النخب، نظام الانتخاب شرط العنفوان الوجودي – الفصل الاول

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله النخب

الفصل الأول

كلما قلت شيئا في النخب لهم أو عليهم وكثيرا ما يكون قولي عليهم لا لهم تبادر إلي الكثير سرا أوعلنا لسؤالي: وأنت من أي نخبة إذا كلامك فيهم مقذعا؟ وقد أجبت بأني لا استثني نفسي وكنت أعلم ألا أحد يصدق جوابي إذ ليس من عادة الناس تصديق من يذم نفسه لاعتقادهم بأنه ينافق ويتظاهر بالتواضع.

لا بأس سأصدق تكذيبهم لي وأواصل الكلام في النخب ولكن ليس فيهم بل في نوعي الانتخاب الذي يمثل النسبة بينهما سر كل الصراعات العملية الاجتماعية والقيمية  والنظرية الدينية والفلسفية. فالبيّن أن البشر ليسوا كيانا عضويا وإن تماثلت وظائفهم على نفس القدر من القوة البدنية والفكرية والوسامة.

ومهما نسبنا هذا التمايز بينهم بأن تكلمنا على ما يضيفه المتكسب للبدن العضوي والفكري (الغذاء والتكوين عند الأثرياء غيره عند الفقراء) فإن الفوارق العضوية التي تخضع للوراثة البايولوجية تبقى مؤثرة والمكتسب لا يتحول إلى موروث عضوي كما هو  معلوم على الأقل في المدة القصيرة من الحياة.

ذلك أني لا أنفي أن يكون المتكسب ربما قابلا للتحول إلى وراثي في المدة الطويلة وإلا لاستحال وضع نظرية التطور رغم أنها لا تتكلم على المكتسب اختيارا بل على ما يمكن أي يعتبر من الصدف السعيدة أو الشقية في كيان الحيوان العضوي فيجعله يصبح  الغالب ليبقى أو المغلوب ليزول.

ولعل منه ما به يمكن تفسير انقراض بعض الشعوب التي تكثر من التزاوج الداخلي أو خلفها كالحال مع اليهود ربما بسبب التزاوج الداخلي لعلل دينية (وهم شعب الله المختار) واقتصادية (الخوف من خروج الثروة). كما لعله هو ما يفسر اختلاف الابدان من حيث الحجم والوسامة دون الألوان التي نعلم علتها.

فرضيتي الأولى أن هذا الانتخاب الطبيعي (بالمعنى الذي شرحته وليس بمعناه في نظرية التطور) يؤسس لانتخاب متقدم على الانتخاب الثقافي والاجتماعي  يحدد الصفات الأساسية التي منها يبدأ توزيع العمل في المجتمعات البشرية وهو النوع الثاني من الانتخاب الذي يتدخل فيه الثقافي والاجتماعي.

فلو انطلقنا من هذا التمايز العضوي الأصلي والاساسي في كيانات الأفراد مع ما ينتج عن الوجود المشترك من الأحكام  المتبادلة بينهم على ذاوتهم وعلى غيرهم لوجدنا أول سلم تفاضلي سيزداد حدة بالعالم الثقافي من الانتخاب الموالي الذي غالبا ما يحاول أصحابه إلي الإيحاء بأنه هو بدوره طبيعي.

ولهذه العلة ينبغي أن نميز بين نوعين من العنصرية أحدهما مبني على التمايز البدني وما فيه من عوامل لا تقبل الرد إلى الثقافي (مثل الوظيفة الانجابية بين المرأة والرجل التي تتحول إلى عامل انتخاب في الوظائف الاجتماعية والتي لا أصل لها في العضوي) والثاني مبني على التمايز الطبقي.

لكن التمايز العضوي – إذا ما استثنينا دور القوة البدنية وربما ما يترتب عليها من تقييم جنسي- هو بدوره يخضع لتضخيم بما ينضم إليه من أحكام ثقافية صارت سارية كدعوى القوة الرياضية والجنسية عن ذوي اللون الأسود من سكان المعمورة أو وهم العرب أنهم أقوياء جنسيا رغم لجوئهم للسحر قبل الفياغرا.

ما يعنيني هو محاولة تحديد النوع الأول من الانتخاب الذي لا يمكن رده للثقافي مهما تعسفنا والذي له دور كبير في ما لا يستطيع الثقافي محوه رغم أنه -وإن غلب عليه الظلم في هذه المحاولة- قد يعدل من طغيان الانتخاب الثقافي أو الناتج عن الفروق الاجتماعية والاقتصادية ودور السلطة فيه.

ذلك أني أعتبر أن الأمم تفقد سر قوتها وعنفوانها عندما يصبح تقسيم العمل في الجماعة خاضعا للمعايير الاجتماعية الاقتصادية التي تفرضها ثقافة الطبقة الغالبة على تداول الاجيال في تحقيق شروط بقائها وتجدد قواها الحيوية بسبب الجمود الناتج عن وضع الناس في المواضع التي هي الأقدر عليها.

فبهذا العامل أفسر ما عليه حال الامة في مسألة الانتخاب أو تحديد النخب ودورها في الجماعة: ما تكلمت عليه في الانقلابين الدستوريين السياسي والمعرفي جعل السلطتين السياسية والعلمية في المجتمعات العربية هي التي تفرض الانتخاب بغير ما تقتضيه المؤهلات الطبيعية وتكتفي بالعناوين الطبقية.

ونتيجة ذلك أن تقسيم العمل يصبح وراثيا وليس بمقتضى المؤهلات والقدرات التي تمكن الجماعة من تجديد عنفوانها ذي الأساس الاول الذي أحاول بيانه أو الانتخاب الطبيعي بالمعنى الذي عرفت: ويكفي مثالا دور الجيش في مصر وهو علة انحطاطها الحالي لأن كل وظائف الدولة توزع بالتوريث وليس بالكفاءة.

ولم أذكر مصر لكون ذلك خصيصة لها بل الظاهرة تعم كل بلاد العرب بل كل المجتمعات الإنسانية ولكن في الغرب -بسبب فهمهم ضرورة وضع الإنسان المناسب في المكان المناسب طلبا للنجاح-تقل هذه الظاهرة. لكنها عندنا هي المسيطرة وخاصة بعد أن تتجاوز الجماعة الوفرة في التقسيم الثاني.

مثال ذلك أننا في تونس كان يمكن لأبناء الفقراء أن يصلوا إلى أرفع المسؤوليات لأن تونس كانت بحاجة إليهم وليس لأبناء العلية من القوم ما يكفي لسدها. ولكن بعد عقدين بدأ الانتخاب الثقافي والاجتماعي بقوة العامل السياسي والوصولية وتفضيل القريب على البعيد يصبح هو المسيطر في البلاد.

ولعل الظاهرة تصل إلى ذروتها في الدول العربية التي ما تزال فيها القبلية ذات دور بارز خاصة إذا كانت ملكية أو أميرية أو مشيخية إلخ….. ففيها ما يزال المجتمع خاضعا لعصبية الدم والتنافس بين القبائل التي تتصارع على راس الدولة وفيها من الانقلابات ما يضاهي الأنظمة العسكرية العربية.

حان الوقت لبيان هذا الانتخاب الطبيعي الذي لا يمكن تصور جماعة قادرة على البقاء إذا لم تحافظ عليه: وهو غير ثقافي وعير جنسي وغير عنصري وغير قابل للتغيير ثقافيا وسياسيا إلا إذا كانت الجماعة تريد فناءها وسقوطها لقمة سائغة لمن يحيط بها من الجماعات التي تحافظ عليه.

وليس معنى هذا الكلام أني أرفض الأنظمة التي يكون رأس الحكم فيها وراثيا إذا كانت ذات مؤسسات لا تجعل الحكم الفعلي خاضعا لصدف الوراثة العضوية في الحكم. فعندما يكون الملك مثل ملكة بريطانيا فيمكن تصور الوراثة غير ضارة بل قد تعتبر من شروط الاستقرار الرمزي في الدولة.

فمن العسير في هذه الحالة أن يكون الوارث أميا كالحال عندنا أو أن يكون مستبدا كالحال عندنا لأن الذي يحكم ليس راس الدولة وشلته بل المؤسسات والمراكز العلمية والاستراتيجية: قد يكون ترومب غبيا لكن غباءه لن يؤثر كثيرا في مسار الدولة لأن فيها معدلات ومكابح تحول دون تهور حكام العرب.

ماذا يمكن أن يكون هذا الانتخاب الطبيعي؟

إنه من مفارقات كيان الإنسان الذي هو متعدد التعين في الأفراد رغم وحدته من حيث المقومات. والتعدد في التعين علته نسب المقومات من حيث الدور رغم كونها حاضرة في كل فرد إنساني وهي ما يشعر كل منا بأنه عين كيانه الواحد عضويا ونفسيا.

فرغم تعددنا وتمايز بعضنا عن البعض لا يوجد إنسان على وجه المعمورة ليس له المقومات الخمسة التالية: فله إرادة (حرة أو مضطرة) وله علم (صادق أو كاذب) وله قدرة (خيرة أو شريرة) وله حياة (جميلة أو قبيحة) وله وجود (مؤثر أو شبه معدوم). وفي ذلك لا تفاضل بين البشر: هي وجودهم وأساس منشودهم.

وما هو مفارقي في هذه المقومات هو أنها تجمع بين الموجود Etre والمنشود Devoir être بمعنى أن الإنسان بها يكون بين الوجود الفعلي الحاضر وما ينبغي أن يكون في استكماله مستقبلا وهو ما يمثل الاندفاع الحيوي والعنفوان الوجودي في كيان الإنسان الخلقي المشدود إلى تحقق افضل للذات.

ويمكن أن نسمي ذلك باصطلاح قرآني “وعي الإنسان بأنه خليفة” أو بأن  فيها قبسا من الروح الإلهي الذي يجعله دائما في اندفاع لتجاوز الذات نحو مثال أعلى هو صورته عن ذاته كما يتمناها وليس كما هي فحسب ما يجعل كيان الإنسان بالجوهر كيان الاستكمال الخلقي الدائم في المقوم الغالب على شخصيته.

وهذا هو الانتخاب الطبيعي الذي أتكلم عليه والذي هو عين الاندفاع الوجودي الغالب على المرء: فالبعض تغلب عليه الإرادة والبعض العلم والبعض القدرة والبعض الحياة والبعد الوجود. لكن الكل متقوم بها جميعا رغم غلبة أحدها عليه. وبهذا المقوم الغالب يقع الفرز بين النخب في كل جماعة.

فالذي يغلب عليه مقوم الإرادة يميل إلى السلطة السياسية والذي يغلب عليه العلم يميل إلى السلطة العلمية والي يغلب القدرة يميل إلى السلطة المادية (الاقتصاد) والذي يغلب عليه الحياة يميل إلى الفنون والذي يغلب عليه الوجود يميل إلى الرؤى الدينية-الفلسفية.

وكل جماعة سوية ذات وعي بشروط قيامها وبقائها ينبغي أن تطبق ما نصح به افلاطون: أن تجعل نظام التربية فيها في آن نظام تنمية لهذه الخصال ونظام انتخاب بمقتضاها حتى تعين النخب التي تحتاجها الدولة لسياستها وعلمها وقدرتها وحياتها ووجودها فلا تكون كما نحن الآن هملا وفوضى.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي