لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الميكروأخلاق
أشرت في الفصل السابق أن قصة خلق آدم عجيبة وهي استثناء في نظرية القرآن القرآنية. كل الموجودات خلقها الله بمبدإ إذا أراد شيئا قال له كن فيكون. والعالم كله خلقه في ستة ايام وليكن اليوم مقداره خمسين ألف سنة مما نعد باعتبار حركات الأرض مقياس حركات كل الأفلاك فلم استثنى الإنسان منها؟
ما دلالة هذا الرمز؟
لماذا كان خلق الإنسان بيد الله نفسه فصنعه وصوره ورآه أهلا للاستخلاف وعلمه أداة تميزه عن الحيوان (التسمية) الذي وصفت الملائكة آدم بصفاته: يفسد في الارض ويسفك الدماء؟
كلها رموز محيرة ولا اطلب تأويلها لأن التأويل من أمراض القلوب ومن ابتغاء الفتنة.
لكن القرآن علمنا سبيل الاستغناء عن ذلك بأن أكد أننا نتبين أن القرآن حق برؤية آيات الله في الآفاق والانفس أي في عالم الشهادة حتى نتجنب الخوض في الغيب فلا نعدو على آل عمران 7. وهذا هو مطلوبي: ما الذي يجعل الفرد الإنسان حائزا على هذه المنزلة الوجودية في القرآن رغم كل ما يعيبه عليه؟
فلا تكاد سورة من سور القرآن تخلو من بيان عيوب الإنسان النفسية والخلقية ومع ذلك يولي القرآن إليه منزلة تجعله أسمى من كل المخلوقات. وحتى المسيح رغم ما فيه من آدم في القص القرآني تبقى منزلة اصطفائه مشروطة بمنزلة استخلافه بوصفه مقوما لإنسانيته بالقوة مهما عيب عليها.
ذلك ما يحيرني لما أسمع كلام الكثير من أدعياء التفكير الفلسفي والحداثي خاصة يجادلون في منزلة الأنسان في الإسلام. وذلك ما يطمئنني على المتانة النفسية لشباب الأمة: فما أن يعلم هذه الحقائق حتى يصبح مرفوع الرأس لا تؤثر فيه الدعايات والحرب النفسية التي تشككه في كونية القيم القرآنية.
وما سأحاول بيانه هو الإنسان-بنص حديث الرسول-أفضل من كل المعابد حتى التي بناها جد المسلمين ابراهيم عليه السلام: فهو معبد بناه الرب نفسه في القص القرآني وجعله العابد الاول. إنه المعبد العابد. وقد خلق للعبادة بمعناها القرآني وليس للعبادات بمعناها الذي بحصر الدين فيها جهلا بجوهرها
فالعبادة هي التعمير بقيم الاستخلاف والعبادات هي جزء من التربية على المستوى الاول من العلاقة بين المؤمن وربه مستوى لا يمتلئ مضمونا إلا بالوظيفتين اللتين يختبران أهلية الإنسان للاستخلاف: تعمير الارض بقيم الاستخلاف أي بهما اجتهادا معرفيا وجهادا خلقيا ثمرة للحريتين الروحية والسياسية.
الإنسان منزلته هي منزلة المعبد العابد أو المبين بمستويي الوعي بالغير وبالوعي بالذات الواعية بالغير وبذاتها والمتجاوزة للأعالم بأحيازه المحيطة به مهما اتسعت: المكان والزمان وأثر المكان في الزمان أو التراث وأثر الزمان في المكان أو الثروة والمرجعية التي توحد بينها جميعا بوصفها فروعها.
وإبانته تلق للوجود بإدراك ما يريه الله فيه من آيات تبين أن القرآن حق وبث لإدراكه هذه الآيات في إبداعاته العلمية والعملية لكأنه مكلف بمهمة خلق ما يتجاوز الطبيعة خلال اختبار أهليته للاستخلاف أعني كل التاريخ الإنساني هذه الإبانة المتلقية والمبدعة هي ما يصدر عما جهز به فطريا.
وقد جهز الإنسان بأسباب علاج ما ينتج عن علاقته العمودية بالعالم ليستمد منه بالتسخير شروط قيامه العضوي وعلاقته الأفقية بغيره من البشر ليتعاون معهم من أجل سد هذه الحاجات والتحرر من سلطانها عليه فيتعالى بأفعاله ليحقق قيم الاستخلاف في تعمير الأرض عبادة للخالق وعرفانا بفضله.
وهذه المهمة يقابلها ما وصفته الملائكة عندما شككت في أهلية آدم للاستخلاف أي الفساد في الارض وسفك الدماء بسبب سيطرة دين العجل المتمثل في الخضوع لسلطان مادة العجل (الذهب) وخواره (الإيديولوجيا الدهرية التابعة لسلطان العجل. والاختبار هو ما يترتب على الاختيار بين الطريقين.
والطريقان يشتركان في المستوى الثاني من العلاقة غير المباشرة بالمثال الأعلى المطلق بتوسط الآفاق والأنفس ويختلفان في المستوى الاول من العلاقة المباشرة به. وهذا الاختلاف لا يلغي الطابع الديني للموقفين: غياب العلاقة المباشرة عند عابد العجل وخواره هو سر العبودية للطبيعة والتاريخ.
فعندما تؤله الطبيعة او التاريخ أو كليهما فيصبح المابعد محايثا فيهما يفقد الإنسان الحريتين الروحية والسياسية ويتحول إلى عبد للوسيط الروحي (سلطان الخوار) والوصي السياسي (سلطان الذهب) ويتحول الجميع إلى عبيد مافية إيديولوجية واقتصادية هي العبودية لغير الله كحالنا الآن في العولمة.
وبخلاف الأوهام الحداثوية فالفرد يزول مباشرة لأنه يصبح مجرد قطعة في مكنة جهنمية تخدم هذه المافية ويرتهن الجميع فكريا عند أصحاب الخوار واقتصاديا عند أصحاب الذهب (بعدا العجل) رغم أن الإيديولوجيا السائدة تدعي أن العالم الحديث هو الذي حرر الإنسان. وتحريف الأديان السابق يؤيد هذا الوهم.
والعالم الحديث لم يغير إلا الأسماء: فإمبراطوريات المافية الإعلامية تمثل الاستبداد الروحي ومافية الامبراطوريات الاقتصادية تمثل الاستبداد السياسي. وما كان وساطة التحريف الثيولوجي (نظرية الله) الإيمان صار وساطة التحريف الانثروبولوجي (نظرية الإنسان لتحريف العقول: ضاع الفرد وحريته).
فيتبين أن اختبار اهلية الإنسان للاستخلاف هو عينه اختبار حفظه لحرياته الفردية التي تجعله مسؤولا عن أفعاله بحق غنيا عن الوسطاء روحيا والاوصياء سياسيا. فيكون وعي بعلاقته العمودية بالعالم مصدرا لرزقه المادي وبعلاقة الافقية بالغير مصدرا لرزقه الروحي. والوعي بهذا الوعي هو حرية الذات.
والنسيان الذي تأتي الرسالة لتذكير الإنسان بما يغفله عنه ولتحذيره من الغفلة هو هذا التحريف بشكليه لعبادة لله بعبادة العجل غير المعلنة والمعلنة وهما بعدا الخطاب القرآني: فهو سلبا مراجعة تامة لكل التجارب الروحية والتاريخية وهو إيجابا بديل للخروج من التحريف في المستقبل بالإسلام.
وافهم جيدا أن يكون الشباب معقدا امام هجمات أعداء الإسلام وحضارته بسبب ما لدى هؤلاء من حجج يستمدونها من الانقلابين اللذين الغيا ما وصفت هنا أي الحريتين يضاف إلى ذلك وهميهما في الحضارة الحديثة التي تخفي العبودية لمعدن العجل وخواره بهما لأنها جعلت مطالب الحياة إرضاء أدنى ما فيها.
وافهم اغترار الشباب بما يسمى الحلم الامريكي وما سماه ابن خلدون “نحلة المعاش” الغربية. وقد عشت بنفسي في شبابي خلال رحلة الدرس في الغرب ثم لاحقا كأستاذ فلم أجد ما يمكن للمسلم أن يخجل أمامه إذا حرر ثورتي الإسلام مما نكبتا به من دفن للحريتين الروحية والسياسية بسبب الانقلابين.
وقد افضت في دراسة الانقلابين في المحاولة التي عالجت فيها الشكوك على حلول الفقه الزائفة التي بلغت ذروتها في نظرية المقاصد. قضي على الحريتين مقومي الذات بوصفها ذات فاعلة في الإبداعين النظري والعملي بحرية ومسهمة في تحقيق ما يطلبه الدستوران السياسي والمعرفي كما حددهما القرآن الكريم.
وهذا هو الهدف الذي نذرت له حياتي. تحرير فكر الإمة من آثار الانقلابين على ثورتي الإسلام:
الحرية الروحية التي تلغي الوساطة بين الإنسان ومثاله الأعلى وهي عين الوعي بالاستخلاف.
الحرية السياسية التي تلغي الوصاية بين الإنسان وتحقيق الرسالة الكونية التي يقتضيها الوعي بالاستخلاف.