المناخ الروحي المحدد للثقة في الذات


1-ما القصد من التوجه إلى الشباب بجنسيه في محاولات فهم الوضع الحالي في العالم بالنسبة إلى المسلمين عامة والعرب خاصة بطريقة التواصل الاجتماعي التي هي بعيدة عما تعودته من أساليب الكتابة؟
2-لا ينبغي فهم ذلك خطأ: ليس لتغيير أسلوب الكتابة نزولا عنذ رغبة من يتصور الذهاب إلى بعائد العلل بنسق منطقي تعسيرا وليس تيسيرا بل للأهم. فهذا مما لا يمكن التخلي عنه إذا كنا نريد التحليل والتأويل القابلين للامتحان العقلي.
3-فبعد اطلاعي على العينة التي أمدني بها بعض طلبتي حول المناخ الروحي لدى الشباب العربي بجنسيه عامة بدا لي أنه أقرب إلى مناخ الهزيمة الروحية.
4-بصورة أدق هو مناخ خلقي يفيد أن الأمة لم تعد تمد الشباب بما يمكنه من الثقة في النفس ومن دخول مغامرة الإبداع بالجرأة على التجريب الأصيل.
5-والعلة هي عدم قراءة الخاصيات الروحية لما يحدث بسبب القطيعة في الحاضر بين الحديث الدائر حول حدث الماضي والحديث الدائر حول حدث المستقبل.
6-حصلت قطيعة بين حدث الماضي وحديثه فلم يعد بالوسع الوصل بين حديث المستقبل وحدثه: فارتد كل الوجود إلى”بابل” الأحاديث أو حرب الكاريكاتورين.
7-انقسم الشباب إلى أربعة صفوف في سعيهم للخروج من المأزق “البابلي” (أي متعدد اللغات) -من حيث المدلولات وليس من حيث الدوال : إذ يمكن أن تكون هذه واحدة وتلك مختلفة- وما يعمه من بلبلة مفاهيمية وتصورية تلغي القاعدة الأساسية لتداولية سوية.
8-بلغة منطقية لسانية: لا يمكن لأي حوار مفيد أن يحصل بين البشر من دون قاعدة أساسية تحدد سياق الدلالات والمعاني ومن ثم فهي شرط التفاهم وعدم التفاهم المفهومين لسانيا ومنطقيا والقابلين من ثم للعلاج.
9-وهذه القاعدة التداولية هي مفهوم الجماعة ذات الضمائر المشتركة قاعدة لكل تفاهم ممكن أو حتى لسوء التفاهم القابل للحصر (أي المضمرات التي تجعل المتحاورين يتكلمون كلاما يحيل على مدلولات مشتركة).
10-لذلك فالذين يغلب على سياق تربيتهم المناخ الديني بلغ بهم تضخمه إلى تخمة كان لا بد أن تنتج النتيجتين العنيفتين -ماديا ورمزيا- المتقابلتين نظريا وعمليا.
11-والذين يغلب على سياق تربيتهم المناخ العلماني بلغ تضخمه إلى تخمة كان لا بد أن تنتج النتيجتين العنيفتين -ماديا ورمزيا- المتقابلتين نظريا وعمليا كذلك.
12-فنتجت أربع نتائج مناقضة للمناخين: ملل من الدين وذهاب إلى نقض قيمه الجهادية بالإفراط والاجتهادية بالتفريط. ونفس النتائج من اللادين. وبذلك تجد نتائج كلا المناخين في كلا الصفين نقضا لنوعي القيم الجهادية (العمل) والاجتهادية (النظر).
13-وإذن فالعنف والكفر بالدين (في المناخ الذي تغلب عليه التربية الدينية) والتدين والكفر بالعلمانية (في المناخ الذي تغلب عليه التربية العلمانية) هي النتائج الأربع التي يتقوم بها المناخ الروحي لشباب المسلمين والعرب بجنسيه.
14-وهذه المواقف الأربع المشتركة بين الفتيان والفتيات تعود إلى تصورين للوجود وقيم الحياة في صلة بالدنيا اقتصارا عليها أو تجاوزا لها. ولولا الصراع الحي بين القصور والتجاوز لما وجدت أزمة أصلا.
15-هي إذن أزمة روحية وخلقية من المفروض ألا تعتبر أمرا سيئا بل بالعكس هي عودة الحيوية الروحية لأمة تتحرر من جمود الوجدان والفرقان وعيا بحرية الكيان ومعاني مفهوم الإنسان في آن.
16-ما استنتجته هو أن شباب الأمة بجنسيه وخاصة بجنسه اللطيف الذي لم يعد ضعيفا استعاد جرأة كادت تدفن تحت رميم الانحطاطين: الذاتي من ماضينا والمستورد من الحقبة الاستعمارية.
17-لكن ما أشعر بفقدانه في هذا المناخ هو الطابع الإيجابي المحرر من سلبيات هذا العنفوان الذي يعاني من عدم ثقة في الذات الحضارية للأمة وبصورة أدق في راهنها.
18-سيقال لي: وما الذي يعجب في راهن الأمة أو يمكن أن يكون باعثا للثقة بدل الشعور بما يشبه التقزز من أحوالها وحاضرها واليأس من المستقبل؟ أليس الشباب محقا في ما يعاف من أوضاعنا؟
19-سيقال لي: لم يعد الحديث السارد لحدث الماضي محركا. ولم يعد الحديث الواعد بحدث المستقبل قابلا للتصديق. فلم إذن تعجب من فقدان الثقة ؟
20-صحيح أن سرد حدث الماضي (تضخم الخطاب الديني) ووعد حدث المستقبل (تضخم الخطاب العلماني) فقدا فاعليتهما فولدا هذا المناخ المرضي وما وصفنا من نتائج.
21-وإذن فالأمر كله بات رهن فهم هذا المناخ الناتج عن التضخمين وشروط التحرر مما يتولد عنه من سوالب تحول دون عودة فاعلية السرد والوعد المبدعين بإقدام وندية.
22-تضخم السرد ناتج عن الانحطاط الذاتي وتضخم الوعد ناتج عن الانحطاط المستورد وما بينهما هو معركة الكاريكاتورين وعنفوان الشباب ثورة عليهما.
23-فإذا عمق الشباب السرد (حديث الماضي) والوعد (حديث المستقبل) فحررهما من التضخم المرضي لخطاب التأصيل وخطاب التحديث الكاريكاتوريين تجاوز الحرب الدائرة بينهما وبدأ يبدع في إطار تحدده كليات الإبداع الروحي والمادي.
24-وحينها سيكتشف الشباب بجنسيه أن هذا الإبداع الروحي والمادي يمكن أن يكون للإنسان بماهو إنسان رئيس بالطبع ولكن بأسلوبين يتعالى عن المتناهي أو يغرق فيه.
25-فينفتح على معان غيبتها حرب الانحطاطين الذاتي والمستورد وهي ما سيعيد إليه الثقة في أن له رسالة كونية: فالبشرية اليوم تبدع روحيا ورمزيا لكنها تختنق من انحصارها في أفق مسدود.
26-وشاء المكر الإلهي (عند المؤمن) ومكر التاريخ (عند غير المؤمن) أن يكون المسلمون عامة والعرب خاصة ممثلين لحال هذا الوضع الإنساني الأليم روحيا وماديا وأن يصبح الشباب حاد الوعي بالوضع.
27-أي إن كل أدواء الأفق الذي تحدده العولمة تعينت عندنا: الاستبداد والفساد والاستضعاف والاستتباع فزال عندنا مفهوم الإنسان رئيس بالطبع.
28-صار الإنسان بخلاف ما يتصور ابن خلدون مرؤوسا لا رئيسا بالطبع. ولما تعمق التحليل تجد أن ذلك صحيح على الجميع ولا يستثني شعوب المستعمر.
29-ما يعني أن وضعنا صار رمز وضع الإنسانية: العولمة جعلت البشر كلهم عبيدا. لكن هذه العبودية تمثلت بصورة شبه مطلقة: تبعية الحماية (كل اقطارنا محميات ليس لعجز بل لعدم شرعية الحكم) والرعاية (كل اقطارنا مادة يدها للسؤال ليس من فقر طبيعي بل لعقم سياسي).
30-الضيق الوجودي الذي يعاني منه الشباب المسلم عامة والعربي خاصة هو ضيق كوني لكنه أشد بروزا عندنا لأن العبودية صارت ماثلة للعيان وسافرة لجمعها بين مظاهرها المادية والروحية في آن.
31-هي خفية في الغرب -الشعوب تعيش في غيبوبة بوهم السعادة المادية التي تقدم لشباب العالم على أنها الغاية- لكنها في الحقيقة مدركة للمسكنة والحرمان الروحيين ربما أكثر من شعوب العالم الثالث.
32-المسكنة الوجودية والخلقية هي مرض العصر الناتج عن العبودية الحالية: الدولة الحديثة معمل فيه عبيد ومافية تحكمهم للتبذير المادي لا غير.
33-والمسكنة تخمة أو حرمان يتحول إلى فقدان للمعنى في الوعي مختلف الوضوح لدى شبابنا الذي يختار أحد السبل الأربعة التي ذكرت فتصبح عالمية.
34-والمسكنة فقر وجودي يؤدي إلى احتقار الذات. ومثله الحرمان. والفرق هو أن الأولى أعم لأنها يمكن أن توجد لدى غير المحروم ماديا.
35-وإذن فحال الشباب اليوم هي حال الثورة على المسكنة والحرمان وهو مدلول طلب الكرامة والحرية أي بلغة ابن خلدون السعي لاسترداد معاني الإنسانية التي افقدها إيانا الاستبداد والفساد (داخليا) والاستضعاف والاستتباع (خارجيا).
36-وهو ما يجعل علاج القضية لدينا علاجا لها عالميا. وحينئذ يكتشف الشباب المسلم والعربي أن حديث الماضي عن حدثه يصبح قابلا للتصديق بحق.
37-فليس بالصدفة أن كانت الرسالة الإسلامية تتوجه للإنسان بما هو إنسان وليس لقوم دون قوم -النساء 1- بمعيار الا تفاضل بين البشر إلا بالتقوى -الحجرات 13-.
38-هذا الحديث لم يكن قابلا للتصديق لأن مخاطبة البشر باعتبارهم اخوة من يصدقها عندما كانت الحدود السياسية والحضارية حائلة دون التواصل؟
39-لكن مفاعيل الطبيعة (الأمراض والمناخ) والآن مفاعيل التاريخ (الأسلحة والسياسة) لا تعترف بالحدود السياسية والحضارية بل تشمل الكون كله.
40-نحن أكثر الناس خضوعا لذلك دون مبالاة حقا:أ رضنا وعرضنا وإرادتنا وذواتنا كل ذلك ليس بيدنا بسبب الاستبداد والفساد والاستضعاف والاستتباع.
41-ولنعد إلى بيت القصيد: ما يزال المناخ الروحي للشباب بجنسيه يعاني من النشاز الناتج عن دخول الكاريكاتورين في سمفونية المعركة الوجودية.
42-وهما ما أشعر أن أصحابهما يضيقون بما أكتب: فكاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث هم ذباب الثورة المضادة الذي يعطل ثورة الشباب بجنسيه.
43-وطبعا فأنا لا أعجب من تبرمهم فضلا عن أن انزعج منه أو أن أوليه أهمية. لكن كما يقول المثل التونسي”الذباب لا يقتل لكنه يدرع الخواطر=يسبب التقزز”.
44-ويكفي أن يستعيد الشباب بجنسيه الثقة في حضارته حتى يستأنف الإبداع من منطلق الندية. يكفي إقناع واحد على ألف من شبابنا لتنجح الثورة. فمن دون اعتزاز بالنفس وثقة في الذات لا يمكن للإنسان أن يبدع أبدا.


نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي