المنطق الجدلي، تجاوزه شرط الأخوة الانسانية والسلم العالمية – الفصل الثاني

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله المنطق الجدلي

تجاوزه شرط الأحوة الانسانية والسلم العالمية

وهكذا فيمكن القول إن ابن تيمية قد تجاوز فلسفة النظر اليونانية التي كانت سائدة في الفلسفة الوسيطة وأن القول بنظرية المعرفة المطابقة لم يعد ممكنا وأن المنطق ذا المبادئ الثلاثة لم يعد قانونا مطلقا لبناء الأنساق العلمية التي صار منطقها “الممكن”(لم يقله صراحة) المقدرات الذهنية.

فالمجال الوحيد الذي يعتبره ابن تيمية مجال العلم البرهاني هو مجال المقدرات الذهنية وضرب مثالين كلاهما رياضي أي العدد والمنطق الصوري أي البنى المجردة لمتغيرات غير محددة المضمون (رموز بالحروف مثلا) فهذه لها خاصية غريبة: هي مبدعات من حيث المضمون والشكل.

فالمضمون حدود مجردة يرمز إليها بالحروف أ، ب، ج إلخ.. ثم قوانين أو قواعد لتواليف بينها يليها استنتاج صارم لكل ما يترتب عليها وهذه القوانين ليس بالضرورة المبادئ الارسطية الثلاثة أي منطق القيمتين صادق كاذب (ثبات الهوية وعدم التناقض والثالث المرفوع) مع التسليم بخصب هذا المنطق.

وهو إذن أشبه بلعبة أكسيومية من جنس لعبة الشطرنج: فصاحب اللعبة هو الذي حدد قطعها والتقابل بين لاعبين وقواعد تحريك القطع فيها. ويمكن لهذه القطع أن تكون من أي مادة اتفق وهي معنى الخانة الخالية أو الرمز المجرد الذي يمكن ان يعطى قيمة عندما نعين دلالة ما لذلك الرمز: بذلك يمكن تطبيقها.

وعلم الوجود الخارجي ينفي عنه ابن تيمية كل إمكانية للكلي. كله جزئي متعين. والجزئي المتعين لا ينحصر. فإذا اعتمدنا عليه وحده امتنع أي علم. لذلك فالعلم مؤلف دائما من المقدرات الذهنية في شكل فرضي يقارب بين بنية لعبة المقدرات وما يبدو جامعا بين الجزئيات من مقومات مشتركة: علم بينة عينية.

وبهذه الصورة نخرج من المصادرة على المطلوب في نظرية العلم القديمة: لا ندري ما هو قانون الوجود الخارجي فنفترض أن له قانونا نقترب منه بالتدريج من خلال تجريب فرضيات تطابقية مع المقدرات الذهنية التي تكون بنحو لغة معبرة عما نعتبره مقوما للمضمون المجرب في الخارج: علم الكلي المتعين.

وطبعا فهذا كله قيل لكنه لم ينتقل من القول إلى الفعل. لذلك فلا يمكن أن ننسب إلى ابن تيمية هذه الثورة نسبة مطلقة بل كان ما فكر فيه إرهاصة أولى لعل أول محاولة لتطبيقها محاولة ابن خلدون لتأسيس علوم العمل التي كانت دائما هامشية في الفلسفة وخاصة التاريخي المتعين والذي كان مستثنى منها.

وتلك هي العلة التي جعلتني أجمع بينهما وأقابلهم بأفلاطون وأرسطو مع تعاكس: فأفلاطون تجاوزه ابن خلدون وأرسطو تجاوزه ابن تيمية في نظرية المعرفة وتطبيقها على النظر الأول وعلى العمل الثاني. وكلاهما تجاوز خرافة المقابلة بين النقل والعقل ووهم رد الوجود إلى الإدراك ونظرية المطابقة.

وعندما كتبت محاولة الشعر المطلق والإعجاز القرآني أدركت أن المقدرات الذهنية تتجاوز الرياضي والمنطقي إلى ما هو أهم وهو الإبداع الفني (الادب وكل الفنون الجمالية وحتى التقنية). فهذه أيضا ليست معرفة بموجود بل هي خلق لموجود ثم لمعرفته. ويشبه العلم المطابق بالعكس: المعلوم ينتج عن العلم.

كل المبدعات الإنسانية علمية كانت أو فنية أو تقنية تنعكس فيها العلاقة بين العلم والمعلوم: لكأن الإنسان فيها له علم محيط ولكن ليس بالموجود الخارجي الذي يصادفه الإنسان بحواسه الباطنة أو الظاهرة بل هو يبدعه في خياله بعلمه فيكون الإبداع مضاعفا: علميا وعمليا.

وهذا هو الاصل حتى في علم الوجود الخارجي بشرط وحيط وهو أن العالم الطبيعي مثلا لا بد له من مقدرات ذهنية مضاعفة مطلقة تتعلق ببنية رمزية ليس لها مضمون فعلي خارج قدرة الإنسان الإبداعية ثم يفترض ان الموجود الخارجي الذي يريد علمه قابلا للقيس على ذلك الموجود الذهني الذي أبدعه.

ثم يتعامل مع التقدير الذهني لموجود خيالي والفرض العلمي حول الموجود الفعلي لتحقيق تقارب بين الذهني والفعلي وهو مفهوم التجربة العلمية. فيكون الإبداع الاول إبداعا لبنى رمزية مضمونها خيالي والإبداع الثاني إبداعا لبنى رمزية مضمونها تجريبي. ولا ندري أيهما المتقدم في “الإيحاء” الإبداعي.

فأحيانا التجربة توحي ببنية مجردة لتقدير ذهني وأحيانا العكس. فلما وضع صاحب القطوع المخروطية لعبة الأشكال التي تحصل بتحريك المخروط لم يكن يدري أنها ستمكن من اكتشاف طرق علاج المعادلات الرياضية بالطرق الهندسية ولا أنها ضرورية مثلا للأشكال المكثفة للطاقة وللصوت وللأشعة جمعا وتفريقا.

وما قلته عن العلم يمكن أن نقول أكثر منه عن الأدب مثلا: فهو إذا كان أدبا حقيقا ينبني على التقدير الذهني وليس على تقليد ما يسمونه واقعا ككل الآداب البدائية كما في جل مبدعات العرب الحالية وخاصة ما حولوه منها إلى سينما ومسرح. فهي مهازل تحاكي أسطح سطحيات ما يسمونه واقعا.

لكن الأدب المبدع هو الذي يعتمد على المقدرات الذهنية التي لا مرجعية لها فيما يسمونه “الواقع” لكنها مع ذلك هي التي تغوص إلى أعماقه فتمكن من استباق حصوله في التاريخ الفعلي بحيث إن أحلام المبدعين من كبار الأدباء هي مستقبل الإنسانية: من هنا العلاقة بين الشعر المطلق والاعجاز القرآني.

وهذا هو منطلقي في علاج إشكالية المنطق الجدلي: هل يصلح لفهم الوجود وعلمه والمنشود وعلمه فيكون بحق علما لبناهما العميقة أم هو قلب للعلاقة بين سطحهما وأعماقهما: فالصراع في التاريخ وفي الطبيعة يبدو وكأنه قانون مجرياتهما. وحتى الإسلاميين تبنوا هذا الفهم في كلامهم على التدافع.

ولا أصدق هذا الفهم فلسفيا ودينيا. الوجود والمنشود كلاهما لا يخضع لمنطق الجدل والصراع إلا في الظاهر. أما أعماق الوجود والمنشود فمنطق الصراع فيها دال على فسادها وليس على منطق وجودها ولا على منطق منشودها. وسأبين ذلك في الطبيعة عامة وفي الحياة خاصة وفي الحضارة عامة وفي العلم خاصة.

وفي عبارة وجيزة فإن المسافة الفاصلة بين العلم الخيالي أو الادب والخيال العلمي أو العلم هي مسافة طموح الإنسان الإبداعي الذي عليه يتأسس علمه وعمله. وهذا الطموح الإبداعي المؤسس للنظر والعمل وعين الفطرة التي تذكر بها الرسالة وتحذر من نسيانها: فهو عين المسافة بين المثال والممثول.

وبهذا المعنى فما يسميه الفلاسفة والمتكلمون نقلا هو عين ما ينبع مما فطرت عليه ذات الإنسان المشرئب إلى ما يتعالى عما يسمونه واقعا وعقلا ليبدع شروط نظره وعمله حتى يعمر الارض بقيم الاستخلاف: هذا الاشرئباب المبدع للمقدرات الذهنية في العلوم والفنون هو صلة الموجود بالمنشود من الاستخلاف.

ومن يتصور المنشود هو عدم الموجود يخطئ في فهم ما يسميه واقعا وخيالا في آن. فنحن لا نعلم الواقع ولا الخيال ما هما. كل ما نعلمه أننا محاطون بالآفاق والأنفس التي ليست مقصورة على ما ندرك بعض حضوره فنصفه بالموجود وما ندرك بعض غيابه فنصفه بالمعدوم. ننسى أننا ندرك سيلانهما وتواصلهما.

فالإنسان جسر بين الموجود والمنشود والأول نابع من الثاني إذا اعتبرنا الحاضر حصيلة ما تقدم عليه والعلاقة لا تعكس إلى عند من ينسى أن موجود الماضي كان منشودا. والامم التي تموت فيهم هذه العلاقة ذات الإبداع الذاتي الدائم فسدت فيها معاني الإنسانية بلغة ابن خلدون.

فالأمة التي منشودها في العلم والعمل يحاكي موجودها فاعلم أنها قد تحنطت فمات فيها الإبداع في النظر والعمل بمستوييهما الذي ينتسب إلى التقدير الذهني فيبدع المنشود والذي ينتسب إلى التعيين الفعلي فيجعل المنشود موجودا مرحلة إلى ما لا يتناهى من المنشود التي يصير موجودا: التاريخ الحي.

والأغبياء دون سواهم من يعتبر هذه العلاقة جدلية لحصرها في وهم الخلط بين الحضور الماثل أمام الإدراك والغياب لغير الماثل أمامه هو حقيقة العلاقة بين الموجود والمنشود بسبب عدم التحرر من نظرية المعرفة المطابقة للوجود أو نظرية الموجود للإدراك بلغة ابن خلدون.

فالمقابلة بين الحضور والغياب مسألة إدراكية وليس ومسألة وجودية: ما يغيب عن إدراكي ليس بالضرورة معدوما وما يحضر ليس بالضرورة موجودا. فالذكرى والتوقع حاضران وهما عند أصحاب هذه اللغة من المعدوم لأن الذكرى والتوقع هما ما لم يبق أو  ما لم يصبح موجودا. وهو تقزيم لمعنى الوجود.

وسنرى أن هذه المعاني علتها عدم الوعي بثنائية الرمز والمرموز على أرضية التناظر بين العالمين المادي والروحي وما يترتب عليهما من أبعاد لزمان الوجود الإنساني التي هي كما بينا خمسة وليست ثلاثة: وهذه بداية الخيط لتجاوز المنطق الجدلي. بديل التثليث لشكل القيام الاساسي هو التخميس.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي