لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالمنطق الجدلي
تجاوزه شرط الأحوة الانسانية والسلم العالمية
الفصل الأول
اعترف بأني إلى الآن لم أتمكن من حل يرضيني لإشكالية المنطق الذي يتجاوز أرسطو (منطق المبادئ الثلاثة) ولا يقبل بالحل الهيجلي (منطق الجدل ومراحله الثلاث). لما كتبت محاولة الشعر المطلق ناقشت منطق الجدل وبينت أنه لا يمكن أن يؤسس الإبداع الفني أيا كان حامله المادي.
ولما كتبت محاولة “وحدة الفكرين” بينت عدم صلاحية الجدل بمراحله الهيجلية الثلاث للجمع بين الفعل الحر والفعل المضطر فضلا عن المنطق الأرسطي بمبادئه الثلاث. لكني لست راضيا عن العلاجين رغم أني لم أطلب ذلك في البداية بدافع ما يترتب عليه في بالديني والفلسفي موقفين وجوديين.
صحيح أن أرسطو بحث في شروط تناسق الخطاب (بأي لسان) الذي يمكن من تواصل البشر حول موضوعات خطابهم بصورة تبدو عاكسة لما يدركونه منها إدراكا فيه شروط التفاهم أو الاجماع النسبي حول تطابق ما بين ذاتي في اللسان وفيما يدركونه من خصائص الموضوع فتكون وظيفته تصنيف الأشياء.
وكان من الطبيعي في هذه الحالة أن يكون المنطق لغة رمزية وعلاقات بين خانات خاوية يرمز لها بالحروف التي تصبح عندما تملأ أو تعين قيمتها بصفات الموجود الخارجي، شبه قول علمي يبدو محققا للتطابق بين ما يدركه المرء وما يقوله عما أدركه: من هنا نظرية المعرفة المطابقة.
وكان من الطبيعي حينئذ أن يتأسس هذا المنطق على ثلاثة مبادئ: الهوية الثابتة ومبدأ عدم التناقض بين الأقوال المتعلقة بها ضمانا لثبات القول نظير ثبات المقول فيه ومن ثم الثالث المرفوع إذ لا يمكن أن يوجد بين الهوية وعدمها حل موسط ومثله بين الأثبات والنفي في القول فيها.
الأساس الميتافيزيقي هو ثبات الهوية والأساس المنطقي هو تثبيت الرمز الدال عليها أو الاسم العلمي بحسب مستويات اللغة التي تنتقل من لبس الاسماء في اللغة الطبيعية واشتراكها إلى “وضوح المصطلحات الصناعية وتواطئها” ونظرية المعرفة المترتبة هي القول بالمطابقة بين الإدراك وموضوعه.
وكان ذلك يقتضي رؤية للعلاقة بين الثبات والتغير في الطبيعة خاصة تنفي أن تكون الهويات متغيرة وحتى أعراضها الذاتية فهي ثابتة والتغير يتعلق بأربعة أعراض هي الكم والكيف غير الوجودي والمكان والزمان وكلها لا تمس ثبات الهوية: لا وجود لتغير وجودي وسيط بين الكون والفساد وبين الوجود والعدم.
وبهذا المعنى فالتصور له وجه يخص قوانين القول الدال هو بينة مفهومه (جملة “أسماء” الصفات المقومة للهوية) وله وجه يخص قوانين الموضوع المدلول هو ما صدقه (مجموعة الأشياء التي تصدق عليها صفات الهوية التي يحدها المفهوم). وهذه الرؤية هي اساس كل العلوم والفلسفات القديمة والوسيطة.
طبعا أستثني منها بعد المدارس الهامشية في الفلسفة ولعل أهمها اللاأدرية والسوفساطية التي تشكك في نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة بل وحتى في قابلية الوجود للمعرفة. لكن ما يعنيني في المحاولة هو ما له أثر في فكرنا الماضي وما لا يزال المؤثر الاول في فكر تأصيليينا وحتى تحديثيينا.
أن يبقى تأصيليونا قائلين بهذه الرؤية أمر معقول فثقافتهم التقليدية تجعلهم ما زالوا يعتقدون في القول بالمطابقة رغم تنافيها المبدئي مع الإسلام (العلم المحيط لله وحده وليس لنا علم مطابق اصلا مهما تقدم). لكن أن يدعي الحداثيون أن المعتزلة وابن رشد عقلانيون فمن مهازل سطحياتهم الحداثية.
وأول من أدرك هذه العلاقة بين الأساس الميتافيزيقي وبنية المنطق الارسطي هو ابن تيمية بلا منازع (وقد بينت ذلك بالأدلة في ضميمة المثالية الالمانية) إذ بين ما يمكن أن يتضح للقارئ لو قلب العلاقة بين التحليلات الأواخر والتحليلات الأوائل. تبدو تلك تطبيقا لهذه والحقيقة هذه مجردة من تلك.
والغريب أن أرسطو لا يخفي ذلك في الميتافيزيقا وفي منظومة علومه وخاصة في تقنيتيه المعرفيتين: كيف يصنع لغته العلمية وكيف يصنع موضوعه العلمي. ففي الميتافيزيا اسس المبادئ الثلاثة على استحالة الكلام في أي شيء من دونها وبذلك أفحم مبطليها باستحالة ابطالها من دونها.
وفي منظومة علومه يستثني أرسطو المنطق ولا يعتبره علما بل مجرد آلة (أورغانون) ويقصد آلة لغوية أو فن التناسق في الخطاب بين المتحاورين أولا حول موضوع معين. وهذا الفن يطبق في الفلسفة القديمة والوسيطة في الجدل والخطابة والسفسطة (وحتى الشعر) والعلم (أي الكلام في الهويات وأعراضها الذاتية).
أما تقنية أرسطو في صنع اللغة العلمية فهي بالأساس العملية التي تلخصها المعاني الثلاث التي يفتتح بها مصنف المقولات: تحديد دلالة متواطئة يختار لها اسما يكون مصطلح العلم واعتبار المشترك والمشكك خارج المعرفة العلمية وإن صح استعمالها في الجدل والخطابة والسفسطة.
وأما صنع موضوعه العلمي فهو دائما بالتجريد والاستقراء بمعنى أنه ينطلق دائما من تصنيف الخصائص التي يعتبرها مقومة لهوية الموضوع. وإذن فصنع الموضوع أساسه التصنيف بالاستقراء وتقديم التجريبي منطلقا للنظري. فيكون منهجه مخالفا للمنهج الرياضي الذي كان حينها أشبه بالمنهج الفرضي الاستنتاجي.
ويمكن الجمع بين فني الصنع عنده باعتبارهما منطلق العلم وليسا بعد علما وهو تصنيف الاسماء وتصنيف المسميات لتحقيق التطابق بين الرمز الدال والمرموز المدلول في بناء نسق وظيفته وصف ما يدركه الإنسان بعد أن “توهم” تحقيق المطابقة بين النظام الرمزي القائل والنظام المرموزي المقول فيه.
وهذا هو ما كان فلاسفتنا يسمونه علما عقليا. وبه كانوا يحاكمون ما يسمونه علما نقليا. وضمير هذه المحاكمة هو وهم المطابقة بل وأكثروهم رد الوجود إلى الإدراك بلغة ابن خلدون. فالفلاسفة والمتكلمون القائلون بضرورة رد المنقول للمعقول عند التعارض يقصدون مضمون معرفتهم التي يسمونها عقلية.
وليس فيما قلته عن أول من أدرك العلاقة بين نوعي التحليلات هو ابن تيمية لم يكن مدحا ولا ذما بل كان وصفا لحقيقة ذلك كان رده على غاية الفلسفة (ابن رشد). فهو كتب الرد على المنطقيين في الاسكندرية أين التقى ببعض المباهين بالمنطق (حجيج المغرب العربي) بل وغاية الكلام في الدرء(الرازي).
ولا أعجب من موقف ادعياء الحداثة مما أكتب لأني لا أخفي أمامهم أنهم مازالوا دون ابن تيمية “الظلامي” في مصطلحهم فهما للفلسفة والعلم وقدرة على تجاوز سطحياتهم التي تدل على أنهم أكثر تخلف حتى من أدعياء التأصيل. فجلهم يقبلون الوصف “بداعش” القلم (أدلجة الفلسفة) نظير “داعش السيف”(أدلجة الدين).
فيم تمثل الوعي والتجاوز التيميين؟
الجواب في اساس العملين: في الرد وفي الدرء. ففي الرد بين أن المنطق الأرسطي مشكله ليس في بعد حساب المتغيرات الخالية من المضمون أو صورة المنطق فهذه لعبة رمزية لا غبار عليها وهي سليمة كلعبة. المشكل في كونها تصادر على المطلوب: نظرية المطابقة.
المشكل هو في الميتافيزيقا التي على قياسها بنيت آلة إدراك الوجود ظنا أن منطق الرمز اللساني يمكن أن يكون منطق الوجود الخارجي ومن ثم فهو بقصد أو بغير قصد يجعل الإنسان (بالمعنى السوفسطائي) مقياس كل شيء: وهذا ما سماه ابن خلدون لاحقا رد الوجود إلى الإدراك.
أما في الدرء فالمسألة أعمق وأخطر: لما يتكلم ابن تيمية على “صريح المعقول” لم تؤخذ كلمة صريح بدلالتها التي قصدها صاحب القولة المناظر لصحيح المنقول. هبنا فهمناها بمعنى المضمون الصريح للمعرفة العقلية. عندئذ كيف سنميز الصريح من عدم الصريح في مضمون المعرفة العقلية؟
سيقول المتكلمون تقليدا للفلاسفة: نميز بمعايير العقل أي بالمنطق. لكن ابن تيمية بين أنها تصادر على المطلوب وتدعي أن المعقول والموجود شيء واحد. وهذا يكذبه العلم وتاريخه. فلو كان المعقول والموجود شيء واحد لما تقدم العلم أو لاستحال. تقدمه يعني أنه يتدرج في معرفته ولا حد لهذ التدرج.
وتقدم الحقيقة كمعرفة نحو الحقيقة كوجود هو تاريخ المعرفة ولا دليل على أنه متناه. ومن ثم فإما التسليم بالفرق بينهما أو توهم الإدراك الأول حقيقة نهائية وهذا طبعا هو المستحيل. ومن ثم فالحقيقة المعرفية غير الحقيقة الوجودية. وإذا حصل تطابق فهو في الغاية التي قد لا تحصل.
وابن تيمية يقول بذلك: كل تصور وراءه تصور ادق وأجود إلى غير غاية. والعلم المطابق هو العلم المحيط وهو ما يتفرد به الله. لكن معنى “الصريح” الذي ينفي ابن تيمية تعارضه مع النقل لا يتعلق بالمضمون فذلك مقصورا على علم الله لكأنه قال علم الله يتطابق فيه العقلي (البث) والنقلي (التلقي).
وإذن فالقصد ليس مضمونا صريحا بمعنى غير مضمر بل هو الشكل العقلي الذي لا يختلف فيه العلمان النقلي والعقلي: صورة المعرفة عامة من حيث هي إدراك عقلي واحدة سواء كانت المادة النقلية من التجربة الروحية (الوحي) أو من التجربة الحسية (العلوم العادية).
وليس هذا تقولا عليه بدليل أنه يسأل في الدرء: هل القصد بالعقل القدرة الإدراكية أم المضمون المدرك؟ فالقول بالتعارض في الأولى من السخف والحمق. كل العقلاء يعتبرون عقلاء باشتراكهم في القدرة الإدراكية (كيفا لا كما) وليس في مضمون إدراكهم إلا مجازا.