****
النخب المتنفذة، من يختارها؟ هل “فسدت فينا معاني الإنسانية” فصرنا عبيدا؟
ترددت كثيرا قبل اختيار هذا المفهوم شديد الغرابة “المعجزات السلبية”.
فغالبا ما نسمي معجزة ظاهرة موجبة تتمثل في خرق العادات لتحقيق ما تنبهر به القلوب فتعدل عن الباطل وتتبع الحق بتغير مفاجئ يشمل جماعة كان الفساد يعيث فيها عيثا.
لكن ما أريد الكلام عليه هو العكس تماما.
ما الذي يجعل نخب أمة بأصنافها الخمسة (نخبة الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود) يصبح النافذ منها كلهم بما يشبه المعجزة السلبية يتواطؤون جميعا على تسويد الباطل على الحق والظلم على العدل والفساد على الصلاح والعمالة على الوطنية والمكر على سلامة الطوية؟
أو بلغة ابن خلدون ما الذي يحقق ما سماه “فساد معاني الإنسانية” في أمة ما؟
وليكن مثالنا من تاريخنا: فقد سبق أن اعتبرت نقلة العرب من الجاهلية إلى الإسلام أكبر معجزة حققها الرسول الخاتم وهي معجزة ماثلة للعيان ولا ينكرها حتى أعدى أعداء الإسلام سواء سلموا بنبوته وآمنوا برسالته أو كذبوا نبوته ولم يؤمنوا برسالته. فلا يوجد مفكر غربي كبير ينكر هذه الحقيقة.
صحيح أن بقايا الصليبيين والباطنيين من العرب-أي بقايا حلف الدولة الفاطمية مع الصليبيين-يعتبرون ذلك ليس معجزة تاريخية بل هم يقيسونه على هجمة المغول على الشرق الذي كان مزدهرا تحت الاستعمارين الكسروي والقيصري قبل الإسلام بقيادة محمد الذي هو عندهم من جنس جنكيز خان ولا رسالة ولا هم يحزنون.
والمعلوم أن هذه النظرة التي لم يقل بها حتى الصهاينة مبعثها فكرتان أولاهما محاولات بقايا الغساسنة والمناذرة المشتاقين للتبعية بقايا الكسروية والقيصرية وهي بالأساس طائفيات ضد السنة وليس ضد العرب وحدهم والثانية محاولات إحياء الشعوبيات عند علمانيي الإقليم ومليشياته وأنظمته التوابع من دمى إسرائيل وإيران والاستعمار.
لكن كل ذلك لا يكفي فيفهمنا ما نراه من حصول عكس ما ننسبه إلى النقلة الاولى من أخلاق الجاهلية وضياع العرب في أحداث التاريخ الهامشي إلى أخلاق الإسلام وسيادتهم على قلب التاريخ العالمي على الأقل في القرن الأول من تاريخ الإسلام: ما الذي أعادهم إلى هامشه في كل مجالاته أكثر من الجاهلية؟
وضعنا الراهن معجزة سلبية بتعاكسه مع قرن الإسلام الأول الذي كان معجزة إيجابية. فهل معنى ذلك أن الانقلاب من السالب إلى الموجب وعكسه من الموجب إلى السالب طفرة كيفية ليس لها تفسير فتكون إحداهما معجزة إيجابية والثانية معجزة سلبية بمعنى أنهما خرق للعادات وليستا ظاهرتين قابلتين للتفسير؟
وقبل الشروع في العلاج فينبغي أن أوجه هذا السؤال لنفاة الطابع الموجب للمثال الأول برده إلى هجمة بدوية قادها محمد جنكيز خان الاعراب ضد حضارة الشرق تحت الاستعمارين الكسروي (فارس) والقيصري (بيزنطة): هل تعتبرون الحداثة التي تتبنونها هي بدورها ناتجة عن جناكيز خان غربيين أم لا؟
ولأشرح سؤالي:
فالغرب غزا العالم لكن لا أحد يمكنه أن ينكر أن له رسالة حتى وإن لم يلتزم بها ومثلهم العرب فتحوا العالم وقدموا رسالة لا ينكرها احد فهبنا سلمنا بأنهم لم يلتزموا بها مثل الغرب فلماذا لا تصفوه بالمغولية وتريدون تبني الحداثة وتصفون الإسلام بالمغولة وتشوهون تاريخه؟
لا يعنيني في هذه المحاولة الدفاع عن تاريخ الإسلام الوسيط ولا الهجوم على تاريخ الغرب الحديث ولا خاصة البرهان على أن التحديث المستقل وغير التابع لا يمكن أن يكون بالتقليد البليد لقشور الحداثة كما لا يعنيني الكلام على أعدائه من بين أهله أيا كانت قوميتهم أو طائفتهم ما يعنيني هو محاولة فهم مفهوم المعجزة السلبية التي تجعل النخب العربية الخمسة المتنفذة ذات دور سلبي.
وبعبارة وجيزة وبسيطة ومباشرة: لماذا السياسي والمثقف والاقتصادي والفني وصاحب الرؤية ممن لهم سلطان في الشأن العام لا يمثلون حقا ما يدعون تمثيله.
فالسياسي لا يمثل إرادة الجماعة والمثقف لا يمثل فكرها والاقتصادي لا يمثل مصلحتها والفنان لا يمثل ذوقها والرؤيوي لا يمثل نظرتها للوجود؟
هل معنى هذا أن هذه النخب الخمسة بلغت من الريادة والتقدم والشعوب بلغت من البلادة والتخلف بحيث حصلت قطيعة كيفية تجعل النخب في واد والشعوب في واحد وأن الحصيلة هي الندم على محاولات جدودنا تحرير الأوطان من الاستعمار وكان ينبغي أن نقبل الاندماج في رؤاه وقيمه بشروطه كما يفعلون الآن؟
هل ينبغي أن نستنتج أن جدودنا الذين قاوموا الاستعمار كانوا إرهابيين وأن من كان على حق هم “الحركيون” (من حارب من الجزائريين الثورة الجزائرية مع الفرنسيين ومثلهم موجود في كل بلاد العرب) وعلينا أن نعتذر للاستعمار وللحركيين وأن نرجو قيادات الغرب بتشريفنا والعودة لأننا “انديجان” بحاجة للتغريب بشعار التنوير الاستعماري العنيف؟
لا أعتقد أنه يوجد من يمكن أن يكذبني وهو مصدق لنفسه بأن ما أقوله هنا ليس هو لسان حال كل العلمانيين والليبراليين وكل الطبالين للأنظمة العربية التي تقود الثورة المضادة والتي تعتبر مقاومة الاحتلال والقواعد الأجنبية بالقلم أو بالسلاح سواء كان إيرانية وروسية أو إسرائيلية وأمريكية إرهابا يتقربون من الأعداء بالحرب عليه ومعه كل ما يشتم منه رائحة الوطنية الصادقة والاعتزاز بحضارة الإسلام.
ما الذي يجعل نخبة الإرادة (الساسة) ونخبة العلم (طالبو المعرفة) ونخبة القدرة المادية (الاقتصاديون) والثقافية (المثقفون) ونخبة الحياة والذوق (الفنانون) ونخبة الوجود ورؤاه (أصحاب الرؤى الدينية والفلسفية) كلهم لا ينتخبهم الشعب بوصفهم ممثلين لإرادته الحرة وعلمه الصادق وقدرته الخيرة وحياته الجميلة ورؤيته الجليلة بل حماة الأنظمة ونخبها؟
هذه هي المعجزة السالبة:
لا يمكن أن يكون كل ذلك حادثا بالصدفة ودون تعليل يقبله العقل إلا إذا آمنا بالمعجزات السالبة أي إن تغيرا كيفيا في الانتخاب العادي في الجماعات لهذه الوظائف الخمسة حدث بمعجزة وليس ناتجا عن استراتيجية حققته بالتدريج في غفلة من الشعوب العربية نفسها.
إذا كان يوجد شيء يقبل أن نسميه ثورة في اللحظة العربية الحالية فهو وضع هذا السؤال والجواب الشافي والكافي عنه: كيف حصل هذا الانقلاب الذي جعل انتخاب ممثل الإرادة والعقل والقدرة والحياة والوجود لدينا يجري بإرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود مفروضة كلها علينا ولا ناقة لنا فيها ولا جمل؟
وبعبارة خلدونية ما الذي جعل “معاني الإنسانية” تفسد فينا بقدر جعلنا نصبح فاقدين للإرادة الحرة والعلم الصادق والقدرة الخيرة والحياة الجميلة والوجود الجليل لأن من يمثلها قلبها إلى عكسها ولأنه ليس من نختاره نحن بحرية ونستطيع مراقبته ومحاسبته بل يفرض علينا وكأنه قضاء وقدر كما نرى في حالة السيسي وبشار وصاحب المنشار ليكون أداة تفرض بقية النخب خدما له في خدمته لحاميه مستبدا علينا.
وبأوجز عبارة:
ما الذي أفسد معاني الإنسانية في أجيال العرب الحاليين-منذ خدعة الاستقلال وتمكين عملاء الغرب من رقابنا- بحيث صاروا عاجزين عن الثورة كما فعل أجدادهم وباتوا مستعدين لاتهامهم بكونهم كانوا إرهابيين ويدافعون عن حضارة إرهابية صارت النخب العربية النافذة لا هم لها إلا تهديم ما عجز عن تهديمه المستعمر طيلة عهد الاستعمار؟
لو اعتبرنا ذلك أمرا طبيعيا لكان ذلك يفيد أمرين يعسر التسليم بهما:
- أن كل هذه النخب تفعل ذلك بحسن نية وتريد لنا الخير لكننا نعاديهم لأنهم إرهابيون ورجعيون وظلاميون وإخوان مسلمون
- أن من يقودهم من المرشدين الاستعماريين ويحمونهم يحبون الخير لنا. فيكون أحد الصفين ساذجا وغبيا.
وإذا كنا نحن السذج والأغبياء وهم اليقظون والأذكياء فعلينا أن نقبل ما يقوله بقايا الباطنية والصليبية في وصف الثورة المحمدية والجهاد الذي خاضه أجدادنا لتحرير الأوطان من الاستعمار بكونهما يمثلان حضارة إرهابية رفضت النور الكسروي والقيصري في الماضي والتنوير الأوروبي ثم الأمريكي الذي ورثه في الحاضر.
لأول مرة أكتفي بطرح الأسئلة ولا أنوي الجواب. سأترك ذلك للقراء.
وسبق أن حللت علل فساد معاني الإنساني بشرح المفهوم الخلدوني. ولا فائدة من الإطالة.
الوضع الراهن إذا لم يؤد إلى عموم الثورة بلاد العرب فإن كل ما يقوله أعداؤنا يصدق علينا لأن الداء هو ما وصفت: من يختار نخبنا الخمسة النافذة؟