لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالميكروأخلاق
في محاولة بلغت عشرين فصلا استكملت كلاما سابقا لي حول نظرية المقاصد خلال حوار دار بين المرحوم الشيخ البوطي وبيني (دار الفكر دمشق وبيروت منذ أكثر من عقد) أجاءني إليها دعوتي للشهادة مع ثلة من الزملاء حول عمل الشيخ أحمد الريسوني أطال الله في عمره. وهي محاولة تحلل مسار تأصيل الفقه.
ولا أعتقد أني سأعود إلى الموضوع رغم أن كل ما أكتبه له به صلة لأن إشكال الاستئناف التاريخي لدور الأمة مرتهن به وبنظرية الحريتين القرآنيتين اللتين بفضلهما يمكن للإسلام فعلا أن يصبح الملجأ الوحيد للبشرية كلها حماية لها مما تردت إليه بسبب سيطرة دين العجل الذهبي وخواره على العالم.
لكن البحوث النظرية والتأسيسية قد لا تجدي نفعا إذا لم يتقدم عليها استرداد شباب الامة بجنسيه الثقة في ذاته والاعتزاز بحضارته رغم وضعها المهين حاليا. فالحرب النفسية والحضارية على الإسلام والمسلمين لا يمكن أن ينكر أحد أنها قد بلغت النخاع من جل الاجيال التي ربيت بقيم التبعية الثقافية.
محاولتي التي أشرع فيها الآن هدفها علاج هذا الداء العضال الذي هو حرب لطيفة أبعد غورا وتأثيرا من الحرب العنيفة. فالشعوب التي تفقد ثقتها في ذاتها وفي قيم حضارتها يعسر أن تصمد طويلا في الحرب العنيفة لأن الهزيمة تنتهي باللطيفة لما تتخلى عن آخرة مراحل الصمود بلغة كلاوسفيتز.
في المحاولات السابقة كان الهدف علاج ما يمكن تسميته “الماكرواتيك”(الاخلاق الكلية) أعني ما يتعلق بالجماعة والمجتمع والدولة أعني كل ما شوهه التأصيل الكاريكاتوري عند أدعياء الكلام باسم الإسلام خلطا بين قيمه وقيم الجاهلية والتحريف التي نكص إليها كل المسلمين والعرب منهم على وجه الخصوص.
وكان آخرها الفصول العشرين التي خصصتها للفقه وتأصيله انطلاقا من غايته الحالية التي يسمونها نظرية المقاصد والتي هي جملة الحيل التي تبرر تطويع قيم الإسلام لما يريد حامي الانظمة العربية للإبقاء عليها حكاما مستبدين وفاسدين يأتمرون بأوامره ومعارضات تدعي الجهاد بأمراء حرب مثلهم بالقوة.
وضاعف التأصيل الكاريكاتوري التحديث الأكثر كاريكاتورية منه لأن أصحابه توهموا أن ثمرات الحداثة ممكنة من دون شروطها فلم يروا فيها إلا أيديولوجيته وأدنى حرياتها التي تحولت إلى عوائق النهوض المستقل لأنها بالجوهر استهلاكية تعميقا للتبعية وفقدانا للسيادة لعدم الانتاجين المادي والرمزي.
لكني فيما سيلي من المحاولات سأركز على “الميكروأخلاق” اي كل ما يتعلق بالفرد بأجناسه العضوية والنفسية التي تتجاوز الاعتراف العرفي (فهي تتألف من حدين بسيطين هما الرجل والمرأة مع تركيب منهما بالتعاكس رجلا متخنثا وامرأة مترجلة وجنس يجمع بينها جميعا) فتمثل أساس العلاقة الأفقية.
وللميكروأخلاق في مستواها الأفقي بين البشر اساس أعمق هو مستواها العمودي بينهم وبين الطبيعة مصدرا لقيامهم العضوي الذي يستمد معينه من الطبيعة عامة ومن الأرض خاصة وهو الغذاء والماء والهواء وكل تأثيرات المناخ في قيام الإنسان وتوالي اجياله برزقهم ثمرة عملهم وعلمهم والتبادل والتواصل.
والميكروأخلاق محوطة بالماكروأخلاق. وقد اعتبرت اساس هذه راجعا للأحياز الجماعة الخارجية (الجغرافيا والتاريخ والتراث والثروة والمرجعية الروحية للجماعة) وأساس تلك راجعا لأحياز الفرد الذاتية (البدن والنفس وزادها من التراث مضمون النفس وزاد البدن من الثروة مضمونه العضوي وعقائد الفرد).
وما يحصل من تفاعل بين الأحياز الخارجية والأحياز الذاتية هو دينامية الحياة الفردية والجماعية وهو ما يمكن أن نطلق عليه اسم القاعدة الأساسية لكل التاريخ الإنساني وكل ما عداه وسائل وأدوات حضارية وثقافية تبدعها الإنسانية وتتوارثها لحل مشاكل حياتها في العلاقتين الأفقية والعمودية.
وفي ذواتنا أعم من في نفوسنا. فالأول اجتماعي وجودي والثاني نفسي وجودي. وإذا افترضنا الوجودي فيهما واحدا فالنفسي والاجتماعي مختلفان. فيكون مطلوب الميكروأخلاق وجودي متجليا في الاجتماعية وفي النفسية اللتين بهما يتعين مدلول الفرد إضافة إلى العضوية (بدن) ورؤيته وأصلها جميعا الفردية.
وقد أجزت لنفسي استعمال ماكرو وميكرو قياسا على الاقتصاد. وهو في الغاية ثمرة عمل الإنسان على علم لسد حاجات البدن وما يتصل بها من كن ورفاهية وتعابير عن الذوق الجمالي والجلالي وعلى السلطة للفرد والجماعة وعليهما. والأخلاق هي في الغاية ثمرة وعي الإنساني القيمي المصاحب لأفعال الإنسان.
وإذن ففيها مثل الاقتصاد وجهان ماكرو وميكرو. وهما مدخلان متكاملان لدراسة الظاهرتين بالتوازي. فالإنسان حيوان مبين. وهو حيوان متلق للإبانة من جنيسه هو شرط التواصل الذي هو شرط التبادل الذي هو علة الاجتماع الذي هو شرط قيام الإنسان المادي والروحي: وكلها كونية الدور والمعنى والتراكم.
وهذه الرؤية هي جوهر الرؤية القرآنية ومعنى الرسالة الخاتمة لأنها ليست دين قوم دون قوم بل هي تذكير للإنسانية بما فطرها الله عليه من الحريتين الروحية (لا وساطة بين المؤمن وربه) والسياسية (لا وصاية على إرادة الإنسانية وحكم ذاته بذاته): فالرسالة تذكير بهذه المقومات وتحذير من تعديها.
صوبوا الوجهة وحاولوا اخراج الاجتهاد والتواصي بالحق (النظر) والجهاد والتواصي بالصبر (العمل) من التشقيق اللفظي والشروح اللغوية إلى النظر في الآفاق والأنفس اللذين تتجلى فيهما آيات الله ليتبينوا حقيقة القرآن الذي هو تذكير بما فطر عليه الإنسان كيانه وشروط أدائه لوظيفتيه معمرا ومستخلفا.
وبذلك عرف وجوده في الدنيا رمزيا بكونه اختبارا لأهليته فيهما وشرط ذلك هو عين شرط التكليف: أعني الحرية بمدلوليها. فلا تختبر أهلية الإنسان للتعمير والخلافة إذا لم يكن حرا روحيا أي غير خاضع لوسيط بينه وبين ربه. ولا تجلي لهذه الحرية الروحية إذا كان خاضعا لوصي بينه وعلاقتيه بشروط قيامه.
فمن دون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل الشؤون السياسية ببعديها تربية وحكما أعني مقومي تنظيم الحياة الجماعية لتحقيق شروط التعمير والاستخلاف لا يكون الإنسان حرا سياسيا ومن فقد الحرية السياسية لا يبقى له شيء من الحرية الروحية التي هي وعي الإنسان بمسؤوليته في كل أفعاله.
ما سميناه ميكرو أخلاق أو الاخلاق الجزئية في إطار الأخلاق الكلية هو الذاتي بإطلاق وهو ما سنحاول البحث فيه بالتناظر مع ما قمنا به في كلامنا على الماكروأخلاق أو الاخلاق الكلية من خلال درس الأحياز الخارجية وعلاقة الإنسان بها. وكلامنا في الحالتين كوني يشمل كل البشر.
وتجاوز الخصوصي إلى الكوني ليس اختيارا شخصيا فحسب بل هو ما طبقه ابن خلدون عندما سمى علمه “علم العمران البشري والاجتماع الإنساني” بمعنى أن ما يطلبه ليس خصوصيات المسلمين بل مقومات الوجود الإنساني عامة معمرا لسد الحاجات (العمران البشري) ومستخلفا (الاجتماع الإنساني) للأنس بالعشير.
وهذا المنظور قرآني بإطلاق: فالرسالة كونية ولذلك فهي خاتمة وهي توجيه للإنسان بالتذكير والتحذير. فالتذكير توجيه نحو علل نسيان الفطرة والتحذير توجيه نحو مآل من يتعدى حدود الله أي ما رسم في كيان الإنسان من تكليف بالتعمير والاستخلاف وشروط تحقيقهما اختبارا للأهلية وتحملا للمسؤولية.