النخب العربية، منحنى تطورها النازل، ما علته؟ – الفصل الثالث

**** النخب العربية منحنى تطورها النازل، ما علته؟ الفصل الثالث

تكلمنا إلى حد الآن على أولى النخب وآخرتها في السلسلة التي اعتبرناها موجودة في كل جماعة: • نخبة الإرادة (السياسية) • والعلم (الأكاديمية) • والقدرة (لاقتصادية) • والحياة (الفنية) • والوجود (الرؤيوية) لأن الأولى السياسية والأخيرة الرؤيوية متلازمتان تلازم السياسي وتبريراته الدينية أو الفلسفية. ورأينا أن غياب المعنى السياسي للقوة السياسية أو الاحزاب يقلب العلاقة بين القوة الممثلة للشوكية والنخبة الممثلة للشرعية في هذه العلاقة، فلا يكون من بيده الحكم والمعارضة ممثلين لإرادة الجماعة باختيارها، بل هم مغتصبوها ويستعملون السياسي والرؤيوي غطاء لإخفاء واقع الاستبداد والفساد.

وعلينا الآن أن نمر إلى المستوى الثاني من النخب، أعني: • نخبة العلم أو المعرفة(الأكاديميون) • ونخبة الحياة أو الذوق (الفنانون) وبينهما نفس العلاقة التي بين السياسي والرؤيوي. فالعلمي والمعرفي تابع لممثلي القوة السياسية السائدة، والذوقي والفني تابع لممثلي الرؤية الوجودية السائدة. فتكون السلطة المعرفية والسلطة الفنية من توابع النظام الذي ليس للسياسي وللرؤيوي فيه حقيقة تمثيل الإرادة ولا حقيقة تمثيل الوجود الجماعتين، بل هما يمثلان من يستبد بهما أعني القوة المتخفية وراءهما وهي في مصر مثلا عودة النظام السابق ومافياته وفي تونس عودة النظام السابق ومافياته.

ومثلما تنحصر الفنون الأدبية في ما لا يتجاوز الترجمة الذاتية لمن يدعي الإبداع والكلام على أحوال نفسه لكأنه معيار الإنساني عامة، تنحصر العلوم الإنسانية في ما لا يتجاوز عقائد مدعي المعرفة في الأديان أو في الفلسفات بدعوى أن كل شيء صار سردية وأن السرديات لا تتفاضل (ما بعد حداثة). وعندما تصبح ساحة التداول الثقافي بقيادة هذين النوعين من الممارسات التي ليس لها معايير قابلة للتمييز بين العلمي واللاعلمي والفني واللافني بخلاف ما عليه التداول في المجتمعات السوية التي تحررت من ذلك بقدر كبير، لأن القرار بيد علماء وفنانين في جماعة علمية وفنية مستقلتين عن المافيات. فالمافيات الحاكمة من وراء حجاب تختاره من هؤلاء بتأييد عماده: • بعد العجل الذهبي، أي رمز الفعل أو العملة (بعد الذهب من العجل وهو بيد المستبدين بقوة الدولة المادية) • وبعده الخواري أي فعل الرمز أو الكلمة (بعد الخوار من العجل وهو بيد المستبدين بقوة الدولة الرمزية) من يخدم تحريف وظيفتهما.

فيصبح كبار الدجالين في العلوم الإنسانية خبراء الدولة وأصحاب السلطان على جامعات العلوم الإنسانية ومراكز البحوث وفي الفنون الأدبية خبراءها وأصحاب السلطان في معاهد الفنون ويسيطرون على أسباب الحياة لهذين النوعين من النخب أي العلماء والفنانين فيستثنى المبدع فيهما معا يسيطر الزيف. والسيطرة على موارد الحياة والرزق يجعلهم جزءا من المافية كما في السيطرة على الطباعة والنشر والتوظيف والتعيين والترقيات وإنفاق ميزانيات البحث العلمي والانتاج الفني والمهرجانات والمعارض وسياسة الكتاب والنشر بحيث يحاصر كل مبدع حقيقي وتتكون مافيتان اخريان مع السياسية والرؤيوية. فتصبح المافية الخفية التي بيدها الشوكة وأدواتها التي وصفت هنا ذات غطاء مربع: • مستوياه الأولان هما نخبة ا لإرادة والرؤية الظاهرتين-الساسة وأصحاب الرؤى- • ومستوياه الثانيان هما العلماء والفنانون الذين من هذين الصنفين اللذين وصفت. ووزارتا التعليم العالي والثقافة في تونس ومصر دليل كاف.

ومعنى ذلك أن النخبتين المعرفية والذوقية في بلاد العرب ما زالت خاضعة لمناخ سياسة التكدي الذي يجعل الشعراء يعيشون على مدح السلطان وقل أن يوجد مستقل عن ذلك. والمشكل أن مدح السلطان الذي هو تابع اليوم يصبح مدحا لسلطان الحاكم في الداخل وحاميه في الخارج. وكلاهما على الشعوب وثقافتهم. من ذلك ما يبدو دالا على التقدمية والحداثة والتنوير عند هذا النوع من “المبدعين” في العلوم الإنسانية وفي الفنون الأدبية: فمثلما أن المافيات الحاكمة لا تطلب الشرعية من الشعب، بل هي مفروضة عليه لأنها تستمدها ممن نصبها عليه، فكذلك يحارب هذان النخبتان ثقافة الشعب بدعوى الطلائعية.

وبذلك يتبين أنه لا شيء مما يحصل في لحظتنا وليد الصدف، بل هو شبكة متكاملة ومتناسقة من شروط بقائها أن يحصل هذا الرداء المربع لحماية المافيات التي نصبها الاستعمار للحرب على الأمة وحضارتها التي هي الحصانة الوحيدة الباقية من مناعتها الروحية والحضارية: هي خط الدفاع الاخير. فكما هم معلوم في نظرية الحرب عند كلاوسفيتز، لا يكون أي محارب قد انتصر ضد أي عدو إذا لم ينجز المرحلة الأخيرة بعد مرحلتين أوليين هما 1. هزيمة الجيش 2. والاستحواذ على شروط إعادة بنائه (أي مصادر الثروة). 3. وهذه المرحلة الأخيرة هي معين الصمود وعدم الاستسلام أي الحصانة الروحية. ولذلك فهتان النخبتان-إلا ما قل-ليست من النخب العلمية ولا من ا لفنية، بل هي مليشيات توظفها النخبة السياسية والنخبة الرؤيوية مستوى ثانيا منها للتغطية على المافيات التي هي بدورها دمى لدى من نصبها للحكم من وراء حجاب أدوات للاستعمار غير المباشر: إنهما في الأغلب حصان طروادة الروحي. أو قل إنهم جزء من السلاح اللطيف أو القوة الناعمة في حرب الاستعمار غير المباشر على الحضارات التي ما تزال صامدة في العالم ونحن منها، بل لعلنا أهمها لعلتين: • أولا لوزننا الموضوعي حضاريا وتاريخيا. • وثانيا للجوار المباشر وللتاريخ المشترك بين حضارتي الابيض المتوسط الإسلامية والمسيحية. وكلنا يعلم أن الكنيسة في القرون الوسطى استعملت هذا السلاح اللطيف في محاولات التبشير، حتى إن بعض كبار مفكريها استعربوا وجاءوا إلى المغرب الإسلامي لاستعمال الجدل وفنيات التبشير الملازمة للصليبيات وخاصة لحروب الاسترداد المعلومة، وكذلك لجيوش الغزو الاستعماري حتى في العراق وسوريا الآن. وغالب هؤلاء الأدعياء من المثقفين-في العلوم والفنون التي كما أسلفت يعسر فيها التمييز بين ما هو حقيقي منها وما هو انتحال صفة-هم من الدمى في هذه اللعبة بوعي عند كبارهم وبغير وعي عند توابعهم وخاصة طلبتهم الذين يدينون لهم في نظام الاقطاعات المافياوية بنجاحهم الأكاديمي وبشروط عيشهم. ويمكن أن أقول إن وزارة التعليم العالي ووزارة الثقافة، بتحالف مع الحكم ومع النقابات، ليستا إلا إدارتين مافياويتين لتوزيع الرشاوى بين هؤلاء الإقطاعيين الذين يحتاج إليهم نخب السياسة ونخب الرؤى ليكونا غطاء كثيفا ومتينا يخفي مافيات تنول الاستعمار غير المباشر في الاستعباد ونهب الثروات.

وبذلك نصل إلى قطب الرحى: النخبة الأخيرة: نخبة القدرة أي النخبة الاقتصادية، والتي هي مثل النخب الاربعة التي درسناها مجرد غطاء مباشر الآن عن من بيده اقتصاد البلاد وسر استعباد العباد في سياسة الاستعمار غير المباشر الذي هو أقل كلفة من المباشر على المستعمر القديم.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي