الميكروأخلاق أو الذات ومنزلتها في الاسلام – الفصل الرابع

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الميكروأخلاق

ولست أعجب مما يشبه الخجل من الذات لدى الكثير من الشباب المؤمن فضلا عن الشباب الذي تجاوز الحياء إلى التنكر للذات لكل قيم الحضارة الإسلامية بسبب ما سماه ابن خلدون “فساد معاني الإنسانية” الناتجين عن الانقلابين وتأثيرهما في التربية والحكم بعدي كل سياسة إنسانية.

وكانت النتيجة أن جعل الانقلاب الروحي يزيل معنى الذات الحرة والمتفاعلة بإرادتها وعلمها وقدرتها وحياتها ووجودها مع الطبيعة ومع التاريخ أزالته من أصله فتحول الافراد إلى أشبه بالأنعام لا سلطان لهم على ذواتهم فضلا عما يحيط بهم بل هم تابعون لدجالين: كالحال لدى الشيعة وأمثالهم من السنة.

وأبرز ما في الظاهرة لدى السنة هو أن المذهب الذي كان أيمته أدرى الناس بالتحريف الشيعي صار نظامهم السياسي يستعمل نفس الفنيات في الحلف بين سلطة روحية أشبه بالكنسية (وخاصة المدخلية) وسلطة سياسية أشبه بالعصابات القبلية من المحتمين بسيدهم الذي نصبهم على قطعة من دار الإسلام)

لكن السلطة الروحية الوسيطة النافية للمؤمن الحر تلغي شروط الاستثناء من الخسر الذي حدد مقومات الذات التي تتألف من تعددها وحرياتها الجماعة المؤمنة وهي خمس: الوعي بأن فقدان معاني الإنسانية هو الخسر والتحرر منه بالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.

لكن الحلف بين وساطة سلطة روحية حررنا منها الإسلام (كنسية تدعي الأصالة أو تدعي الحداثة) ووصاية سلطة سياسية (بنفس الدعويين) حررنا منها الإسلام أفقد الفرد المسلم مقومي الفردي أعني الحرية والمسؤولية فصار عديم الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود كأنه من الأنعام.

والنتيجة أن الأمة اليوم تعاني من أمراء السياسة بنوعيهما القبلي والعسكر وأدعياء المعرفة بنوعيهما التأصيلي والتحديثي في الحكم والمعارضة: فمن منهم في الحكم من أذل خلق الله لخضوعهم في محميات تبقيهم عليها قواعد استعمارية ومن في المعارضة من أكثر خلق الله وحشية بسبب تشويه الجهاد والإسلام.

الأولون تخلوا عن عزة الإسلام والثانون تخلوا عن فروسية المجاهدين. وبهذا المعنى فالشاب الذي يستحي من النسب الإسلامي معذور لأن ما يراه لا علاقة له بالإسلام بل هو نقيضه المطلق: فالأولون أنسوا الشباب البطولة والثانون أنسوهم وصابا الصديق للفاتحين من فرسان الإسلام.

ولا يمكن أن تكون الشخصيات الفردية سوية إذا كان مرباها في جماعة تراوح بين الاستكانة والغضب بين الذلة والمهانة وبين عنتريات لا تمثل العزة المطمئنة لشعب يثق في نفسه لعلمه الموجب بقيم حضارته. وإذن المشكل كله هو أن البيئة الروحية والرمزية للجماعة أصبحت مريضة: فساد معاني الإنسانية.

وما سماه ابن خلدون فساد معاني الإنسانية يسميه القرآن بالخسر وعبارة الرد أسفل سافلين تجمع بين المفهومين: فابن خلدون يستعملها دلالة على أدنى قرار تصل إليه الشخصية الفردية التي تفقد معاني الإنسانية ويجملها في صفات خلقية ومدنية تتفرع عن فساد معاني الإنسانية.

كل كيان الإنسان بما هو إنسان فرد قائم بذاته يضمحل بسبب المناخ التربوي والسياسي (أبن خلدون يقيس الساسي على التربوي في آثار فساد معاني   الإنسانية):

  1. أثر نفسي بدني

  2. أثر نفسي خلقي

  3. فصام بين الباطن والظاهر

  4. فساد الحمية والمدافعة

  5. الكسل عن اكتساب الفضائل والارتكاس.

والارتكاس إلى النزول دون منزلة الإنسان أو العودة أسفل سافلين شرح لمفهوم {إن الإنسان لفي خسر} بسبب فقدانه حريتيه اللتين تجعلانه يؤمن ويعمل صالحا ويتواصى بالحق (بدل فصام الباطن والظاهر) ويتواصى بالصبر بدل فساد الحمية والكسل عن اكتساب الفضائل: فقدان الذات لمقوماتها.

وهذا الفساد يشمل شروط القيام المستقل ما تعلق منها بالبدن والنفس والاخلاق الذاتية أو رؤية الذات لذاتها وأخلاق التعامل مع الغير وفقدان الاستقلال التام عمن يحميه من الوسطاء والأوصياء في الحماية وفي الرعاية فيكون مجرد تابع ذليل لا إرادة له ولا علم ولا قدرة ولا حياة ولا وجود.

وحينها لا يبقى للفرد أدنى كثافة وجودية إذ يعوض فيه الظهور الوجود فيكون زائف الكيان في كل عباراته عن إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده طنين لا معنى أو مجرد ظاهرة صوتية إذ هو يكون كما وصفه ابن خلدون عين الإعياء الوجودي كسلا بدنيا وعجزا نفسيا وطلبا للهو والثرثرة إدمانا للعدم.

فتفهم ظاهرة الارتماء في البحر للكثير من الشباب وحتى الشابات طلبا لجنة ما وراء البحر ومن بقي فيه ذرة إيمان اليائسين يلتهمه اللاعبين على تهييج فضائل الماضي لقتلها بتشويهها فيصبح ما كان سلوك فرسان أشبه يهجيان القطعان التي لا هم لها إلا خدمة أمراء حرب أفسد من الحكام وأطمع في دورهم.

فيصبح فساد معاني الإنسانية الذي “قنقر”(من القنقرينا) الكيان العميق للذوات التي غرقت في الفاني وأصبح الباقي سلبيا لأنه بدلا من يكون تساميا بالباقي على الفاني هروبا من الاختبار الذي يعتبر القرآن الدنيا مجاله اجتهاد وجهادا للتعمير بقيم الاستخلاف. فيصبح الاتباع بديلا من الإبداع.

فإذا نظرت إلى الضابط والحاكم والمثقف والاقتصادي والفنان والتاجر وكل ذي دور في حياة الجماعة تشعر وكأنك ترى أشكالا جوفاء لا شيء منها له مضمون كثيف يعبر عن كيف وجودي ما يمكن الاستناد اليه بل هي أسماء لا مسميات لها وكأنها رسوم على أرضية العدم انفعال ولا فاعلية اصلا.

لا أحد يعمل الكل يوهم بأنه يعمل. لا أحد ينتج. لا أحد يبدع. الكل كالأنعام يستهلك أي شيء ويبيع كل شيء حتى يطيل في عدم الحرية الروحية أنه من جنس نبات الكشبور خاوي القلب ومنفتح القشرة فيكون خواره فحيح ريح لا تسمن ولا تغني وصار حال وجودهم كحال عملتهم في نزول إلى قرار بلا غاية.

وهذه الحال التي تجعل بعض الذوات ممن بقي فيه بعض حياة يختنق بالمقابر التي تحيط به مقابر فساد معاني الإنسانية كما بينا وصفها الخلدوني. إنها تجلي هذا الفساد في كيان الافراد بسبب التربية والحكم الحنيفين اللذين يبدوان فاعلية الطاغوتين الروحي والسياسي وهي انفعالية الرد أسفل سافلين.

إذا نظرت إلى انتفاشهم بمجرد رؤية ما يحلون به صدورهم من نياشين تظنهم أباطرة وابطال لا مثيل لهم إلا في الأساطير لكنهم في الحقيقة رمز طغيان الظهور الأجوف الدال على العدم في بواطنهم وهم أذل خلق الله حكام وضباطا وإذا أمعنت النظر رأيت مسرح عرائس ودمى وخاصة في قممهم الهزلية.

ألقاب سلطنة في غير مملكة كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد. وكل جيل يربى في هذا المناخ يزداد عنفا بسبب فوضى الرد أسفل سافين وينقص وجودا ومن ثم فما يجري في المحميات العربية التي يختنق الشباب الحي فيها أشبه بالدونكيخوتية المطلقة التي هي بصدد الاندثار الحضاري لولا أمل الشباب الثائر.

فيسيطر مناخ العجز الشامل وتبرد كل جذوة ذات فاعلية ولا يبقى إلا الارتماء في مجاهيل ردود الفعل كالمذبوح الذي يتخبط وقد عزل رأسه عن بدنه. تشعر وكأن الشعوب أبدان بلا رؤوس وترى الشباب حائرا أمام “ماذا أفعل”؟ فيسود الأبسورد أو اللامعنى واللامبالاة وكل الشنائع الممكنة.

يحاربون التأصيل بدعوى التحديث ويحاربون التحديث بدعوى التأصيل فلا يحدث حديث ولا يأصل أصيل فتشتعل حروب ليس فيها من غاية غير الصليل والصهيل والكذب والتطبيل كل يحارب غيره يلومه على ما كان ينبغي أن يلوم عنه نفسه بدل من أن يعمل كل ما يستطيع. يتتاهمون ويتلاومون ولا يفعلون.

ما يجري من فوضى عمت دار الإسلام وخاصة قلبها أو ما يسمى بالوطن العربي ليس بالأمر الاتفاقي بل هو تجل حقيقي لحالة روحية هي المناخ الذي ينتج وينتج عما سماه ابن خلدون بفساد معاني الإنسانية الذي علله بالتربية والحكم العنيفين. لكن الحكم والتربية العنيفين رددناهما إلى الانقلابين.

فتعطيل الدستور السياسي والاحتكام إلى قوانين استثنائية فرضتها حالة الطوارئ المناسبة للحروب الأهلية الاربع التي تلت الفتنة الكبرى في بداية تاريخ دولة الإسلام أدت إلى ما سماه الرسول الملك العضوض وهو سر التربية والحكم العنيفين وبهما يفسر ابن خلدون فساد معاني الإنسانية في الفرد.

فصار غيرهما يعلم علم الشاهدة الطبيعي والتاريخي بما سماه القرآن آيات الله في الآفاق والانفس بالمزاوجة بين قوانين الرياضيات والتجربة الطبيعية لأن الخلق بمقدار وبالمزاوجة بين سننه السياسيات والتجربة التاريخية صار العلم كله حفظ النصوص والشجار حول تأويلا لا سند مرجعي وجودي لها.

ومن ثم فعنف التربية ليس في استعمال الضرب والإذلال والتحكم من قبل المعلم فحسب بل المضمون المعلم هو نفسه عنيف لأنه يصب صبا في الأذهان دون إحالة إلى الأعيان ما دام دله كلام فيما لا أعيان له بسبب كونه كلاما في الغيب يؤسس لسلطان التزييف والتدجيل بالتخويف والتهويل.

وأحياز الذات (البدن والروح وزاد الذات الروحي أو التراث فعلا للبدن في الروح وزاد الذات المادي فعلا للروح في البدن ووحدة الذات أصلا للأحياز التي هي فروع تعينها في الوجود الفعلي) تجعل الأفراد مثل الفسل التي زرعت في بحيرة آسنة مآلها ذبول مقوماتها: إرادة وعلما وقدرة وحياة ووجودا.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

يقوم على الموقع عاصم أشرف خضر مع مجموعة من طلاب الأستاذ ومتابعيه.
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي