لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالمنطق الجدلي
تجاوزه شرط الأحوة الانسانية والسلم العالمية
الفصل الأخير سأخصصه للنتائج الوخيمة على الاسرة والعلاقة بين الجنسين بسبب منطق الجدل المبني على التنافي في مبدأ المزاوجة في قيام كل المخلوقات لا بد فيه من الزوجين الاثنين رغم أن الإسلام عرف الزواج بالعقد وشرع الطلاق حتى يحول دون جعله جدليا بل يحفظ حرية طرفيه: وهو مفهوم العقد.
فلا أحد ينكر أن للحركة النسوية الكثير من الدوافع المشروعة لأن المرأة ظلمت أكثر مما ينبغي لكأن التمايز بين الكيانين البدنيين صار علة كافية لنقل العلاقة مما يسوي بينهما في تقاسم الوظيفة الانجابية -إذ لا فرق بين منتج البويضة ومنتج الحيوان المنوي-إلى مفاضلة أساسها التنافس على السلطة.
وهو ما أفسد الطبيعة التعاقدية في الزواج وحولها إلى وظيفة استعبادية ولم يبق في حضارتنا -وقبلها كل الحضارات وحتى بعدها إلى الآن-إلى شكليات العقد دون مضمونه الحقوقي والخلقي أعني الالتزامات المتبادلة بين ذاتين حرتين كالحال في كل تعاقد. وإفساد معنى العقد مضاعف.
فلكأنه صار نقلة من وصية أهل المرأة إلى وصية الزوج وأهله بحسب التقاليد والعادات التي يمكن أن نقول إنها هي التي تولد عنها التصور الجدلي الذي يؤدي إلى العلاقة الصراعية وخاصة بعد أن صار فسخ العقد بيد أحد طرفية دون الثاني. لذلك فسأنظر في طبيعة العلاقة حتى دون اعتبار العقد ثم بمقتضاه.
فما يعقد العلاقة بين الزوجين أنها في الحقيقة ليست علاقة بين ذاتين حرتين حتى وإن كان مفهوم العقد يقتضي أن يكون الأمر كذلك على الأقل في المنظور الإسلامي حيث الزواج يختلف كليا عن الرؤية الكاثوليكية التي بدأ الغرب يتخلص منها: ليس علاقة ثابتة يحرم فيها الطلاق مهما طال الفصل البدني.
والتعقيد لا يأتي من حاجة النسل فحسب بل وكذلك من علاقة الأسرة بالملكية ومن ثم فبالأول توجد صلة بتواصل الاجيال وبالثاني توجد صلة بتواصل الثروة: وهذه شرط بقاء الافراد وتلك شرك بقاء النسل. وكلاهما من الضرورات التي تحد من الحريات ولا تبقي لعلاقة الجنس والحب إلا قليل القليل.
وكان للقادرين من الرجال الجمع بين الزوجة والخليلة لحل مشكل الجنس والحب وهو ما تحرم منه المرأة بسبب المحافظة على النسب وعلى الشرف وكل ما يجعل العلاقة غير متناظرة بين طرفي العقد. وهي مشكلة كونية وليست خاصة وهي تتجاوز حتى عالم الإنسان إلى عالم بعض الحيوان.
ولهذا علاقة بالسلطة والثروة فضلا عن كون الحل الافلاطوني شبه مستحيل حتى لو قبلنا حل ترك وظيفة النسل للدولة والتخلي عن وظيفة النسب. فالتناغم بين الجنسين ليس عملية يسيرة ويتطلب شيئا من الاستقرار حتى يحصل ليكون العيش المشترك والتناغم الجنسي ثمرة التعارف المتصل لقدر معين من الزمن.
فتكون المزاوجة في آن شبه ضرورة نفسية للتكايف المتبادل إلى درجة حصول التناغم الجنسي والعاطفي ومن ثم فبخلاف ما يتوهم الكثير لا يمكن أن يتحقق التوازن النفسي لكلا الجنسين من دون استقرار ما وتآنس بين ذاتين كل منهما يعتبر الثاني مكملا لذاته وكيانه وهو ما يعيشانه على الأقل قبل الزواج.
هذه المدة التعارفية تمثل شبه اختبار متبادل لشروط العيش المشترك في أساسيات التكايف والتناغم بحدود عادة ما يفرضها العرف وعادات الشعوب. لكنها من الأدلة على ان “الحب الطائر” أو علاقات اللحظات الخاطفة ليست هي الأساس في المزاوجة بصرف النظر عن وظيفة التناسل والثروة والنسب.
ونظرا إلى أن الأمر فيه اختيار الصاحب للصاحبة والصاحبة للصاحب فهو ليس علاقة بين إثنين من البداية بل هو علاقة تنتهي إلى كونها بين اثنين. وهي في هذه النهاية تكون اختيارا متبادلا إذا حصلت بين ذاتين حرتين ليس لأي منهما وصاية من غيره. وحصول هذا الاختيار المتبادل هو سر عدم الجدلية فيه.
وسنرى أنه يصبح جدليا بمجرد أن يفسد. وغالبا ما يكون لصراع السلطة والثروة احداهما او كلاهما بسبب الترابط بينهما الدور الأول في تحوله إلى علاقة جدلية يغلب عليها الصراع والتنافس. وقد يكون ذلك العلة الحقيقية وقد يكون غطاء لما هو أعمق لا تصرح المرأة بحكم العادات: فشل العلاقة الحميمة.
وهنا يبرز الحيز الخارجي المحدد لمسار العلاقات وهو كالمجال المغناطيسي للعلاقات بين الجنسين: فالمفعول الجنسي لعلاقته بالحواس ظاهرة متفشية يسبح فيها الجنسان بصورة غير مباشرة وفاعلية تجاذب المضمون الجنسي تخترق كل الحواجز بسبب الحواس رؤية وسمعا وشما وحتى ذوقا ولمسا بالفعل أو بالخيال.
ومهما حبست المرأة ودثرتها فإن ذلك لا يوقف فشو هذه الفاعلية ومن ثم فلا يوجد أبدا علاقة بين اثنين بل لا بد فيها من اثنين آخرين عند كلا الزوجين. فكلا الجنسين له صورة مثلى من الجنس الثاني ومن منافس محتمل عليه مهما كان سليم العقل والوجدان: فالعلاقة بين الزوجين تملك متبادل بنحو ما.
ولا علاقة لهذه الظاهرة بأمراض الغيرة بل هي ظاهرة طبيعية موجودة حتى عند الحيوان ويتجلى ذلك خاصة في ظاهرة الاستفراد ورفض المنافس (الضر إن صح التعبير) أو المنافسة (الضرة) بسبب ما في العلاقة من تفرد التملك وهو حميد إذا لم يتحول إلى علاقة مرضية هي السر في حبس الرجال للنساء.
والكل يعلم أن ذلك لا فائدة منه ولا جدوى لأن الامر كما أسلفت ليس بالضرورة حادثا فعلا بل هو يمكن الا يكون إلا خيالا عند كلا الجنسين. والحبس والدثار يقوانه ولا يقللان منه بخلاف ما يتوهم من يلجأ إلى هذه الحلول. ومن المفروض أن تكون تعاقدية العلاقة بين ذاتين حرتين مغنية عن كل ذلك.
ومثلما قال القرآن عن العفة فإنها لا تكون بالحبس واللباس بل باحترام الجنسين للعقد بينهما وخاصة لكرامة كل منها عندما يصبح مجرد موضوع جنسي فاقد لقيامه كذات مسؤولة ومحترمة لا تمتد إليها الايدي خارج ما تريد هي كذات محترمة ذكرا كانت هذه الذات أو انثى: فالحرية مسؤولية وكرامة.
ويمكن أن نبسط ما يصحب العلاقة من ردائف إلى رديف مجانس بين الجنسين المتحابين: وهو سعي كلا الجنسين إلى الاقتراب من صورة ما يتوهم أن الجنس الثاني يتمنى أن يراه عليها لتخيله المثال الذي يبحث عنه فيه وهذا هو سر ديمومة العلاقة: كل منهما يشرئب إلى المثال الذي يعتقد أن الآخر يتمناه عليه.
وذلك هو الحب بوصفه عطاء متبادل: فعندما يحاول كلا الجنسين أن يكون مثلما يعتقد أن الثاني يرى فيه مثال الجنس الذي يريده صاحبا أو صاحبة يكون كل منهما عائشا من أجل الآخر: يحافظ على اعجابه به وميله إليه فتصبح العلاقة علاقة تقارب لا تباعد وعلاقة تكامل لا تجادل على السلطة والثروة.
وكل هذه المعاني تصبح عادات حميدة بمجرد أن يعمل بها في تربية الأجيال كما وصفها القرآن الكريم وكما ينبغي أن نفهمها بعد أن نحرر معاني القرآن مما علق بها من تأويلات فقهية وكلامية نتجت عن الانقلابين الروحي والسياسي في حضارتنا التي تعيش حالة الطوارئ والقوانين الاستثنائية منذ الفتنة.
ولأختم هذا الفصل الاخير مع العلم أن الكلام في العلاقة بين الزوجين من أعسر المسائل بأن القرآن الكريم بخلاف ما نكصنا إليه من جاهلية ليس فيه ما يعلل كل العادات التي يعتبرها العامة-وغالب من يسمون علماء عامة فحفظ بعض النصوص ليس علما-لا علاقة لها بقيم القرآن الحاكمة في هذه العلاقة.
فالفرق البدني يطابق ذوق كلا الجنسين في إدراك الجمال في الجنس المقابل. والوظيفتان التناسلية متساويتان إذ حظ البويضة وحظ الحيوان المنوي في الإنجاب متساو. والعلاقة الحميمة عطاء متبادل. والمشاركة في قيام الأسرى لعل دور المرأة فيه أكبر وسعادة الأطفال من سعادة الوالدين المتناظرة.
بقيت خرافتان: العقل والقوة. ليس كل رجل أقوى ولا أعقل من كل امرأة بل أحيانا العكس أصح. فأضعف امرأة لها من السلطان الخفي ما لا يقدر فضلا عن السلطان الجلي. وكل ما عدا الفروق البدنية ثقافية وليست طبيعية. وما يزعم من ضعف المرأة أمام الرجل يناظره ضعف الرجل أمام المرأة.
وكلا الضعفين مستحب إذا كان من جنس ما وصفنا أعني تعبيرا عن محبة فيها الكثير من التنازلات المتبادلة وعدم المبالغة في طلب المثال الاعلى رغم أن وجوده في البال ضروري لأن سعي كلا الجنسين لجعل صورته “حلوة” لدى الثاني هو الحب: فحب ما يحب من نحب هو مفتاح قلبه الاسرع. والجدل سمه القاتل.