**** النخب العربية منحنى تطورها النازل، ما علته؟ الفصل الخامس
وهكذا يتبين أن معركة الإسلام والمسلمين ذات مستويين: مباشر مع بعدي دين العجل، التابع لبعدي دين العجل المتبوع. • والأول هو ما وصفنا إلى حد الآن في كلامنا على النخب العربية والإسلامية بأنواعها الخمسة التي نصبت في المحميات. • والثاني هو ما سنصف في هذا الفصل من النخب المتبوعة وأذرعها.
محاولات سابقة بينت أن البنية العميقة لنوعي الأنظمة السياسية التي تدعي الحكم باسم الله (الثيوقراطيا) والتي تدعي الحكم باسم الإنسان (الانثروبوقراطيا) هما في الحقيقة غطاء يخفي الحكم باسم العجل الذهبي ذي الخوار. ولذلك فالإسلام لأنه لا يقول بأي منهما، يعاديه أصحابهما المتحالفان ضده. وقد بينت أن هؤلاء ينقسمون إلى الذراعين: • إيران (نظام ثيوقراطي يدعي الحكم باسم الله) • وإسرائيل (نظام أنثروبوقراطي يدعي الحكم باسم الإنسان) وهما أصل الفتنتين: • الكبرى (التشيع) • والصغرى (العلمانية) المحاربتين للإسلام السني ومن ورائهما: • داخليا نخب العجل العربية، • وخارجيا نخب العجل الغربية.
ولما كانت نخب العجل العربية نوعان: • أحدهما تمثله الأنظمة العسكرية • والثاني الأنظمة القبلية في عصر القطبين ثم اتحدت الأنظمة بعد سقوط أحد القطبين بولاء للقطب المتبقي حتى وإن بدت عودة روسيا تحيي المقابلة التي سادت في الحرب الباردة، فإن دين العجل الخارجي صار واحدا في الشرق والغرب. فاتحد النظامان بعد الثورة واتحد الذراعان عليها بقيادة واحدة هي دين العجل الغربي ممثلا بالنموذج الامريكي الذي هو الشكل الصريح لدين العجل كما تبين الديموقراطية الامريكية وعولمة نموذجها المادية والرمزية، واليوم الثورة صارت عين مسعى الإسلام والمسلمين لاستئناف الدور التاريخي.
وهذا التشخيص قد ينتج عنه استنتاجان كلاهما خاطئ: • الأول أن الإسلام شاذ يعادي ما أجمع عليه الكل، ممثلين بمن اعتبرتهم محاربيه • والثاني أن ذلك دليل على أن الإسلام تجاوز العصر رؤاه وأن حلوله التي ليست ثيولوجية ولا انثروبولوجية ليست قابلة للتطبيق، فضلا عن كونها غائمة التحديد.
وقبل محاولة بيان خطأ هذين الاستنتاجين فلنفهم معنى دين العجل الحاكم الآن للعالم بمنطق العولمة التي نموذجها الديموقراطية الامريكية. فلا أحد ينكر أن جميع الأنظمة في العالم -بما في ذلك ما يزعم من محافظة الصين على نموذجها في الحكم دون الاقتصاد-يحكمها بعدا العجل: معدنه وخواره. فالديموقراطية الأمريكية لا تخفي أن ما يحكم نظام قيادتها السياسية الظاهر: • العملة رمز التبادل (معدن العجل) وأداته القوة المادية للاقتصاد والجيش • الكلمة رمز التواصل وأداته القوة الرمزية للثقافة والملاهي: 1. سلطان على ما به تقوم الأبدان وتحكم. 2. وسلطان على ما به تقوم الأذهان وتحكم.
العملة أو رمز التبادل لم تبق أداة تبادل فحسب، بل صارت أداة سلطان على المتبادلين وشروط قيامهم العضوي بتوسط الربا. والكلمة أو رمز التواصل لم تبق أداة تواصل، بل صارت أداة سلطان على المتواصلين وشروط قيامهم الروحي بتوسط الإيديولوجيا. • سلطان على عالم الأعيان • وسلطان على عالم الأذهان.
تلك هي بنية نظام العولمة في التبادل والتواصل، وهي في آن بنية النظام الديموقراطي الأمريكي. فهذا النظام لا يخفي أن من يختار حكامه من بين نخبه الخمسة هم أصحاب السلطان المادي في التبادل والسلطان الرمزي في التواصل. وهما متحالفان، بل هما نفس المافيات التي تحكم من وراء حجاب النخب الخمسة.
هل معنى هذا أنه لا فرق بين الأمريكيين وبيننا؟ من حيث الآليات نعم لا فرق. لكن الفرق هو بين طبيعة مستعمليها. فعندهم مستعملوها سادة عليها، وعندنا مستعملوها عبيد لهؤلاء السادة. بمعنى أن النخب التي تحكم الغرب في خدمة مافية سيدة لأن لها شروط السيادة رعاية وحماية. عندنا العكس تماما. مافياتهم تعمل لصالحها ولصالح بلدانها. مافياتنا تعمل لصالح المافيات التي تنصبها ضد صالح بلدانها مع أجر زهيد من المافيات الاولى هي ما تبقيه لهم من فتات. من هنا حرمانهم لشعوبهم، فما يبقى لا يكاد يكفيهم كما تبين بعد ما حدث في الخليج. فأسعار البترول ونهم ترومب اضطراهم لحلب شعوبهم. وما بدأ يتجلى بوضوح بفضل ترومب، هو أن هذه الآلية لم تعد مقصورة علينا، بل هو عممها على العالم لأن أمريكا تحكمه برمز التبادل (عملتها) وبرمز التواصل (لغتها)، وطبعا هذا الحكم ليس قضية رمزية في الأذهان فحسب، بل هو في الأعيان بأدوات القوة المادية والرمزية، أي القوة العنيفة واللطيفة. فلو لم يكن الجيش الامريكي أقوى جيوش العالم، والإعلام الأمريكي أقوى اعلام في العالم، لما طغى الاقتصاد الامريكي والثقافة الامريكية. فالاقتصاد الامريكي قوي دون شك. لكن لو فقد سلطان الدولار لما بقي الأقوى. والثقافة الأمريكية قوية دون شك. لكن لو فقدت سلطان الانجليزية لما بقيت الأقوى. والدولار وراءه القوة العنيفة. الانجليزية وراءها القوة اللطيفة. فاقتصاد العالم جله يقيم بالدولار. وثقافة العالم كلها تقيم بالإنجليزية. وما لم يتغير ذلك، يستحيل أن تتحدد نسبية القوة الامريكية المادية والرمزية. والتحرر من هذين المعيارين هما السبيل الوحيدة للتحرر من طغيانه عولميا.
صحيح أنه توجد عملات أخرى مثل عملة أوروبا أو الصين أو الهند. لكنها جميعا ما تزال دون القدرة على منافسة الدولار، وبالذات بسبب النخب العميلة في المحميات العربية والإسلامية وما يماثلها من الشعوب الأخرى الحائزة على ثروات الارض دون الحجم الكافي لتكون سيدة عليها بحق.
وصحيح أن لغات آسيوية بدأت تشارك في الثقافة العالمية، ولغات أوروبية ما زال لها دور فيها. لكن كلى النوعين من اللغات ما تزال عاجزة عن منافسة الإنجليزية، لأن الجميع لا يتواصل عولميا حقا إلا بها بمن في ذلك أقوى الأقطاب المرشحة لدور كبير في نظام العالم الحديد مثل الصين واليابان. والتنافس بين دول أوروبا جعلها مؤطرة لإيلاء دور اللاتينية التي كانت توحد نخبها إلى الإنجليزية، ما يجعل لغاتها تفقد بالتدريج الطابع العالمي رغم المحاولات اليائسة للفرنسيين في ما يسمونه الفرنكفونية التي لم يعد يؤمن بها الفرنسيون، وسندها الوحيد هم النخب العميلة من العرب والأفارقة.
فعندما يعلن حاكم أمي مثل أمير الإمارات أو أمير السعودية أن القرضاوي إرهابي، فأنت تعلم ما القصد بالإرهاب: كل من لا يرضى عنه حاميهم ومنصبهم على استعباد شعوبهم يسمى إرهابيا، وبعض المثقفين من العملاء اقترح تصنيفي أنا أيضا في قائمات الإرهاب العربية التي هي حقا قائمات شرفاء العرب.
إذا كان السيسي وبشار وحفتر وكل العملاء الذين هم من جنسهم وكل طباليهم من النخب التي وصفنا هم من يصنف شرفاء العرب والمسلمين، فذلك شهادة على أن المعركة الحاسمة آن أوانها: الربيع العربي حقق نصرا لا مثيل له: حدد معيار الفرز النهائي بين النخب العميلة والنخب المخلصة للأمة وللمستقبل.
كل شعوب الأمة بمن فيها شعوب ممولي الثورة المضادة ومحاربيها من الماء إلى الماء، صارت تعرف من هو عدو الأمة ماضيها ومستقبلها ومن لم يعد له من شروط البقاء عدا العمالة الصحرية لذراعي الاستعمار في الإقليم وللاستعمار: فهموا ان مستقبل الإنسان هو التحرر من دين العجل والنموذج الأمريكي.
وبهذا المعنى يمكن الرد على الاستنتاجين الخاطئين: الإسلام لا يعبر عن شذوذ فيه، بل شخص الشذوذ الذي سيطر على البشرية وكل شرفائها ينتهون إلى ما حدده من البداية الثورة على حضارة الربا (العملة) والتزييف (الكلمة). الاقتصاد الربوي في التبادل، والثقافة المزيفة في التواصل، هما مرضا الإنسانية.
كل مفكري العالم المعتبرين وكل شباب العالم بجنسيه صار يدرك هاتين الحقيقتين دون أن يكونوا مسلمين فأصبحت قيمهم ورؤاهم إسلامية بالمعنى الفطري للإسلام، حتى وإن لم يصبحوا مسلمين بالمعنى التاريخي والحضاري. والإسلام هو قيمه وليس بالضرورة الانتساب إلى تاريخه. والإسلام ليس معاديا لغالبية البشر، بل هو معاد لمن أفسد حياة البشر، ومن ثم فغالبيتهم معه في ثورتهم مثله على من أفسد الطبيعة والثقافة فجعل الإنسان عبدا لمافية البنوك بنظام التبادل الربوي في وجوده العيني وعبدا لمافية الإعلام المزيف بنظام الثقافة التلهوية في وجوده الذهني. ومهما كان عدد النخب التي بيدها السلطان الاقتصادي الربوي المسيطر على الابدان والسلطان الثقافي المزيف المسيطر على الأرواح، تبقى الأغلبية الساحقة للنخب التي اختارتها الشعوب لتعبر عن ثورتها عن هذين السلطانين في العالم وكلها من حيث الرؤية القيمية من الإسلام الفطري.
الإسلام لا يقتصر على وجهه التاريخي، فالإسلام الفطري هو ما طرأت عليه التحريفات بلغة القرآن وهي ترد إلى البنية العميقة لنوعي الأنظمة الثيوقراطي والانثروبوقراطي، أعني لدين العجل الذي هو سلطان العملة الربوية والكلمة الأيديولوجية، أو معدن العجل وخواره عند النخب المستبدة والفاسدة.