لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالنخب
فيم تتمثل قوة الامم وشروط السيادة أعني الحماية والرعاية الذاتيتين؟
أشرت إلى عاملين أحدهما هو الاحياز الخارجية والثاني هو مقومات الذوات الفردية الذين تتألف منهم مقومات الجماعة التي تحدد فاعلية التعامل مع الاحياز لجعل الامة هي بدورها لها هذه الصفات وكأنها ذات فردية في نظام العالم.
فكل استراتيجية عدوانية وكل استراتيجية دفاعية مبنية على التعامل مع هذه المقومين لسيادة الأمم: أحيازها الخمسة (مكانها وزمانها وثروتها وتراثها والمرجعية الروحية التي توحد بينها) وعلى نخبها الخمس (نخبة الإرادة ونخبة العلم ونخبة القدرة ونخبة الحياة ونخبة الوجود)أي فاعليتها غاية وأداة.
همي بيان الاستراتيجية العدوانية التي أوصلت الأمة إلى شلل كل وظائفها ككيان قادر على القيام المستقل بسبب ما حصل لأحيازها ولوظائف نخبها التي لم يبق منها إلا الأسماء دون مسمياتها: فصاحب الارادة مسلوبها وصاحب العلم مقلد وصاحب القدرة سمسار وصاحب الحياة مهرج وصاحب الرؤية أعمى البصيرة.
أما الاحياز فالمكان فتت والزمان شتت والثروة بددت والتراث شوه والمرجعية هي التي يتناهشها الجميع حتى يرضي الحاكم حاميه بالفعل ويرضي المعارض بالقوة بديلا ممكنا من الاول ومع كل منهما مليشيات القلم التابعة له وسمساريه ومهرجيه ودجاليه من أصحاب الرؤى التي تبرر كل ما يريد بالنقل والعقل.
فبدن الامة هو أحيازها الخمسة وروحها هو نخبها الخمسة فإذا فقدت وحدة بدنها الكافية لقيامها بشرطي السيادة حماية ورعاية وفقدت وحدة روحها التي هي سر فاعليتها وحمايتها من التحول إلى كائن منفعل بدلا من أن تكون كائنا فاعلا فالأمة تصاب بما سماه ابن خلدون “فساد معاني الإنسانية” فتصبح عالة.
فانظروا إلى مكان الامة: كل قبيلة وكل حامية عسكرية تحولت إلى ما تسميه دولة وهي في الحقيقة محمية وقد اكتمل ذلك خاصة في الحرب العالمية الثانية عندما حولت انجلترا وفرنسا وروسيا وبقية الامبراطوريات الاستعمارية بلاد الإسلام إلى محميات وضعت عليها رؤساء قبائل لا دين لهم ولا ملة.
وانظروا إلى زمان الامة: فكل محمية صارت تبحث عن شرعية تاريخية لا صلة لها بالإسلام بل هي إما مستمدة مما قبله أو مما بعده وأصبحت كل قبيلة تدعي أنها امة حتى لو كان عدد سكانها دون عدد سكان قرية في ما يقبل أن يعتبر أمة. ويكفي دليلا أسماء الشهور. جلها ما قبل إسلامية أو ما بعد إسلامية.
وأنظروا إلى ثرواتها: فمثلا الناتج القومي الخام لتونس لا يكفي حتى لبناء نظام تربوي جدير بهذا الإسلام لأنه لا معنى لتربية ليس لها ما يكفي للبحث العلمي في مستواه الراهن أعني العلم الذي يمكن من سد الحاجات وغزو الفضاء ومعرفة أسرار الطبيعة والتاريخ لعلاج العلاقتين العمودية والافقية.
وانظروا إلى تراثها: صارت القبائل التي لا تاريخ لها تدعي انها ذات تراث عندما تجمع نماذج منه لا يملأ غريفة في أي متحف محترم. ذلك أن تقاسم التراث الذي أنتجته حضارتنا سيجعل فتات الامة من أفقر الشعوب مهما كذب على نفسه وجمع بالي ما تقدم على حضارتنا وما تأخر منها فضلا عن موت أثره الحي.
وأخيرا انظروا حال المرجعية الإسلامية قرآنا وسنة.
جعلوهما هدف التصويب في تعلم الرماية عند بلداء الجيوش والقبائل ونخب كاريكاتور التحديث وكاريكاتور التأصيل. كلهم لم يبق لهم إلا بيع نتفا تأويلية من هذه المرجعية في أبشع صور يمكن أن تستمد مما يسقطه عليها أعداؤها من داخلها وخارجها.
وما حصل للنخب أسوأ بكثير مما حدث للأحياز: فمن ينتخب ليس الامة التي تربي مواهب أبنائها بعد أن تكتشفها لتكون ممثلة لإرادتها وعلمها وقدرتها وحياتها ووجودها بل من أعدائها ومن نصبوهم عليها حتى يعكسوا قانون الانتخاب فيرفعون الأدنى ويحطون الأعلى حتى تصبح التبعية بنيوية في كيان الجماعة.
ولأشرح هذا العامل فهو الأهم في الاستراتيجيات الاستعمارية: فنخبة الإرادة أي جملة الافراد الذين يغلب عليهم نازع ارادة الاحرار الساعين لمقاومة شروط الاضطرار هم من يمثلون عادة إرادة الامة وطموحها ورمزهم الابطال الذين يذكرهم تاريخ الامة لما برز لدهم من عمل في هذا الدور السياسي.
وهؤلاء هم عادة من يركز العدو على استبشاعهم سواء كان من الداخل أو من الخارج: انظر الموقف الباطني من الصحابة الذين بنوا دولة الإسلام الأولى وخاصة من معاوية وكبار خلفاء الدولة الاموية مثل عبد الملك بن مروان ثم لاحقا من كبار تحرير الأمة من المغول والصليبية وكبار الفاتحين.
وقد طال الاستبشاع الرسول نفسه. وعندما تسمع الدجل الحالي في مصر العميل السيسي والحط من رمزية صلاح الدين الأيوبي مثلا تفهم أن الحرب على الرموز النخبوية التي تمثل اساطين الوعي الجمعي مثلها مثل الجبال التي تشاركهم اسم الأعلام تفهم ابعاد استراتيجية الأعداء ومشاركة البلهاء فيها.
ماذا اعني بمشاركة البلهاء: لا احد ينكر أن الصحابة بشر وأن الأبطال بشر وأنه يصح على ناقديهم ما قاله هيجل عن خادم الغرف ورأيهم في الابطال. فهو يرى منهم ما يشاركون فيه كل البشر يأكلون ويضرطون ككل البشر لكن ذلك لا معنى له في الكلام على دورهم كأبطال يجهله الناقد بمنطق خادم الغرف.
لست ضد نقد أي كان بمن فيهم النبي نفسه إذا كان القصد النقد العلمي وليس نقد خدام الغرف الذي يحقرون من البطولة لأنهم لا يفهمون معنى الرجولة أو لأنهم فاقدون للفحولة في تاريخ الامم التي تبني أمجادها على رموز هي المعين الخلقي لتربية أجيالها على الطموح والعزة. هذا في الإرادة والطموح.
يكلفون أحقر نخبك للتحقير من أعظمهم فيصبح القمني مثلا ناقدا ومفكرا ومثله القصاص السخيف الذي يحقر من صلاح الدين وينفي حتى وجود القدس في فلسطين ليس خدمة للحقيقة التاريخية بل لأهواء عملاء إسرائيل وإيران لأن صلاح الدين هو قاهر الباطنية الذي قضى على دولتهم حليفة الصليبيين.
ونأتي الآن إلى نخبة العلم والنظر في الطبيعة والتاريخ وما بعدهما. ستجد سخفاء المفكرين يدعون أن الغزالي ظلامي وأن ابن تيمية إرهابي وأن ابن خلدون لا يشفع له عندهم إلا ما ظنوه ماركسيا أو كونتيا في عمله وأن اقوال الباطنية والصوفية والمعتزلة عقلانية لجهل مدقع بمعنى العقل والعلم والفلسفة.
وكم عانيت من سطحيات هؤلاء المفكرين المزعومين الذين هم باعة روبافاكيا وليس لهم من مفهوم العلم والفلسفة والعقل أدنى مقدار: فمن ثور الفكر الفلسفي الإسلامي (الغزالي) ومن تجاوز ارسطو في النظر (ابن تيمية) ومن تجاوز أفلاطون في العمل (ابن خلدون) اعتبر أدعياء الحداثة الكلام فيهم ماضوية.
ولو لم أكن مختصا في الفلسفة اليونانية وفي الفلسفة الغربية الحديثة لانطلت علي ثقافة الجرائد عند نقدة التراث ممن يتصور عموميات مجلات التقريب الجمهوري علما أو فلسفة أو دلالة على العقلانية النقدية الحديثة التي لا يمكن ان تقبل بوصف فكر المعتزلة أو ابن رشد أو الباطنية بالعقلانية.
وهاهم يرون الآن أن الغرب نفسه بدأ يدرك دور الغزالي وابن تيمية وسفه تخريفهم حول ظلامية الغزالي وإرهابية ابن تيمية وبين خاصة أنهم لم يكونوا مؤهلين للغوص في ثورة الرجلين التي لو أدركوها لما حقروا من أكبر مفكرين عرفتها المرحلة الوسطية التي تجاوزت القديمة والوسيطة بتباشير الحديثة.
والهدف بالإضافة إلى بعده المعرفي وأمانته العلمية في عرض تاريخ دور حضارتنا هو تمكين شباب الثورة بجنسيه من عدم الوقوع تحت سيطرة العقد التي يراد زرعها في نفوسهم وبيان شروط الاستئناف الطموح لاستعادة دور الأمة بوحدة أحيازها وبنظام تحديد النخب بمنطق الفاعلية الطبيعية في الجماعة.