**** النخب العربية منحنى تطورها النازل، ما علته؟ الفصل الأول
ما الذي يجعل النخب العربية بجنسيها، • الذي يدعي الكلام باسم الفكر الديني التقليدي • والذي يدعي الكلام باسم الفكر الفلسفي الحديث بعد قرنين كاملين من محاولات النهوض أن تكون حتى بالقياس إلى عصور الإنحطاط أقل وعيا بمحددات بناء الأمم وتحقيق شروط دورها التاريخي الذاتية والإضافية؟ ما الذي يجعل: • نخبة الإرادة (الساسة) • ونخبة العلم (الأكاديميون) • ونخبة القدرة (الاقتصاديون) • ونخبة الذوق (الفنانون) • ونخبة الرؤية (الدينية والفلسفية) كلها لا تقبل المقارنة مع مناظريها في العالم سواء الغربي أو الشرقي الذي تمكن خلال هذين القرنين من التدارك في حين أننا نكصنا إلى الحضيض؟ لماذا نلاحظ أن منحنى التطور في هذه النخب نازل وليس صاعدا، بحيث في أي بلد عربي الحصيلة الحالية بعد هذين القرنين لم تنتج نخبا أفضل، بل هي أنتجت ما هو أسوء في المجالات الخمسة التي ذكرت: • في السياسة • وفي البحث العلمي • وفي الانتاج الاقتصادي • وفي الإبداع الجمالي • وفي وضوح الرؤى الوجودية؟ فلو أخذت تونس أو مصر -ولأكتف بهذين المثالين- فلن تجد الآن إلا من هو دون الجيل الأول في بداية حركة النهوض، والثاني بعد تحصيل القلة على الثقافة الحديثة، ثم بعد ستة عقود من الاستقلال لا تجد إلا التردي في النخبة السياسية والعلمية والاقتصادية والفنية والرؤيوية؟ ما العلة؟ وكيف نفهم ذلك؟ وصفت النخبة السياسية بكونها نخبة الإرادة. فما العلة؟ إنها هي رمز القوة السياسية في الجماعة. وغالبا ما تتألف من المواطنين الذي يطمحون لتمثيل إرادة الجماعة. ولهم قيادة ذات كاريزما-يسميها الغزالي معتبري الزمان-وهو يتبعون رؤية، بعضها واع وبعضها غير واع للصالح العام وشروط تحقيقه. فيكون مفهوم القوة السياسية المتشكلة في حزب معبرة عن إرادات فردية تجمعها رؤية للصالح العام ولاستراتيجية تحقيقه بقيادة يرون فيها الأقدر على التعبير عن هذه الرؤية وعلى تنفيذ هذه الاستراتيجية، وأساسها أن تكون سواء في المعارضة أو في الحكم ممثلة لإرادة الجماعة ككل وليس لإرادة الحزب. وحتى أيسر فهم هذا المعنى، فالحزب وأعضاؤه-أي حزب-يشبه النائب في السلطة التشريعية، لأنه ينوب دائرة مباشرة لكي يوجد كممثل فيها لدائرته، وما أن يصبح نائبا يتحول إلى ممثل للجماعة كلها. كل حزب كقوة سياسية يكون من البداية مترشحا لذلك ومقدما نفسه كأفضل خيار لعلاج قضايا الجماعة الوطنية.
ولنسأل أي متابع هل يوجد اليوم في بلاد العرب أحزاب تشبه من حيث هذين الوصفين ما كان عليه الأمر في بداية القرن الماضي إلى حدود الاستقلالات وما تلاها من انقلابات فيها؟ هل توجد احزاب لها هذه الصفات وبوسعها أن تمثل قوة سياسية حقيقية، بمعنى أن الجماعة الوطنية تعتبرها ممثلة لإرادتها؟ أليست كل الأحزاب-إذا ما استثنينا الحركات الإسلامية التي هي ليست أحزابا، بل فرق يغلب عليها مفهوم الجماعة الدينية-جماعات هامشية من نوعين: 1. تعبيرات نفسية لمراهقات زعاماتية ككل الاحزاب التي تكونت بعد الثورة في تونس أو في مصر 2. تكوينات مخابراتية تابعة للأنظمة الحاكمة أو التي كانت حاكمة
فمثلما أن الأحزاب الكرتونية تتمنى أن تكون في حماية اجهزة الشوكة لكنها تلغيهم مثل منافسهم الإسلامي بعد أن تعتمد عليهم غطاء سياسيا زائفا ضده، والأحزاب الإسلامية لو حصلت على أجهزة الشوكة لأصبحت مثل الأحزاب الكرتونية، لأن الشوكة لن تبقي عليهم إلى غطاء سياسيا لحكمها.
لذلك، فالمأزق واحد، المأزق الحائل دون نشأة المجال السياسي السلمي، لأنه الآن في الحالتين مجرد غطاء لصراع خفي يوظف الأحزاب الكرتونية والحركات الإسلامية وخاصة المنافس منها للإسلاميين الذين قبلوا بما يسمونه اللعبة الديموقراطية في معركة المافيات العميلة للاستعمار في كل بلاد العرب. والنتيجة هي أن ممثلي الإرادة تنقصهم القدرة التي تجعل الشرعية مقدمة على الشوكة. هم إذن لا يصلون إلى الحكم بالشرعية كقوة سياسية تستعمل اجهزة الشوكة وليس العكس كالحال في بلاد العرب، حيث الوصول إلى الحكم بالشوكة والسياسي مجرد غطاء يلغي بعد الوصول إليه فيكون أداة مافية بيدها الأجهزة. لكن المافيات المسيطرة على اجهزة الشوكة التي تستعمل الدمى السياسية (النموذج العام في بلاد العرب له شكلان: • جزائري بين العسكر والأحزاب • ومغربي بين المخزن والأحزاب) لا بد لها من سند أعمق هو سند نخبة الوجود أو الرؤى الوجودية بصنفيها التقليدي أو الديني والحداثي أو العلماني. ونخبة الرؤى العلمانية لم تنقسم بين الشوكة الحاكمة بالأجهزة والشرعية الشعبية، بل كلها مع الشوكة لأنها تعلم استحالة الحصول على شرعية شعبية بمقتضى العوامل الحضارية والتقاليد، لكن النخبة التقليدية منقسمة إلى صفين: التي مع الشوكة نوعان: • إيجابا وهم سلفية المخابرات • وسلبا وهم حمقى الجهاديين ومن ثم، فالشرعية التي يمثلها الانتقال من الوصول إلى الحكم والبقاء فيه بالاعتماد على الشوكة ليس لها الأغلبية الكيفية رغم أن الأغلبية الكمية أو الشعبية معها دون شك. ولذلك، فالمجال السياسي السلمي لم يتحقق بعد، ومن ثم، فقيادات الاحزاب في تونس أمراء حرب باردة وليسوا ساسة. وهم بالقوة أمراء حرب حارة بمعنى أمانيهم هي انتظار “البيان عدد 1” ليخرجوا من وضعية نية الاستئصال والعجز دونها. ومن ثم فلا برامج لهم إلا استئصال الإسلاميين. ولو كانت فرنسا وأمريكا تريدان في تونس ما يحصل في ليبيا وما حصل في مصر، لما تردد أحد منهم في المناداة بذلك علنا وصراحة. بل إن بعض “فاجراتهم” لا تترددن في الإعلان عن ذلك. وهن يشبهن “مهرج” البلاط الذي يعبر عما في الصدور تعبير المجانين والأطفال والمجذوبين عما تخفيه “إمارة” الحرب الباردة التي هي مستعدة للاشتعال لولا حاجة أوروبا للهدوء في ضفة الأبيض المتوسط الجنوبية بسبب الخوف من طوفان الهجرة.
ولأختم هذا الفصل الاول بكلمة حول فساد استراتيجية الإسلاميين في علاج هذه القضية. فليس المشكل هو الفصل بين المرجعية الدينية والوظيفة السياسية أي بين الدعوة والحزب، المشكل هو غياب مفهوم الحزب. فالحزب قوة سياسية كما بينا ذات مرجعيتين قيمية ووظيفية. ولا يمكن الفصل بين القيمية والوظيفية. فحتى الأحزاب العلمانية لها مرجعية قيمية ولها دعوة ولا تفصلها عن المرجعية الوظيفية. والمرجعية الوظيفة هي الخيارات المصلحية واستراتيجية تحقيقها. فليس للأحزاب الإسلامية خيارات مصلحية بالمعنى الذي صنفت به الأحزاب ولا استراتيجية لتحقيقها.
لا يكفي الكلام على العدالة في الإسلام وعلى تاريخ التضامن الاجتماعي فيه حتى يكون ذلك خيارا مصلحيا واستراتيجية لتحقيقه. فالخيار المصلحي يتعلق بشروط إنتاج الثروة وبشروط توزيعها، أو بالبعدين الاقتصادي والاجتماعي. وهو جمع بين تشجيع انتاج الثروة وتشجيع عدل التوزيع. والأنظمة في العالم اليوم لم تعد مخيرة بين هذا أو ذاك، بل إن من كان يركز على ذاك وجد أنه يقتضي أخذ شيء من هذا، والعكس بالعكس، فصار اليمين اقتصاديا متياسرا اجتماعيا وصار اليسار اجتماعيا متيامنا اقتصاديا، ولم يبق حاكما أو معارضا فعلا في العالم إلى يسار اليمين ويمين اليسار. لكن الإسلاميين تصوروا القضية بالصورة التي فرضها عليهم خصومهم أي قضية العلاقة بين المرجعية الروحية والمرجعية المصلحية لكأنه يوجد حزب حتى لو كان علمانيا يفصل بين المرجعية الروحية أو القيم التي يدافع عنها والسياسة التي تحقق هذه القيم بآليات السياسة وليس بالوعظ والإرشاد.