الميكروأخلاق، أو الذات ومنزلتها في الاسلام – الفصل الثاني

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الميكروأخلاق

فكيف نحدد هذه الذات التي لا شريك لها في حريتيها وما يترتب عليهما من مسؤولية؟

فالموجود بما هو موجود منخرط في نظام وجوده مع غيره أي في قوانين المشاركة في الوجود الذي يشمل كل الموجودات ولا محيد لها عنه. والخضوع لهذا النظام مضطر وليس حرا.

فما الذي يميز الإنسان ليعلو على الضرورة فيتفرد؟

فكيانه العضوي وإن تفرد بعينه-والتفرد بالعين هو كون الموجود موجودا-لا يتفرد بالخروج على نظامه حتى عندما يفسد بل يبقى خاضعا للضرورة ليس طوعا بل كرها. ومن ثم فالتفرد لا يأتي من الكيان العضوي بل مما يتجاوزه إلى ما فيه من قدرة على العودة على هذا النظام والوعي بإحاطته به قيدا خارجيا.

الوعي الذي للإنسان بانحياطه بالعالم شبه نظام رؤية لما يحيط به قد لا يكون خاصا به فلعل الموجودات الأخرى -وخاصة الحية لكن الجامدة أيضا لها ما يشببه كما في الكيمياء غير العضوية التي لا تخلو من قوانين جذب ودفع بينها-لها ما يناظره إذ هي تتنافس على شروط البقاء فيعيش بعضها من بعضها.

لكن ما ليس لها مما يختص به الإنسان هو الوعي بهذا الوعي. فالمستوى الأول من الوعي المحيل للأحياز الخارجية الشارطة لبقاء الكائن يحيل لموجودات خارجية بما فيها بدن الإنسان. وفعل الإحالة أو المستوى الاول من الوعي الذي يحيل إلى دلالات خارجية هو بدوره محال عليه في المستوى الثاني من الوعي.

وفعل الإحالة الثاني الذي يحيل إلى ذاته كفعل إحالة هو ما لا شركة فيه لأحد مع أحد وهو جوهر الفردية. فينبع فعل الإحالة بمستواه الاول فتكون الذات مركزا مدركا لتفرده وكأنه شمس تشع على كل الوجود خارجها بما فيه ذاتها إذ إن احالتها الأولى بفضل أحالتها الثانية تحيل إلى ذاتها وكأنها خارجها.

وهذا هو مصدر القدرة على تجاوز الموجود إلى التعبير عن الوعي به تعبيرا هو أصل كل الإبداعات الرمزية معرفية كانت (للدلالة Bedeutung) أو تعبيرية (للمعنى Sinn) التي تمثل المستوى الثاني من وجود الإنسان الوجود الرمزي المتحرر من سلطان الضرورة والذي يرمز إليه القرآن بتعليم آدم الاسماء كلها.

وتلك هي العلة في تخصيص محاولة من عدة فصول حول ما سميته انطولوجيا اللسان ومضاعفة علومه الثلاثة في النظرية اللسانية: فعلم الدلالة مضاعف لأن الترميز ليس كله محيلا إلى مدلولات وعلم التداول مضاعف. فالتداول يكون حول المدلول واللامدلول فيكون علم النظم متجاوزا إلى المعنى واللامنطق.

والإحالة إلى الدلالة مرجعية للقول مثلا شرطها أن نسقط على المدلولات منطق الدوال فنعتبر المسميات خاضعة لمنطق الأسماء. وفيه رد للوجود إلى الإدراك. لكن الوجود كما قال ابن خلدون أوسع من الإدراك. وتجاوز الإدراك ونحو الألسن والمنطق هو التعالي على ضرورة نظام الطبيعة سموا إلى نظام الاخلاق.

وهذه هي السريرة التي لا يعلمها الفرد من ذاته والتي هي من الغيب الذي نؤمن أن الله وحده يعلمه. لم يحيرني شيء قدر تحيير هذا السر: لو أجد من يعرف لي الوعي بالذات لاعتبرته مرسلا من رب السماء ليهديني في محاولة فهم نفسي والاطلاع على ما يعتمل فيها من غليان لا يتوقف لا سلطان لي عليه.

حيرتي: من هذا الذي في ذاتي ينفصل عنها لينظر إليها من خارجها من يكون؟

فمن أنا. هل أنا السائل من خارج عني في الباطن؟

أم أنا المسؤول عنه في الباطن من السائل في الخارج والذي أجهل حقيقته: وعيي بوعيي بغيري وبذاتي وكأنها غيري ما حقيقته؟

سأفترض عقلا لأني أومن نقلا أنه الروح من أمر ربي.

فهذا الروح شاهد ومشاهد أراني بفضله في سيل الزمان يجرفني ويشدني إلى الفاني وفي آن اراني كالغارق في أمواج المحيط اجدف بكل جوارحي للطفو على أمواجه ناظرا إلى ما يتعالى عليه وما يمكنني من أن اخط بنفسي طريقا باجتهادي فهما وعبارة وبجهادي فعلا وتنظيما لأثبت أهليتي في التعمير والاستخلاف.

والسؤال هو: لماذا لا يمكن للفرد أن يدرك فرديته من دون هذه العلاقة المباشرة مع رب يعبده ويحدد ذاته بوصفه خليفة أو متصفا بنز من صفات هذا الرب: فله نز نسبي من الإرادة المطلقة والعلم المطلق والقدرة المطلقة والحياة المطلقة والوجود المطلق وبها جميعا يتعالى على الضرورة فيكون حرا.

ولماذا تمثل هذه العلاقة منطلق كل فهم لما يحول دونها والبروز في حياة الإنسان الخلقية أعني ما به يتمكن الإنسان من السلطان على الطبيعة التاريخ أو الكثيف دون الشفيف يمنع بمجراه الذي لا يتوقف شوق التعالي لولا أن كان للإنسان ما به يرى آيات الله فيهما قوانين وسننا للآفاق والانفس؟

ذلك هو موضوع بحثنا في الميكرو اخلاق: الأخلاق في مستواها الفردي هي الدراما الابدية في كيان الفرد الذي يحاول الطفو وعدم الغرق في أمواج السيلان الابدي الذي يمثله بعداه الطبيعي والتاريخي وسيطين بينه وبين ما يشرئب إليه من خلود بفضل العلاقة المباشرة بينه وبين مثاله الاعلى أو ربه.

وعندما أنظر في قصة خلق آدم كما يرويها القرآن أعجب من كون الرمز إلى خلقه يختلق مطلق الاختلاف عن خلق كل ما عداه من المخلوقات: فالله يخلقها جميعا بأمر “كن”. آدم خلقه بيديه. فما الذي فيه يجعل “كن” لا تكفي لخلقه؟ وهل هو علة استخلافه أو علة أعداده للخلافة؟

لا أهتم بحقيقة ذلك أو رمزيته.

لست بصدد الكلام عن الإيمان أو عدمه بل عما يتميز به الإنسان من حيث الكيان عن غيره من الموجودات التي تحيط به والمنزلة التي تحددها مرجعية المسلمين والتي هي عندي ما ينبغي أن يفخر به شباب الأمة بجنسيه وخاصة بما ترتب عليه من تحديد لمنزلة الإنسان ووحدة الإنسانية.

فمنزلة الإنسان خليفة لمثاله الأعلى الله ووحدة الإنسانية هما الثورة الكونية التي ما تزال الإنسانية الحديثة دونها بسنوات ضوئية. مشهد الاستخلاف والآية الاولى من النساء وحدهما كافيان لأن يكون الشاب المسلم في ذروة العزة والمجد فلا يتزعزع الشعور بالكرامة وأهلية الشهادة على العالمين.

فجميع البشر من نفس واحدة. ومن ثم فللإنسان رحمان: رحم كلي أصلي هو النفس الواحدة التي خلق منها زوجها ومنهما خلق الرجال والنساء. ورحم جزئي فرعي للقبائل والشعوب التي تلت خلق الرجال والنساء. ووصل الاول بالربوبية ووصل الثانية بالألوهية. وللبشر رب واحد وآلهة متعددة وهما واحد في الإسلام.

وهو ما يعني تقديم الذات على الجماعة فيما يتعلق بالمنزلة الإنسانية والجماعة نفسها تتحدد بأخلاق أفرادها التي ترد إلى خمسة مقومات هي شروط الاستثناء من الخسر:

  1. الأصل هو الوعي بشروط الاستثناء من الخسر والفروع أربعة:

  2. الإيمان

  3. العمل الصالح

  4. التواصي بالحق

  5. التواصي بالصبر.

وهذه هي الميكرو أخلاق التي تؤسس للماكرو أخلاق والتي تجعل الفرد المتصف بها قادرا على إصلاح الجماعة بفضل حريتيه الروحية (علاقته المباشرة بمثاله الأعلى) والسياسية (علاقته غير المباشرة به برؤية آيات الله في الآفاق والانفس وطلبها قوانين طبيعية وسنن تاريخية تؤهله للتعمير والاستخلاف).

وبذلك يتعين مجال البحث: الاحياز الذاتية التي يتقوم بها الفرد من حيث هو فريد نوعه ذاتا لها نفس مقومات الأحياز الخارجية لكأنه نسخة منها في نسبة خارطة العالم مرسومة في نقطة منه. فخارطة الأرض نقطة منها تشتمل على كل ما هو معلوم للإنسان منها: الفرد نفطة وجودية ترمز للكون بنقطة منه.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

يقوم على الموقع عاصم أشرف خضر مع مجموعة من طلاب الأستاذ ومتابعيه.
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي