ه
سمعت البارحة جزءا مهما من المناظرة بين بعض المترشحين، وهذه المناظرة هي الجلي من مناظرة أوسع هي مرحلة الانتخابات، التي هي مناظرة الخفي فيها أهم من الجلي. وقد جرت بين ثمانية من المترشحين حول موضوعات حددها من يفترض نفسه معبرا عن هموم المواطنين في ضوء واقعين:
• نص الدستور المحدد لمجال ولاية الرئيس.
• مشاغل المواطنين ذات الصلة بهذا المجال.
لن أعلق على أي من هذين البعدين.
ولن أفاضل بين المتناظرين لأن التقييم المستند إلى الوعود يقتضي تعيير الموقف من مصداقية أصحابه السياسية التي غالبا ما تخلط بصدقه الخلقي.
والخلط بين المصداقية والصدقية يجعل المقيمين لنتيجة المناظرة الجلية يركزون على الشخص والوعود وليس على السياسي الذي يستمد مصداقيته من حيازته لشروط الفعل السياسي. وهذه ليست مقصورة على الصدق الخلقي وحده، بل لا بد لها من شروط الانتقال إلى المصداقية السياسية.
وبيّن أنه من بين المشاركين في مناظرة البارحة من أثبتت تجربتهم في الحكم ما يمكن من اعتبار وعودهم أقوالا تناقضها الأفعال ومن ثمّ، فلا مصداقية لوعودهم.
ومنهم من طبيعة وعودهم حتى من دون مشاركة في الحكم سابقا تنفي كل مصداقية لأنهم فاقدون لشرطها السياسي من حيث الخبرة والقاعدة الشعبية حتى لو لم نعير صدقهم.
والمعلوم أن المرء يمكن أن يكون صادقا خلقيا أي إنه يقول ما يعتقد فعلا لكنه غير صادق معرفيا أي إنه يقول ما لا يطابق المطلوب في المسألة المطروحة. وبذلك، فالوعود التي ليس لصاحبها شروط انجازها غالبا ما تكون المعيار المفضل لمعرفة ذلك وأعتقد أن ما سمعته من وعود لا يعبر عن مصداقية أغلب المتدخلين. فجلهم “تر وفي يده خاتم”.
ولهذه العلة، فإني اريد أن أذهب إلى مناظرات أخرى هي التي أسميها المناظرات الخفية والتي يغفلها الكثير من المتابعين للمناظرة الجلية إنها:
- المناظرة الجلية مثل التي حدثت البارحة بين المرشحين.
- المناظرة الجلية بين شخصيات المترشحين وتاريخهم السياسي.
- المناظرة التي تبدو جلية وهي خفية وتحميها دعاوى حرية الأعلام وهي تجري في وسائل الإعلام التي تمولها المافيات.
- المناظرة الخفية التي تجري بين رافضي التغيير من الانتفاعيين وطالبيه من المثاليين الحالمين بالخروج من الاستبداد والفساد.
- المناظرة الخفية رغم كونها الأكثر جلاء وهي بين محركي الدمى السياسية والشعوب التي تبحث عن شروط التحرر واستكمال التحرير والتي ليس لها إلا القوة المعنوية والخلقية لأن كل المتكلمين باسمها حاليا سيطر عليهم “أمراء” حرب سياسية بدليل التفتت الذي آل إليه أمر الساحة السياسية التي تتكلم باسمهم.
ولن أتكلم على النوعين الجليين أي الأول والثاني القابلين للرد إلى نوع واحد يجمع بين صدق المترشح ومصداقية البرنامج. وذلك ما يمكن استنتاجه من المناظرة التي جرت البارحة وأمثالها بحضور المترشحين.
كما لن أتكلم على النوع الخامس لأنه رغم خفائه المزعوم فجلاؤه يفقأ العيون حتى للعادي من المواطنين الذين ليس لهم ثقافة سياسية دولية.
سأكتفي بالكلام على النوعين الثالث والرابع القابلين للرد إلى نوع واحد هو نوع المؤيدين للمرشحين وبرامجهم في نوعي المشاركة الجماهيرية.
مناظرة بين المؤيدين للمترشحين ممن يعتقدون أنهم من ذوي الصيت والصوت أو بلغة فقه السياسة في حضارتنا ممن يعتقدون أنهم من أهل الحل والعقد. وهي على نوعين:
نوع القوائم المؤيدة لمترشحي استعادة النظام السابق بحجج مستمدة من “فساد” الثورة.
إنها قوائم بعض “المثقفين” وغيرهم من الوجهاء في الأعمال والفن المؤيدين للمرشحين من أصحاب المصلحة في عودة النظام السابق والحاصلين على دعم الثورة المضادة رغم مجاراتهم لما لا يصادم الثورة في الخطاب: واحدة لصالح الزبيدي والثانية لصالح الشاهد.
نوع القوائم المؤيدة لمترشحي معارضة النظام السابق بحجج مستمدة من “فساد” الثورة المضادة.
وهي قوائم مجانسة لها وهم في الغالب عديمو القاعدة الشعبية الفعلية: واحدة هي قائمة لصالح حزب التيار عبو والثانية لصالح “جماعة” “آد هوك” لم تتعين بعد كحزب هي قائمة الكرامة.مناظرة بين البارزين من قواعد النظام السابق والمعارضين له في ساحات التواصل الاجتماعي:
وهي أيضا مناظرة أعم وأكثر قدرة تعبيرية على الصدق الفعلي والتزييف الفعلي في المعركة السياسية. ذلك أن الكثير من الشباب المثالي والكتاب الصادقين ينتسبون إلى هذه المناظرة لكن الغالب عليها هو الذباب الالكتروني الذي تموله المافيات التي أنشأت الأحزاب والتي تحرك الجميع وتزيف الرأي العام ومنه الاعلام المهيكل في المؤسسات التي صارت أدوات هذه المناظرة العامة والتي تتجاوز الوعود إلى التهديد تهديد الثروة وتبخيسها.
وبين هذين النوعين توجد النهضة التي يمكن اعتبارها منتسبة إلى النوعين لأنها شاركت في الحكم بعد الثورة وهادنت النوع الأول. ولذلك، فهي بسبب هذه المهادنة للنظام السابق تتهم معه من قبل الكثير من المثاليين حتى وإن كان البعض منهم عن حسن نية وغلو في الثورية.
فمن يستعمل المعايير السياسية بصدق لا ينبغي أن ينسى أنها الوحيدة التي كانت العمود الفقري لمعارضة النظام السابق وليس لأنها تدافع عن الإسلام:
- فالتصوف أيضا يدافع عن الإسلام والسلفية الجامية أيضا تدافع عن الإسلام لكن سلوك الأنظمة معهما مختلف عن سلوكها إزاءها.
- وليس لأنها تعارض شكليا وبالأقوال بدليل سلوك النظام إزاء غيرها من المعارضات
بل لأنها تدافع عن قيم رمزها الإسلام تخلى عنها الصنف الأول من المدافعين عن الإسلام ولها قاعدة شعبية مفقودة لدى الصنف الأول من المعارضات.
إنها إذن الوحيدة التي تعاقب لوعيها بالمستوى القيمي الذي يعني الفعل السياسي في شعب يؤمن بثقافة لا معنى من دونها للحرية والكرامة مطلبي الثورة ولحيازتها القاعدة الشعبية التي تجعل النظام يعاملها المعاملة التي يعلمها الجميع.
ولما رفضت ان تعامل أتباع النظام السابق بمنطقه ظن الكثير أنها خانت الثورة خلطا بين الثورة والانتقام بمنطق النظام القديم فلا يكون لها حينئذ فضل عليه.
فمن يريد أن يبني وطنا للجميع ويقلب صفحة الماضي لن يخون الثورة بل هو يقدم المثال في العمل بمقتضى قيمها.
لذلك فالأستاذ مورو كان ممثل الفعل السياسي الموجب لقوة سياسية فعلية ذات قيم سامية يمكن القول إنها هي الوحيدة التي تريد تجاوز الماضي والالتفات إلى المستقبل لأنها تؤمن بالفعل السياسي الموجب.
إنه التحرر من عقلية الانتقام التي يتظاهر بها من كان جلهم صبابة النظام السابق والمصفقين لأفعاله ضد من يعتبرونهم عدوهم الحقيقي في معركة صدام الحضارات الداخلية.
ولهذه العلة، فإن ما سمعته البارحة يفيد أن خطاب الحاضرين إذا ما استثنينا الأستاذ مورو يضمر فقدان هذا الشرط الذي يجعل الفعل سياسيا لانطلاقه من الوعي بطبيعة المأزق الذي تعيشه تونس.
فكل من يتصور الخروج من المآزق من دون الاعتراف بما أصاب تونس من داء يفسر كل أمراضها-وجل بلاد العرب-أعني سيطرة المافيات المحلية الخادمة للمافيات الخارجية ومن ثم سيطرة العملاء نوابا للمستعمر المباشر على مقومات القيام الذاتي للجماعة.
ومن يجهل أو يتجاهل علاقة ما يجري في أي قطر في الاقليم بالمعركة العالمية حول استعادة استعماره من جديد بسايكس بيكو ثانية لا يخدع نفسه فحسب بل هو يخدع الشعب، ومن ثم فهو فاقد للصدقية والمصداقية:
• فاقد للصدق لأنه لا يمكن أن يكون ساذجا فيجهل هذه الحقيقة.
• وفاقد للمصداقية لأنه لا يبحث عن شروط التصدي لها.
لذلك فكل من يدعي الانتساب إلى التحرر والتحرير من دون السعي إلى تحقيق جبهة وطنية حقيقية تحاول إخراج البلاد من الصراع الذي تجاوزه التاريخ بين التأصيل والتحديث فهو غير مدرك إلى أن الساعين لهذه الاستعادة لا يميزون بين التحديثي والتأصيلي بل بين من يريد الندية ومن يريد التبعية.
هم لا يقبلون إلا من يريد التبعية وهي عندهم ليست سياسية واقتصادية فحسب بل هي بالأساس ثقافية بمعنى آخر حصون الدفاع عن البقاء في المجتمعات الإنسانية لأنها المرحلة الأخيرة في انتصار أي عدو على عدوه: مرحلة القضاء على إرادة بقاء الذات مستقلة روحيا عمن يغزوها شرطا في بقاء المقاومة.