**** النخب العربية منحنى تطورها النازل، ما علته؟ الفصل الثاني
امراء الحرب الحارة في الثورة التي تحولت إلى حرب بالفعل قضوا على تحولها إلى حرب تحرر وتحرير، لأنهم أفقدوها اساس كل استراتيجية سياسية، وأمراء الحرب الباردة في الثورة التي ما تزال حربا بالقوة، قضوا على وجود الأحزاب بالمعنى السياسي للكلمة لأن مائة حزب تونسي هي مائة أمير حرب باردة. فلا أحد منهم له قاعدة سياسية، ومن له فهو يائس من كل استراتيجية سياسية ويبحث عن استراتيجية تعتمد على أجهزة الدولة والسند الخارجي لفرض رؤيته والوصول إلى الحكم دون استمداد شرعتيه من قاعدة شعبية، يعلم مسبقا أنه فاقد لشروطها بسبب عدائه الصريح لثقافة شعبه ومواصلته مهمة التحضير العنيف.
ما يعوق تحول الحركات الإسلامية إلى أحزاب ليس وجود المرجعية الدينية، والحل ليس الفصل بين الدعوي والسياسي، إذ السياسي بطبعه دعوي لبرنامج ذي غايات قيمية وتعيينات مصلحية، واستراتيجية تحقيقهما لا تجعل الغايات أدوات -وهو خطأ الإسلاميين-بل تبحث لها عن أدوات من طبيعة التعيينات المصلحية. وما يعوق تحول الأحزاب الكرتونية إلى أحزاب ذات قاعدة شعبية هو العكس تماما، أي إنها تتصور أنه يمكن لحزب أن يعتمد على برنامج مصلحي دنيوي بمرجعية متنافرة مع ثقافة شعبها. فلا الماركسي ولا الليبرالي يمكن أن يصبح سياسيا يحكم بشرعية، وإذا حكم، فبشوكة مافياوية وسند أجنبي وليس بشرعية شعبية. وهو ما يعني أن الموجة الثانية من الثورة ليست متجهة نحو الماضي في مرحلة التحرر من الأنظمة التي كانت تحكم مباشرة كما حصل في الموجة الأولى، بل هي ستكون متجهة نحو المستقبل لبناء البديل الذي يستكمل التحرر من ا لأنظمة القديمة، ليس بالمعنى السلبي بل بالمعنى الإيجابي “للسياسي”. وهو ما يعني أن الأحزاب ستصبح حقيقة فعلية ذات وظائف سياسية بالمعنيين: • التمثيلية الشرعية للقاعدة الشعبية بالانطلاق مما لا يحارب المقومات الجوهرية لكيانها الحضاري والروحي، • والوظيفة الخدمية لنوعي الحاجات التي من أجلها تحتاج الجماعة للقوى السياسية المعبرة عن إرادتها وسيادتها. فالحاجات الخدمية التي تحتاجها الجماعات ولأجلها توجد القوى السياسية والدولة نوعان: • حاجات الرعاية التي تغني الجماعة عن الاعتماد على غيرها في شروط قيامها المادي (الاقتصاد) والروحي (الثقافة). • وحاجات الحماية التي تحقق السلم الداخلية بين المواطنين وتحمي الجماعة من العدوان الخارجي. فأي حزب يشعر الشعب أنه يعبر عن هذين الغرضين دون أن يكون معاديا لمقومات كيانه الحضاري والتاريخي، يجد من بينه قاعدة ذات ثقل تجعله ممثلا لإرادة هذه القاعدة التي قد تحصل على الأغلبية، فتكون أهلا: • إما للحكم بالقوة (المعارضة التي لها مصداقية وحكومة ظل). • أو للحكم بالفعل (الحكم).
وبهذه المعنى فلا يمكن أن تتعدد الاحزاب وكأنها جراد من جنس ما عليه الحال في تونس: ليست احزابا بل مجموعات ذرية يكاد يكون كل من فيها “ديكة” ومراهقين يتصورون العالم يسير بحسب أهوائهم وهو أمر دال على الحمق السياسي: من لم يفهم أن تمثيل إرادة الجماعة لا يكون إلا برضاها مختل عقليا. فعندي أن “حمة الحمامي” ليس إلا “أرلات لاجويي” التونسية. والبقية منافسون له على “أغاني” أرلات في أواخر عهد الحزب الشيوعي الفرنسي وهوامشه. لكن ما يحير حقا هو أن أغلب أدعياء الحداثة والتقدمية وأوهام الرجعية بالفعل والتقدمية بالقول جلهم من الأميين أو من العربية وثقافة الكتاب الأحمر.
وكل ما أتمناه من الحزيبات التي تتنافس ليس على خدمة الشعب، بل على الزعامة في هذه الحزيبات والاستعداد لخدمة المافيات الحاكمة حتى تصل إلى الحكم عن طريق اصحاب الشوكة وليس عن طريق أصوات الشعب، هو أن لا يتصوروا السياسة فرض أهواء ديكة تتناقر ظنا أن السياسة أقوال وليست أفعالا.
صحيح أن هذه الحزيبات التي تخدم أصحاب الشوكة ليست قاصرة في الأفعال السلبية بالأقوال والاعمال. • فبالأقوال هم من غزاة الإعلام والتشويه الإيديولوجي لمعارك التلهية عن وظيفتي الدولة أي الرعاية والحماية. • وبالأفعال هم غزاة الاتحاد والإدارة وحتى اجهزة الشوكة لتعطيل عمل الدولة والمجتمع. وهذه صار الجميع يفهمها. لكن رأيتها في أهم مقومات أي جماعة تسعى لتحقيق شروط الرعاية والحماية: فهم أوقفوا الحياة الاقتصادية وهدموا جل المؤسسات بالأهواء النقابية وأفسدوا خاصة مؤسستين لا يمكن لأن جماعة أن تقوم لها قائمة من دونهما: مؤسسة التعليم النظامي والاجتماعي ومؤسسة الأمن. ليس من حقي أن أتكلم على مؤسسة الأمن لأن لها أهلها وهم أدرى مني بما يحدث فيها وخاصة بعد أن أصابها التسيب النقابي. لكنه من واجبي بصفتي كنت وزيرا مستشارا في المسألة التربوية والثقافية وهما وجها التربية أن أقول إن النقابة هي التي قضت عليهما قضاء لا بد من عقود لتحريرهما منها. فالنقابة في التربية والثقافة لم تعد نقابة، بل أصبحت مافية في كل مستوياتهما: العلمية والإدارية والقيمية وخاصة في مفهوم الإنسان الذي ينبغي أن يحققه النظام التربوي والثقافي في الجماعة شرطين لتكوين الاجيال وتحقيق هدفي وجود الجماعة والدولة: • الرعاية تكوينا وتموينا • والحماية أمنا ودفاعا لكن الأخطر من ذلك كله هو أنهم قد جعلوا “المحكومية” مستحيلة. فالدولة لها طريقتان في القيام بوظائفها، وكلتاهما رهن العلاقة بين المحكومية والحاكمية. فإذا كان الشعب قابلا أن يحكم بالقانون، كانت الشرعية كافية لأن تحقق غايتها أي الرعاية والحماية. في غياب ذلك يكون الاستبداد أو الفوضى. وهم يخلقون الفوضى ليحققوا شروط الاستبداد الذي هو فرصتهم الوحيدة لمشاركته في الحكم الفاسد والمستبد باقتسام السلطة بين الحكم المستبد باسم الدولة والحكم المستبد باسم النقابة. وبهذا الحل، بدأ عهد بورقيبة في معركته مع ابن يوسف فإن تاريخ تونس منذ الاستقلال محكوم بهذه المعادلة. وكل الأزمات التي هددت النظام كانت بسبب الصراع بين الحزب الحاكم والنقابة الحاكمة وخاصة منذ أن فقد بورقيبة السيطرة على الحكم وصارت قرطاج كما نراها الآن -لأن عهد السبسي أشبه بعهد بورقيبة المريض الذي فقد السلطان الفعلي على الدولة أو التحالفات الظرفية ذات الطابع المافياوي.
وما تحمس الاتحاد والنخب التي نتكلم على أحزابها القزمية والمشوهة للسياسي من حيث هو سياسي للإطاحة برأس نظام ابن علي والدفاع عن دولته العميقة ومافياته إلا لأنهم شعروا أن الرجل بدأ يفكر في شروط بقائه من دونهم حتى يمكن لابنه أو صهره من بعده. فأرادوا قطف ثمرة الانتفاضة الشعبية.