبيعة) لحل مشكلات المعاش والمقام ولعلاج العلاقة الأفقية (بين البشر) لتنظيم حياة الجماعة
ثم نخبة القدرة وهي التي تحقق الانتاجين المادي (الاقتصاد) والرمزي (الثقافة) لتموين الجماعة بدنها وروحها
وأخيرا نخبة الحياة وهي التي تعالج ما سماه ابن خلدون بالأنس بالعشير في حين سمى التي قبلها بسد الحاجات. وهذه الوظائف كلها فروض كفاية تتوزعها النخب وهو توزيع العمل الاصلي.
وكل هذه الوظائف لا تمييز فيها بين الاعراق والطبقات وخاصة بين الجنسين: فكل وظيفة يمكن أن يكون الأقدر عليها رجلا أو امرأة أبيض أو أسود مسلم أو غير مسلم. وهي مواهب فطرية لها علامات بدنية وخاصة روحية أو نفسيه هي يتجلى فيها المقوم الغالب على شخصية صاحبها.
وكما أسلفت فإن وظيفة المؤسسة التربوية السوية -حسب أفلاطون وهذا صحيح دائما-ليست التكوين فحسب بل وكذلك الانتخاب أي إن التكوين يكون بمقتضى الانتخاب الهادف إلى تجهيز الجماعة بالكفاءات التي تحقق ما ذكرنا من الوظائف التي بدونها تكون الأمة عاجزة عن الحماية والرعاية وتابعة لمن حازهما.
والأمم تنحط أو تفسد فيها معاني الإنسانية بلغة ابن خلدون عندما تنعكس المنشودات. فيصبح منشود الرؤية التبعية والتقليد ومنشود الإرادة الضرورة لا الحرية ومنشود العلم الباطل لا الحقيقة ومنشود القدرة المذلة لا العزة ومنشود الحياة التهريج لا العنفوان: تلك هي علامات الخسر السفلى.
عندئذ يصبح صاحب الرؤية تابعا لسيد والسياسي تاجرا يهمه حسابه في بنوك سويسرا والعالم إيديولوجي يطبل للسياسي المسيطر والاقتصادي سمسار ماديا ورمزيا والفنان مهرج كما نرى ذلك في كل فضائيات العرب الذين لا يرون الحضارة مقلوبة يقبلون على ترف من بنوها دون المشاركة في بنائها.
وللمرة الألف اعتذر للقراء: فلا شيء من الحقيقة ببسيط أو مباشر فيقبل العرض البسيط والمباشر. كل حقيقة تتحدد بشبكة علاقاتها بغيرها من الحقائق التي لا يمكن فهم أي منهما من دون تتبع سداها ولحمتها في نسيج الكيان الجمعي في الأعيان وصورته في الاذهان وذلك ما علمتنا إياه حبكة القرآن.