المهادنة الدبلوماسية: هل هي دليل قوة؟ أم عدم استعداد للمواجهة؟

****،

لما كتبت فصل الأمس –لعل الذكرى تنفع المؤمنين– كانت علته ما لاحظته من فرح بوهم الانتصار لأن اللائحة لم تمر.
لكنه لا يعني أني أدعو لإعلان الحرب على من يتآمر على تونس -وهم معروفون- ومع ذلك سأحاول تعريفهم اليوم.
لكني قبل ذلك أريد معرفة طبيعة المهادنة الدبلوماسية الحالية ودلالتها.
فدبلوماسية الخطاب لها دلالتان متناقضتان هما:
• دلالة القوة المطمئنة لاستعدادها للطوارئ
• ودلالة الضعف الخائف من فوضى صفه.

لذلك فلا بد من التمييز بين نوعي الخطاب الدبلوماسي في صراع القوى السياسية الداخلي بين القوى السياسية المتصارعة في غياب القبول بالديموقراطية قياسا على الخارجي بين الدول:

  1. فنوعه الاول هو الذي يعبر عن ثقة المستعد لكل الاحتمالات في نفسه ولا يختار اللين من موقف الضعف بل من موقف العفو عند المقدرة. ذلك أن كلنا يعلم أن من يستعد ولا يؤخذ غرة لا يحتاج لرفع صوته بل يستعمل دبلوماسية اللين حتى يخفض من الاحتقان وخاصة بين القوى السياسية في الداخل.

  2. لكن ذلك لا يؤثر إذا لم ير الأعداء في الداخل والخارج أن المهادنة ليست من باب الضعف. ولا يرون ذلك ما لم يروا ما يعبر عنه تعبيرا ملموسا. فلو تهاون شباب ليبيا مثلا لكانت الثورة الليبية قد حصل لها ما حصل للثورة المصرية ولانتهت قبل قدوم السند التركي الذي يتصور الكثير أنه هو الذي يعود إليه وحده فضل الهزيمة النكراء لحفتر ومسانديه.

فما كان السند التركي يستطيع شيئا لو لم تصمد طرابلس سنة كاملة للحملة الاخيرة ولو لم تصمد ثورة الشباب ما يقرب من عقد.
وكذلك الشأن في سوريا وإن كان دون نفس النتيجة إلى حد الآن لأن المسألة هناك أكثر تعقيدا منها هنا لعلتين:

  1. حضور روسيا أقدم وحضور إيران أعمق أولا
  2. ثم استجابة الغرب لمطالب إسرائيل وعربان الثورة المضادة خوفا عليهما من الثورة ثانيا.

وما أعنيه مما كتبته أمس في كلامي على “الذكرى التي تنفع المؤمنين” علته أني لست واثقا من أن صف الثورة بلغ حدا يجعل أعداءها يتيقنون من أن مسعاهم إلى الصدام لن يكون لصالحهم. فحسابات مركز القوة المستهدفة منهم -أعني النهضة- بدت لي وكأنها “تسوق القافلة بالعين المجردة” وبمنطق التكتيك الذي يطبق “دعها حتى تقع” أي بالارتجال وليس له استراتيجية بعيدة المدى.

فعدم الحسم في الخلافات الداخلية وعدم تشبيب القيادة وعدم التمييز بين الشرعية الرمزية والفاعلية السياسية وعدم التخطيط الاستراتيجي لاسترداد القاعدة والوزن الانتخابي الذي فقد ثلثاه كلها صارت بينة للجميع وتشجع على تعجيل الأعداء بالصدام ولا تحقق الردع الكافي لتحقيق شروط السلم المدنية.
فتردي القاعدة الشعبية التي نزلت إلى ثلث ما كانت عليه في الانتخابات الأولى سنة 2011 وما قد يجعل الشباب يغادرها نحو البديل (الائتلاف) قد يصبح عامل تعثر أكبر لأن الصراع قد ينتقل إلى صراع بين جناحين إسلاميين فيزيد في التفتيت كل ذلك لا يبشر بخير في غياب استراتيجية تطمئن القاعدة الانتخابية.

ولا اعتقد أن الاعتماد على التغيير في ليبيا لعلاج قضية البطالة والتبادل التجاري معها يمكن أن يمثل صيدا ثمينا حتى لو بقي ما يمكن أن يصل إليه التونسيون في تنافس مع تركيا وروسيا التي لم تتنازل عن الصدام لوجه الله بل لأنها حصلت على وعود أكيدة للمشاركة في اعادة بناء ليبيا من الاوهام التي يتصورونها قد تزيد في شعبية النهضة والإسلاميين وهي من الأوهام بسبب الغفلة عن دخول هذين المنافسين. مكالمة السراج لن تغير من الأمر شيئا لأن الأمر لم يعد مسألة مجاملات.

لكل ذلك فإني أخشى أن تكون دبلوماسية المهادنة ليست من علامات برودة الدم الدبلوماسية بل هي من عدم الحيلة التي تنتج عن تأجيل الحسم في الخصومات الداخلية وتنظيم الصف قبل أن ينفرط العقد في حال حصول صدام لا أخفي أني أتوقعه قادما لا محالة وأشرت أليه منذ وفاة السبسي. فالمعلوم أني منذ اليوم الثاني لوفاته أشرت إلى أن النهضة عليها إذا أرادت أن تستعيد شروط الدور القوي في سياسة تونس أن تبتعد على الحكم وأن تتفرغ لإعادة البناء لأن الجميع سيستهدفها باعتبارها قد فقدت عامل الردع الذي كانت تمثله بسعة قاعدتها.

وقد وضعت شرطا وحيدا للدخول في الحكم إذا رأت القيادة أنها من ضمانات دورها هو شرط حكومة الوحدة الوطنية لتأسيس حكومة تكون لها فيها ما يناسب حجمها الفعلي الذي لم يعد ما كان عليه قبل فقدانها ثلثي قاعدتها وخاصة بسبب ما ورطت فيه نفسها عندما تحالفت مع من قاد أفسد مرحلة من تاريخ الثورة أعني الشاهد وقد حذرت من ذلك بل واعتبرت النهضة قد ساهمت في انقلابه على السبسي. أذكر بذلك لأن المطالبة به حاليا فاته القطار.

ورغم خلافي مع السبسي رحمه الله فإني كنت أفضله على غيره لأني أعتقد أنه لم يكن ليغامر في أيامه الأخيرة فيورط تونس مع محور الثورة المضادة فيدخلها في حرب يعلم أنه ليس له ما يكفي من الوقت لخوضها وان ابن علي وبورقيبة فشلا فيها وكان لهم أكثر منه امكانات. لذلك فقد كان الوحيد الحريص على ادماج الإسلاميين وتجاوز عقلية الاستئصال ومنع تونس من الوقوع بين مخالب الثورة المضادة الخليجية.

وكان لا يجهل صعود عملاء إيران حتى وإن كان لم يتوقع أن يصلوا إلى السيطرة على مركز أسرار الدولة كلها أعني قرطاج التي صارت ملعب اليسار والقوميين أي علماء فرنسا والتشيع والباطنية أي عملاء إيران. ثم هو كان يخشى اليسار والاتحاد أكثر من الإسلاميين لأنه يعرفهم جيد المعرفة. وفعلا فهو ما حدث لأنه نهاية حزبه وسلطانه كان بسببهم وعدم فهم قيادة النهضة ما يجري لما تحالفت مع الشاهد ضده.

وتلك هي العلة التي جعلتني أفضله على المرزوقي ليس معادة للمرزوقي ولكن فهما لاستحالة أن يقود المرحلة بحكمة بل لأني كنت واثقا أنه لو نجح لحصل الصدام الذي يعد له أعداء تونس منذ ذلك الحين قبل أن نمكن لأعداء الثورة من بيان فشلهم خلال عودتهم إلى الحكم ومن تفتيت صفهم بصورة تجعلهم يعودون إلى منزلة صفر فاصل في الشرعية الانتخابية فلا يبقى لهم إلا العنف الفج الذي يريدون استعماله حاليا: وتلك هي بداية الافلاس التي كنت انتظرها ليس لهم وحدهم بل وخاصة لقوتيهم الضاربة:

  1. مافية اتحاد العمال ومعها اليسار والقوميين.
  2. مافية اتحاد ارباب العمل ومعها الأغنياء الجدد وأشباه البرجوازية.

والآن من هم أعداء تونس؟
ولماذا يعادونها؟
يمكن تعريف أعداء تونس بمعرفة علل معاداتهم لها. فهم لا يعادونها لأنها تونس بإطلاق -لأنها بهذا المعنى بلد صغير ليس له الحجم الذي يخيفهم- بل هم يعادونها لمنزلتها الرمزية في تاريخ حضارتها منذ اربعة عشر قرنا أي لما مثلته في تاريخ الإسلام من دور مركزي ليس في الغرب الإسلامي وحده بل في تاريخ الإسلام كله وسيطه وحديثه.

ويكفي أنها قد مثلت في العصر الحديث أي في القرنين الاخيرين أحد معاقل المقاومة الصلبة لمحاربي انتسابها لحضارتها العربية الإسلامية ما جعلها من عواصم النهوض ليس من اليوم بل منذ أن كتب ابن خلدون المقدمة وحتى قبل ذلك بكثير لما استطاعت أن تطرد الباطنية وتعيد ارتباطها بالخلافة السنية في بغداد. وهو ما لا يمكن لبقايا الباطنية أن ينسوه. فحلمهم العودة إلى المهدية مثلا.

وأعداء تونس لا يعادونها لذلك فحسب بل لأنها مثلت استئناف الانعطافة التاريخية بما يسمى ثورة الربيع التي بدأت في الجزائر ووئدت في المهد من نفس الأعداء الحاليين الذين جعلوها نموذجا لوأد ربيع مصر وسوريا واليمن ويحاولون في ليبيا وفي تونس تحقيق نفس المشروع بحمام دم وانقلاب لم تتوفر لهم شروطه إلى الآن بفضل سلامة جيشنا وتكوينه الجمهوري المؤمن بالشرعية الديموقراطية.

وهم على التعيين فرنسا وعملاؤها وإيران وعملاؤها وبقايا النظام السابق الذين طردهم الشعب شر طردة ويحنون للعودة إلى ما كانوا “يستمتعون” به من استبداد وفساد في كل النخب الخمسة التي تدعي الانتساب إلى السياسة وإلى العلم وإلى الاقتصاد وإلى الفن وإلى الرؤى الفكرية وهم في الحقيقة مجرد كاريكاتور من ذلك كله لأنهم كانوا خدما للمافية الحاكمة.

وما بين حدود سلطانهم هو ما بينته الانتخابات الحرة والنزيهة في كل مرة حصلت بحيث إن ما يوحد بينهم ليس كون كل فريق منهم هو من جماعة صفر فاصل بل مجموعهم كذلك هو صفر فاصل. ولذلك فلا قوة لهم إلا الاستقواء الخارج وبالمافيات التي تسندهم وتصلهم بالقوى المساندة في الخارج. وهم الآن قد جن جنونهم لان هذه القوى الخارجية جاء من أوقفها عند حدها.

وهو ليس من الخارج إلا مكانيا وفي أذهان اعداء تونس. فتركيا صحيح من خارج تونس وليبيا والمغرب جغرافيا لكنها تاريخيا تنتسب إلى نفس ما لأجله يعادون تونس أعني الانتساب إلى نفس الحضارة والمؤمن بضرورة حمايتها ليس من اليوم بل منذ أن أستعان به أهل تونس والجزائر وليبيا في القرن السادس عشر ضد الاسبان لئلا يحصل لهم ما حصل للأندلس.

وإذن فلا وجه للمقارنة بينها وبين فرنسا ولا بينها وبين إيران التي كانت ولا تزال معادية للإسلام وحليفة لكل أعدائه من الصليبيين والمغول والبرتغاليين والروس وحتى الإسرائيليين والامريكيين رغم مسرحية الصراع بالأقوال والتحالف بالأفعال في تفتيت جغرافية الإقليم وتشويه تاريخه.
لكن تركيا لن تستطيع شيئا لتونس إذا لم يكن شبابها مثل شباب ليبيا وشباب سوريا قادرين على الصمود الذاتي في حالة تعكرت الأجواء وتجرأ الاعداء.

ولا أشك لحظة في أن فرنسا وإيران وإسرائيل وخاصة الثورة المضادة العربية التي تمولهم يعتبرون المعركة في تونس معركة مصيرية لأنهم إذا خسروها فمعنى ذلك النجاح الحاسم للربيع ونهاية الكروش والعروش وسيطرة فرنسا على المغرب الكبير وإيران على الاقليم السني من بغداد إلى المغرب. وهذا الرهان المحلي والاقليمي والدولي هو الذي جعلني أكتب ما كتبت أمس واختمه بهذه المحاولة الثانية.

ذلك أني لست مطمئنا لكثرة الكلام على اعتبار جلسة اللائحة دليل نصر على صف الثورة المضادة. ذلك أنها حتى باعتبار الكم يمكن أن تكون نصف نصر لأعداء الثورة ونصف هزيمة للثورة. ولا أحب ما أراه من تبرسيس الضحك عند البعض: فهذا من دبلوماسية الضعف وليس من دبلوماسية القوة.
والسؤال هو بصورة لا اوضح منها سؤال مضاعف:

والسؤال هو بصورة لا اوضح منها سؤال مضاعف:

  1. هل أنتم متأكدون بأن دمية قرطاج تخلى نهائيا عن مشروعه؟ أكاد أجزم أنه لا يزال على نفس الموجة. فالانحناء للعاصفة لا يعني التسليم بالهزيمة. والدليل أن التشجيع جاءه أمس بمكالمة من ماكرون الذي لم يتشاور معه في شؤون العالم بل في كيفية توظيفه ثانية بعد تعيين رئيس الحكومة.

  2. هل أنتم مستعدون لما يعد له أعداء الثورة من صدام قد يسيل الدم؟
    أكاد اجزم بالنفي لأن المعركة الداخلية لم تحسم بصورة تقوي الصف بل هي تزداد تعفنا بوهم الحسم لصالح من يتصورون أنفسهم انتصروا على الزغراطة ومن معها أو لصالح من يتوهم أن تركيا يمكن أن تسد مسد الصمود الذاتي.

مرة ثانية آمل أن يكون تحليلي غير مطابق لما اعتقد أن الأيام القادمة حبلى به. فليس أكره عندي من “دعها حتى تقع” او التكتيك الذي لا تتجاوز الرؤية فيه أنف القيادات التي تعتبر توافق الصدف نجاحا: فما حدث في ليبيا لن يؤثر في تونس إذا لم يكن شباب تونس له ما لشباب ليبيا من القدرة على الصمود.

فلو لا قدر الله تعفنت الأمور وهو أمر شديد الاحتمال لأن اعداءها مستعدون لكل المغامرات إذ لم يبق لهم مفر من ذلك بسبب الرهان الفرنسي والإيراني والاسرائيلي والعربي لأفشال الثورة ووأدها في مهدها الذي صمد إلى الآن هل نحن مستعدون للتصدي بما يقتضيه ذلك وبما اعلم أن أعداء الثورة لن يتأخروا في اللجوء إليه من كل حيل الإرهاب والتهديم؟

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي