النخب العربية، منحنى تطورها النازل، ما علته؟ – الفصل الرابع

**** النخب العربية منحنى تطورها النازل، ما علته؟ الفصل الرابع

وصلنا إلى العلة العميقة أو طبيعة نخبة القدرة (الاقتصاديون) لكل ما وصفنا في سلوك النخب: • فنخبتا الإرادة (القوى السياسية) • والرؤية الوجودية (المتكلمة باسم الدين والفلسفة) هما الغطاء الاول لطبيعة العلة العميقة التي تجعل الدول فاقدة السيادة أو المحميات تكون السياسة فيها أدوات استعباد. فالنخبة السياسية والنخبة الرؤيوية بدلا من أن تكون في خدمة الجماعة ومعبرة عن إرادتها ورؤيتها، تعبر عن إرادة من ينصبها عليه لتحقيق إرادته ورؤيته، ما يجعلها بالضرورة في خدمة من يستخدمه الاستعمار غير المباشر لمواصلة ما عجز دونه لما كان مباشرا بهم أدوات طيعة، لأنها تدين له بوجودها. لكن هذا الغطاء الأول-السياسي والرؤيوي-يحتاج إلى سند يضفي على التغطية شبه تبرير علمي وتلهية فنية يمثلها المستوى الثاني من التغطية المتمثلة في النخبة المعرفية والنخبة الفنية التي لا تستمد هي بدورها وجودها مما تسمي نفسها به تماما كالنخبة السياسية والرؤيوية: كلتاهما لا تمثل ما تدعيه. فالسياسي والرؤيوي لا يكونا ممثلين للجماعة من دون أن تكون الجماعة قد سلمت لهما بذلك تسليما حرا، وعلامته الانتخاب الحر الذي يحدده الغزالي بعلامة يسمي تحدد الحاصلين عليها وهي اعتبار الجماعة لهم “معتبري الزمان” أي تثق بهم لتمثيل إرادتها ورؤيتها فتعتبرهم قياداتها السياسية والرؤيوية. وإذا كانت منزلة معتبري الزمان في السياسة والرؤية تشمل كل الجماعة -وعلامتها الحديثة هي الانتخاب الفعلي للساسة والسمعة لأصحاب الرؤية، وهي بنحو انتخاب بالقوة-فإن منزلة معتبري الزمان في المعرفة والفن تقتصر على أهل الاختصاص أو اعتراف الجماعة ذات الأهلية في المجال.

لكن النخبتين الأوليين ترفضان الاعتراف بانتخاب الجماعة الحر معيارا، مدعيتان أن الجماعة عامة لم تصل بعد للرشد، فتعتبران نفسيهما وصيتين عليها، مهمتهما هي التحديث العنيف بشوكة الدولة وسند الخارج، والنخبتين الثانيتين اللتين تفرضهما النخبتان الأوليان للتبرير بمعرفة والتلهية فن زائفين. وهذه النخب الاربعة الممثلة للغطاءين، ينصب صاحب القدرة (الاقتصاديون) الزوجين الأولين منها، ويسمح لها بتنصيب الزوجين الثانيين. وصاحب القدرة نوعان: • القدرة المستعارة في المحميات • والقدرة الفعلية في البلاد الحامية للمحميات: ما يسمى برجال الأعمال عندنا هم خدم رجال رجال أعمال المستعمر.

ما سأدرسه في هذا الفصل الرابع هو أصحاب القدرة في المحمية بوصفهم خدم رجال القدرة في الحاميات. وفي الفصل الأخير، سأدرس فيه الآلية الكونية لما سميته الحكم والتربية ببعدي دين العجل أو نظام الأبيسيوقراطيا بنية الأنظمة السياسية ثيوقراطية (باسم الله) كانت أو أنثروبوقراطية (باسم الإنسان).

ماذا عندنا في المحميات(كل بلاد العرب محميات بمعنى أنها ليست دولا ذات سيادة، بل هي توابع لمن يحمي هذه النخب الخمسة التي يمثل من نصب منها في هذه الوظائف أدوات السيطرة على الشعوب)؟ • غطاء أول هو الدمى السياسية والرؤيوية • وغطاء ثان هو الدمى المعرفية والفنية • والدمية المركزية أرباب الثروة.

لو عدنا منهم غاية، إلى الساسة بداية، لكان معدن العجل (أصحاب المال) يستند إلى خوار العجل وهو الغطاء الاول الذي يضفي “المعقولية” و”المذوقية” على نمط الحياة في المحميات كسلطان رمزي أو الجزرة (النخبة المعرفية والفنية)، يدعمه الغطاء الثاني الذي يفرض هذا النمط بالعصا: حكم بالجزرة والعصا.

نمط الحياة الجماعية التي تروج لها هذه المعرفة والفن الزائفان، هي تقليد حياة المجتمع الغربي من دون شروطها، بمعنى أن ما يدعون إليه ليس ما جعل الغرب يصبح قادرا على حياة المجتمع الاستهلاكي، بل المجتمع الاستهلاكي بدون شروطه: فينتج عن ذلك أن الشروط تصبح الأدنى من وسائل البشر. وسأضرب ابرز مثال وأوضحه: خذ فتيات ريفيات في تونس، تعلقن بجزرة الحياة الاستهلاكية للمدينة. ماذا يمكن أن تستعملن للحصول على ذلك؟ ابدانهن. فتكن إما خادمات في المنازل، أو عاهرات حتى تستمتعن بلذائذ الحياة، أو “جزرة” التحديث المقلوب من الغاية إلى البداية بدلا من العكس.

ولنأخذ مثالا ثانيا ويتعلق بالسياسة الاقتصادية للدول التي تريد التحديث المقلوب. فما تفعله الفتيات الريفيات في مثالنا الأول، تفعله الدول التي تختار الخدمة السياحية. فهذه تعني جعل الشباب خدما مثل الريفيات، وعواهر فعلا وانفعالا مثلهن، لأن الخدمة المقدمة ليست كما يروجون سياحة ثقافية. هي في الحقيقة محاولة بداية التحديث من نهايته وليس من بدايته. فاقتصاد الخدمات مشروط باقتصاد المنتجات الفعلية التي تصحبها الخدمات لها ولمنتجيها. ففي تونس بدلا من توظيف ثروة البلاد التمويلية في الاستثمارات المنتجة لما يسد الحاجات أولا، فكروا في أسرع مصدر للعملة ولو بتبخيس كل شيء. وأهم شيء يقع تبخيسه هو ضرورة جلب السائح بشرطين: • جعل مطالبه غاية التحديث • والحط من قيمة العملة بسبب التنافس على جلب السواح. ومطالبه الغالبة بحسب مستويات السواح متنافية تماما مع ثقافة شعوبنا، ما يعني أن أول أمر يقع التخلي عنه هو قيم الشعب وإيجاد بؤر للسياحة الجنسية حتما.

والآن إذا جمعت المثالين وجدت دلالة “دبي”. الجمع بين أقصى بداوة المحمي وأقصى حضارة الحامي، فيكون الاقتصاد: • تجارة الجنس والمتعة المستوردين • والمواد الخام المستخرجة من الصحراء.

تلك حال العرب اليوم: النخب تريد “دبدبة” كل الوطن من الماء إلى الماء ضد شعب يريد أن يكون سيدا بكل المعاني. المثال الأعلى للتحديث عند النخب الخمسة هو مثال “دبي” يريدون غاية الحياة الحديثة المقصورة على الاستمتاع الدنيوي بما تمكن منه الحداثة الغربية من دون شروطها الواصلة بين غاية الاستمتاع بالأكل والجنس كالأنعام، وبداية التحرر من استبداد الطبيعة واستبداد التاريخ الحاصلين في الغرب. هم يتركون ذلك للحامي: هو الذي يسيطر على الطبيعة بعلومه وتطبيقاتها، وهو الذي يسيطر على التاريخ باستعماره للعالم وفرضه معاييره على البشرية، وهم يريدون مقاسمة مترفيه ترفهم خدمتهم مثل الفتيات الريفيات اللواتي وصفت في مثال الاول: همهم صنع فترينات (شوو كايز) من الحداثة. وحتى ما ينتسب إلى الحداثة الفعلية، أعني العلوم الصحيحة وتطبيقاتها في نظام التعليم، فإنه في النهاية ينتج ما لن يستفيد منه بلاد العرب، لأن شرط الاستفادة هو البنية الاقتصادية المنتجة للبضائع ولشروط إنتاجها وليس الخدمات السياحية، لذلك فمن يتخرج يغادر ليخدم الغرب حيث توجد هذه الشروط.

وقد جمعت سياسة الهجرة في الغرب بين الأمرين: نستعمل شباب العالم المتخلف للخدمات الدنيا في بلادهم بمنع استقبالهم، وتشجيع شبابه الحاصل على ما نحتاج إليه في الخدمات العليا للهجرة إلينا، فتكون كلفة تكوينهم على شعوبهم وثمرته لنا. والشرط هو منع تكون القاعدة الاقتصادية عندهم. ومنع تكوين القاعدة الاقتصادية الاساسية التي هي شرط وجود للبحث العلمي المبدع وشرط مقومي السيادة، أعني الرعاية والحماية، الذاتيتين يكون بطريقتين: الأولى هي ما تحققه هذه النخب التابعة لمعدن العجل المافياوي التابع عندنا لمعدن العجل المتبوع في الغرب وغطاءيه من السلطة الرمزية والمادية. والطريقة الأفعل هي التي تجعل مثل هذه النخب تصبح ممكنة: إنها التصرف في الأحياز للحيلولة دون الحجم المادي والروحي المشروط في أساسي السيادة: • الجغرافيا المفتتة ونتيجتها استحالة التنمية الاقتصادية • والتاريخ المشتت ونتيجته استحالة التنمية الثقافية وحيز الحصانة الروحية أو المرجعية

ولذلك، فحرب هذه النخب الخمس التي بيدها نيابة الاستعمار غير المباشر في بلادنا، ليست ضد الإسلاميين والإسلام لذاتهما، بل لأن الإسلام مرجعية والإسلاميين سعيا يعارضان تفتيت الجغرافيا وتشتيت التاريخ والحرب على المرجعية لأنهما يعتبران الأحياز وحدة شرط السيادة رعاية وحماية.

وهذا هو رأس الخدمات التي كلفت بها هذه النخب من حاميها وحامي حدود المحميات التي أنشأها الاستعمار ومثالها حدود سايكس بيكو. وما الاستماتة في الحرب على ثورة الربيع إلا لأنه أنهى هذه الحدود على الأقل في الوعي الجمعي للشباب بجنسيه، لأن البداية كانت تونسية، والحصيلة صارت عربية.

وهكذا، فلا شيء مما يحصل، يحصل بالصدفة: هذه النخب الخمس -السياسية والرؤيوية والمعرفية والفنية والاقتصادية- كلها ليست من اختيار الجماعة، بل هي مفروضة عليها من منصبها أي من الاستعمار المباشر الذي كون محميات في دار الإسلام لا يمكنها بمقتضى الحكم ألا تكون إلا محميات. لذلك فالهدف الأول والأساس للثورة في الموجة الثانية، التي ستبدأ هذه المرة من مصر حتما، لأن كل هذه الشروط التي وصفت بلغت الذروة فيها، وهي جغرافيا وتاريخيا ومرجعيا تمثل قلب الإقليم العربي التركي الكردي الأمازيغي، الذي يعتبر اساس الحضارة العربية الإسلامية.

وليس بالصدفة أن كانت النخب التي تؤدي هذه الوظائف من أدنى طبقات المجتمعات العربية اجتماعيا وثقافيا. • فاجتماعيا كلهم-العساكر والمثقفين-من أدنى طبقات المجتمع، وهو ما يذكر بمثال الريفيات المنبهرات بأضواء المدينة. • وثقافيا جلهم من الإنسانيات والأدبيات وخاصة العربية وهم معقدون في الجامعة فغالبا ما يكونوا في التوجيه حاصلين على أدنى المجموع الممكن من الذهاب إلى الجامعة، ثم هم يريدون منافسة الأقسام التي لها حظوة أكبر في الترتيب الأكاديمي والمجتمعي، فيحاولون المزايدة في الحداثة بالتنكر السخيف لأهم مقومات الحضارة التي من المفروض أن يكونوا ممثليها.

هم إذن في مثالنا من جنس “دبي”: تظاهر أقصى البداوة بقشرة أقصى الحداثة، فتكون ما في الحداثة من جمع بين وسائل التجارية الأولى أي تجارة البدن التي تزيل الفاصل بين ما يقبل التبادل من القيم المادية وما لا يقبلها من القيم الروحية فيتاجرون بهذه، وذلك هو العهر أو أول تجارة في تاريخ البشرية.

وهكذا، فقد وصلنا إلى غاية البحث التي سندرسها في الفصل الأخير الموالي: كيف نفهم دور النخب الخمسة التي نصبها الاستعمار غير المباشر في بلادنا ويحميها مباشرة أو بذراعيه في الإقليم (إيران وإسرائيل) لتمنع سعي الامة لاستئناف دورها التاريخي الكوني؟: رهان الثورة هو الاستئناف.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي