لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالنخب
وما هو أبلغ من نصيحة افلاطون هو نظرية ابن خلدون في شروط “صلاح معاني الإنسانية” أو في علل “فساد معاني الإنسانية” الذي بينا من خلال دراسة التطور الحقوقي والخلقي لحضارة الإسلام علاقته بالانقلابين الدستوريين في المعرفة والتربية وفي العمل والحكم على الحريتين القرآنيتين الروحية والسياسية.
وما وضعه ابن خلدون من تعليل لفساد معاني الإنسانية يفهمنا علاقته بالانقلابين الدستوريين المعرفي والسياسي منذ الفتنة الكبرى وحالة الطوارئ التي امتدت منذئذ وتعطيل للدستورين القرآنيين اللذين تأسسا على الحرية الروحية (لا وساطة بين الله والإنسان) والسياسية (لا وصاية على امر الأمة).
فالحريتان الروحية والسياسية هما ما يسمح للانتخاب الذي وصفنا أن يبرز الميول التي بها تصنف النخب والتي وظيفة التربية والحكم تنميتهما وتوظيفهما في كيان الأمة لتحقيق شرطي سيادتها أو حريتها الخلقية والسياسية داخليا بين مكوناتها وخارجيا في نظام العالم: الحماية والرعاية الذاتيتين.
فتكون وظيفة التربية والحكم المتحررين من العنف شرط صلاح معاني الإنسانية التي تتعين في الفرد إيمانا وعملا صالحا وفي الجماعة تواصيا بالحق وتواصيا بالصبر. والدستور القرآني وتطبيقه السني يؤكدان على الحريتين الروحية والسياسية في الدنيا برمز تسجيل الأفعال وفي الآخرة برمز فردية الحساب.
والعمل بهذه الشروط يتبين في نظام توالي الأجيال وتوزيع الاعمال في تمثيل ارادة الجماعة وعلمها وقدرتها وحياتها ووجودها.
خذ مثال تونس. فما حدث هو النفي التام لتجدد النخب. فالطبقة السياسية التونسية لم تتجدد منذ ستين سنة لم يحكم باسم الحداثة وعلى الاقل أربعين سنة لم يعارض باسم الإسلام.
وتونس ليست بدعا بين العرب. فلعلها افضل من غيرها. جل النخب العربية بأصنافها الخمسة التي ذكرنا لم تتغير طيلة نصف القرن الماضي وخمس القرن الحالي. ولذلك فلا علاقة لهم بما يجري في مياه مجتمعاتنا العميقة وليس لأي منهم مشروع مستمد من شروط القيام الحر فالتبعية تضاعفت بعد ما يسمى استقلالا.
والعلة هي علة فساد معاني الإنسانية بالاصطلاح الخلدوني العلة التي أوقفت عمل الانتخاب الطبيعي المحافظ على التناسب بين الوظائف ومن يؤديها حتى تكون معبرة عن إرادة الامة وعلمها وقدرتها وحياتها ووجودها في تناسب مع المحددات الظرفية التي تساوق التغير التاريخي الدائم في العالم.
خد مثال الحلول الغبية التي تلجأ لها الأنظمة العربية ظنا منها أن ذلك يحقق شروط بقائها فإذا هي بما تتوخاه من حلول لشروط البقاء تقضي على الوجود: فعندما تزرع في بلادك قواعد لمن تتصوره يحميك فهو في الحقيقة يؤسس لما يحمي به مصالحه عندك بصورة تصبح عاجزا عن حماية مصالحك حتى في وطنك.
هل يوجد عاقل يمكن أن يتصور أن فرنسا أو أمريكا أو روسيا أو تركيا أو إيران يمكن أن تعمل جيوشها كمرتزقة لحماية زيد أو عمرو؟
أنت تستدعيهم ليحموك بشرط أن تسمح لهم بأن يستعمروا وطنك وشعبك فيساعدوك على استبداد شعبك وفسادك خدمة لمصالحهم لا غير وقد يستبدلونك.
ولن يجدوا صعوبة في استبدالك لعلتين: أولا كل النخب صارت تعرف من أين تؤكل الكتف فيتحولون إلى مرشحين لديه ليكون بديلا منك -عمالة المعارضات العربية لا تختلف عن عمالة الحكام إلا بالأقوال-وثانيا لأنه أول من يعلم أنك عديم الشرعية وإلا لما احتجت إليه ليحميك من شعبك.
ولعل ما يجهله الكثير هو أن هذه الظاهرة ليست بنت اليوم: فابن خلدون يذكر أن الحكام في بلاد الإسلام يحيطون أنظمتهم بحامية من المرتزقة الأجانب لعدم الثقة في شعوبهم. والامر اليوم صار بينا: وله وجهان. الحماية والاستشارة. فالبلاك ووتر وما جانسها للحماية وبلير وقبله لاورنس للاستشارة.
ولا يظنن أحد أني أعرض بالخليج فما أقوله ينطبق على كل العرب من المغرب الاقصى إلى المشرق الأقصى بلا استثناء. وجل المستشارين صهاينة وجل الحماة مرتزقة. بعضهم مشهود لكن الموجود ليس كله من المشهود. ولعل المشهود سيفضح الموجود غير المشهود وهو ما حققه الثورة على الاقل في سوريا واليمن.
ولولا ما كان موجودا غير مشهود في سوريا مثلا لما بقي الأسد أكثر مما بقي حكام مصر وليبيا واليمن بعد الثورة. لكن بقاء الأسد بيّن أنه مدين به للغطاء الإسرائيلي في تغاضي الراي العام الدولي والغطاء الإيراني في صمود مليشياته والتدخل الروسي والأمريكي بعد انتصار الثورة على الغطاءين.
أعلم أن ما أكتبه هنا قد لا يبقي لي صديقا من الماء إلى الماء. لكني أفضل صداقة السماء على أكاذيب ما بين الماء والماء. فلست أدري أي معنى لما يظن دولا وما لأي دعي من حكامها من سلطان يفوق سلطان أدنى بلدية في دولة سيدة من الدول التي أهلها فهموا معنى الحرية الروحية والسياسية.
من يعتقد أن أي حاكم عربي له سلطان وسيادة تفوق سلطان أي وال في الولايات المتحدة فليتحداني. كل ما في الامر أن العرب يفضلون إمارات الطوائف التي اضاعت الاندلس على كيان ذي أهلية تحقق شروط الحماية والرعاية للجميع ويكون الجميع سيدا في ما ولته الامة عليه بحرية ليكون ممثلا لإرادتها.
لا شيء يذكرني بالهزليات المسرحية أكثر من قمم المحميات العربية: طراطير يلتقون ليتعنتر بعضهم على البعض وكلهم يعلم أنه تحت حماية سيد لم يعد احد يجهله وخاصة بعد الثورة التي بينت أن أكثر العرب تعنترا هم أقلهم سيادة وتبعية لإسرائيل وإيران ومن ورائهما من القوى الكبرى ذراعين لها.
ولا شيء يضحكني أكثر من تنابز الأنظمة ونخبها من مليشيات القلم بتبادل التهم بالتطبيع مع إسرائيل أو مع إيران: كلهم مطبعون بلا استثناء والمعارضات أكثر من الحكام لأنها تعلم أنها تعارض بالترشح للبديل عن الحاكم إذا لم يعد حاصلا على رضا حاكمه. ومعيار التمييز بينهم سهل.
وهو يدور حول الموقف من قيم الإسلام ودوره في التاريخ: فالحكام باسم الحداثة يحاولون إثبات امتثالهم لقيم الحامي بما يقومون به من”تحديث” للدلالة على الولاء. والمعارضون باسم الإسلام يقدمون أوراق اعتماد ترشحهم بما يتفصون منه بالتدريج من قيمه بدعوى الوسطية والانفتاح وسخافة فقه الواقع.
فيكون “الواقع” بهذا المعنى هو شروط إرضاء الحامي بالفعل للحاكم والحامي بالقوة للمعارض ولا علاقة له لا بواقع شروط السيادة حماية ورعاية ولا بواقع حريات الفرد والجماعة بل بواقع ما يسمونه “الإكراهات السياسية” فيصبح فعل النخب مقصورا على التنافس على الكراسي دون مشروع أو طموح سيادي.
والدلالة الوحيدة لهذه الظاهرة هي أن الجميع لم يعد له ما يبيع عدا التنازلات على مقومات روح الأمة نفسها: وهو ما يشبه الوضعية التي تقصها رواية من طالب بما تركه أمانة عند خائن الامانة. جواب الغرب حماتهم هو: والله لو نزعت جلدك ما عرفتك. فليتنازلوا ما شاءوا سيزداد حاميهم احتقارا لهم.
ذلك أن السائل الذي لا يتوقف عن مد يده ليبقى في الحكم أو ليصل إليه في الحماية والرعاية لا يمكن أن يحترمه أحد مهما تطاول على شعبه وتظاهر بأبهة الدولة التي هي اقل من محمية أو بلدية في بلد اهله يحترمون أنفسهم ولا يقبلون أن يعيشوا على صدقات من فضلات ما نهبه حامي نظامهم من ثرواتهم.
وبهذا المعيار ومن منطلق مقومي السيادة حماية ورعاية أميز بين الثوار بحق وبين الطامعين في أن يكونوا بديلا من الحاكم الحالي لعل الحامي يغضب عليه فيستدعيهم-وتلك علة نفاق سوق السفارات لدى النخب السياسية-لحكم نفس المحميات بنفس الشروط: ما لم تكن الثورة سعيا لشرط السيادة فلا أهلا ولا سهلا.
وشرط السيادة صنفان: الأول استرجاع الاحياز التي هي شرط ضروري وكاف للحجم القادر على تحقيق شروط علاج العلاقتين العمودية والافقية في عصر العماليق (والاول شروط العلم المبدع للسلطان على الطبيعة والثاني شروط البحث العمل المبدع للسلطان على الشريعة): فقدنا السلطانين بما جرى للأحياز.
والثاني هو ما حاولت الكلام عليه اليوم: الانتخاب الطبيعي الذي يمكن من توزيع العمل في مقومات قوة الأمة وعنفوانها بفضل تربية وحكم تجعل الرجل او المرأة المناسبين في المكان المناسب حتى تتحقق للامة شروط الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود الضرورية للسيادة والندية في العالم.