الميكروأخلاق أو الذات ومنزلتها في الاسلام – الفصل الخامس

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الميكروأخلاق

لا يمكن مواصلة الكلام على الذات ما لم نحسم أمرا ورثه علماء الملة وخاصة المتصوفة على الفلسفة هو اعتبار النفس جزءا من الذات وليست الذات عينها. ذلك أن الفلسفة اليونانية والأديان المتقدمة على الاسلام كانت تحتقر البدن خاصة والمادة عامة وتعتبرهما مدنسين ويسمون تهذيب النفس حربا عليهما.

وهذا بحد ذاته سوء فهم للذات ولرؤية القرآن لها. ومن علامات ذلك كثرة الثرثرة حول النفوس الثلاثة المزعومة وبنفس عقدة النقص وبحجة الاعجاز العلمي الكلام على السبق القرآني لنظرية فرويد في النفس والمباهاة بهذه السخافة. لكأن فرويد أو غيره يمكن الاحتكام إليه لتقييم القرآن.

لكن القرآن لا يعتبر النفس جزءا من كيان الإنسان أو دالة على ما نعتبره اليوم موضوع علم النفس بالمقابل مع علم البدن. ذلك أنه لو صح مثل هذا الكلام لكان الله نفسه مؤلفا من بدن ونفس. إذ هو يتكلم على ذاته بأن كتب عليها الرحمة فتكون كلمة نفسي تدل على ما نعنيه عندما نقول “أنا نفسي”: ذاتي.

ولأن الفلاسفة والمتصوفة والأديان السابقة على الإسلام لم تفهم ذلك لم تفهم عناية الإسلام بالبدن في الدنيا والآخرة. والمسلمون اليوم بسبب هذا الخطأ صاروا مثل الفلاسفة والأديان المتأثرة بها يحتقرون البدن وحاجاته والعناية به وهي من أهم أجزاء العبادات بل من شروطها.

فلا معنى للفروض الخمسة من دون النظافة والصحة والتغذية السليمة والايجيان في الذات وفي المحيط.. وهذه كلها قيم فقدها المسلمون فصارت أمة القذارة والأمراض والتغذية السقيمة بل والمجاعات الأليمة. وكل ذلك علته الانقلابان الدستوريان. فالمعرفي الذي أفسد التربية شرط العمل على علم.

والسياسي أفسد الحكم شرط حكم الأمة نفسها بنفسها (=ذاتها بذاتها). واصبحت جماعة المسلمين مثل البهائم التي يحكمها رعاة فاسدون تربية (علماء الثرثرة الكلامية دون سلطان على شروط القيام المادي والروحي) وحكما طواغيت فسدة ومستبدون هم مجرد أدوات بيد من يحميهم ويحمي استبدادهم وفسادهم.

وبهذا المعنى صار الكلام على الأخلاق مجرد ثرثرة حول القيم التي تصوروها مجرد أوامر ونواه خارجية لا أثر لها على شروط قيام الإنسان المادية والروحية: فمن دون التعمير وشروطه لا معنى للاستخلاف وشروطه. والأول شروطه علم وعمل بقيم خلقية والثاني شروطه هذه القيم الخلقية المحددة قرآنيا.

والقرآن حرر الإنسان من تصور الدين مرضا نفسيا تكون فيه ذات المرء نهبة للتخويف والترهيب الذي يجعل المرء يعاني من انفصام بين أحوال خمسة هي عين الخسر: النفس الأمارة والنفس المأمورة والنفس اللوامة والنفس الملومة وعدم الانتباه إلى النفس المطمئنة التي هي شروط الاستثناء من الخسر.

تربية جعلت الله طاغية فاقدا للرحمة فأزالوا الاطمئنان إذ صار الدين للتخويف والترهيب بدل بيان كرامة الإنسان ومنزلته المحررة من الاضطراب الروحي. { وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ۖ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۖ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.

وإذ يصف القرآن هذه الأحوال التي تكون فيها الذات مشتتة ومفتتة بين الذات الأمارة والمأمورة واللوامة والملومة بوصف ذلك عين الخسر يذكرها بالذات المطمئنة التي تدرك هذا الخسر فتنتقل منه بالوعي بحالها إلى شروط الاستثناء منه فتؤمن وتعمل صالحا وتتواصى بالحق وتتواصى بالصبر.

وإذا بما كان أحوال اضطراب يصبح أحوال نظام يحدد العلاقة بين الذات الفردية والذات الجمعية للإنسانية كلها فيصبح الدين عينه علة التفاؤل وعلاقة المحبة مع الله الذي لم يبق طاغية لا رحمة لديه بل هو عين الرحمة فتطمئن الذات وتصبح مكلفة ب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتأتمر وتنتهي.

وما إن نعيد هذه المعاني إلى مفادها الفعلي حتى تسترد الذات الإنسانية منزلتها ودورها في الوجود بوصفها مكلفة بالتعمير بقيم الاستخلاف فتصبح على وعي تام بالمعادلة الوجودية: فهي في تواصل مباشر دائم مع مثالها الأعلى الله وفي تواصل غير مباشر معه بتوسط شروط قيامها الطبيعية والتاريخية.

فتخرج بذلك من الغرف في أحوال الذات المنعزلة -أمارة ومأمورة ولوامة وملومة وفاقدة للاطمئنان-لتصبح ذات متواصلة مع المثال الأعلى(من آمن) وتعمل بما يناسب هذا التواصل (عملا صالحا) ولا يكون ذلك بالانعزال بل بالمشاركة في طلب الحق والعمل به: التواصي بالحق (الاجتهاد) والتواصي بالصبر (الجهاد).

فلماذا يكون الامر كما نصف؟

ذكرنا أن الذات الفردية وسط بين الطبيعة والحياة: فالرجل والمرأة كلاهما وسط يأخذ من الحياة الطبيعية (النبات والحيوان) ما تتكون منه ذاته التي تشبه المعمل الذي يصنع خلايا بها تتواصل الحياة الإنسانية بفضل التناسل.

فكيف يأخذ من الحياة الخارجية شروط بقائه؟

ما تتزود به الذات لا تأخذه مباشرة من الطبيعة (العلاقة العمودية) بل من الذوات الأخرى التي يتبادل معها الخدمات بفضل توزيع العمل في الجماعة. فتكون العلاقة الأفقية بين البشر شرط العلاقة العمودية بينهم وبين الطبيعة: من دون التعاون والتبادل والتعاوض لا إمكانية للذات الفردية أن تقوم.

وتنظيم هذا التعاون والتبادل والتعاوض ليكون عادلا هو سر الحريتين: فمن دون الوازع الذاتي (اساس التربية) والوازع الأجنبي (اساس الحكم) لا يكون اي من التعاون والتبادل والتعاوض عادلا فيصبح الوجود الجمعي حربا أهلية دائمة تجعل الذات أمارة ومأمورة ولوامة وملومة وعديمة الاطمئنان.

وتلك هي حال الخسر. والوعي به شرط في الانتقال إلى الاطمئنان الذي يتألف من الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر. فيكون الوازع الذاتي عين الحرية الروحية (الذات تأتمر بالمعروف وتنتهي عن المنكر) والحرية السياسية (التواصي مع غيرها بالحق وبالصبر) تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.

وهذا التطابق بين الوازعين الذاتي (الحرية الروحية) والأجنبي (الحرية السياسية) يترتب عليه تطابق بين نوعي الأحياز الخارجية والذاتية. فالذات تتألف من حيز مكاني هو بدنها ومن حيز زماني هو روحها ومن أثر الأول في الثاني هو زادها الرمزي أو تراثها وأثر الثاني في الأول هو زادها المادي أو ثروتها.

فزاد الذات المادي المتعين في قيامها البدني مستمد من الجغرافيا أو الحيز المكاني للجماعة وهو ثروتها التي تغتذي منها ماديا وزادها الروحي مستمد من التاريخ أو الحيز الزماني للجماعة وهو تراثها التي تغتذي منها روحيا وإذن فالوصل بين العالم والذات هو علم الجماعة وعملها بيئة للتربية والحكم.

والمرجعية واحدة: فالجماعة والذات لهما نفس المرجعية التي توحد بين الأحياز الخارجية لتكون وسط قيام الجماعة وبين الاحياز الذاتية للذات أي كونها هذا الكائن الذي كما وصفنا جعل القرآن خلقته مختلفة عن خلقة ما عداه: لم يخلق بأمر كن بل بيد الله نفسه تصويرا ونفخا وتعليما للتسمية.

وكل ذلك من أجل اختياره للخلافة وتمكينه من شروط أداء هذا الدور المشروط بمسؤولية تامة على شروط بقائه واعتبار ذلك مجال اختبار لأهليته لهذه المهمة: عليه أن يعمر الدنيا حتى يقيم فيها فيكون اختباره هو النجاح في هذا التعمير بقيم الاستخلاف والتعمير دون قيم الخلافة تدمير.

والتعمير دون قيم الخلافة يكون في الذات هو ما وصفنا من أحوال النفس غير المطمئنة ويكون في الجماعة هو ما نراه في دين العجل حيث تكون الإنسانية مستعبدة من مافيات الكلمة ومافيات العملة. والإسلام بوصفه الرسالة الخاتمة وصف كل هذه الوضعيات وقدم سورة العصر علاجا للاستثناء مما تمثله من خسر.

تلك هي القيم والمعاني التي ينبغي أن تجعل اي شاب مسلم فخورا بهذين الثورتين: الحرية الروحية التي تجعله سيد نفسه في علاقة مباشرة بربه والحرية السياسية التي تجعله ذا سيادة في إدارة الشأن العام لا سلطان لأحد عليه عدا إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده ذاتا خليفة لرب العالمين.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

يقوم على الموقع عاصم أشرف خضر مع مجموعة من طلاب الأستاذ ومتابعيه.
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي