لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله
عيب علي رفض نظرية المقاصد رغم أني مع رفضي لها استعملها خلال كلامي مع غيري عليها أو بها احتراما لشروط الحوار ومنها القبول بالحلول الوسطى. وقد سبق لي أن بينت أن التوسط والحلول الوسطى ضرورية في العمل ضارة في النظر. ففي الأول لا بد من أن يتلاقى المتحاوران وأن يتدابرا للتعايش. لكن النظر مهما أغرق صاحبه في السباق نحو ما يطلبه من الحقيقة فهو لا يضر بغيره ولا يوقف التعايش وقد يصل إلى ما يصبح عمليا فيساعد على تجويده. ومن هذا الباب ارفض نظرية المقاصد في البحث النظري حول مسائل فلسفة القانون. ذلك أني اعتقد أن الشرائع لا معنى لها فيما تغني فيه الطبائع. وما يسمونه المقاصد الضرورية كلها دون استثناء تغني فيها الطبائع عن الشرائع أو على الأقل فهمها لدى الفقهاء تغني فيه الطبائع عن الشرائع. فلا يوجد أحد يمكن ألا يدافع بطبعه عن عقله وعرضه ونسله وعقده وحياته إلا إذا كان أحمق والحمق لا تشرع له الشرائع لأن صاحبه سفيه بالمعنى الفقهي. بل هي تشرع لولي أمره وهي إذن تتدخل لأن الطبيعة لم تغن عنها. لم يقل الفقهاء مثلا حرية العقل وحرية العقد وحرية الملكية وحرية العرض وحرية النسل. فهذه الحريات لا تغني فيها الطبائع إذ لابد من حكم بين طبيعتين على الأقل ظالمة ومظلومة بخصوص هذا الحق الشرعي فوق الطبيعي قوة قانون وشرط خلق. لذلك فكل حكم من أحكام الشريعة يعلل خلقيا والشرعي فيه تعليله وليس مقدار الجزاء فيه الذي هو أداة من أدوات تحقيق غاية الحكم وليس هو الحكم. وما يحرر الشريعة من الاعتراضات التي تدعي أنها لم تعد مناسبة للعصر ليس المقاصد التي لا يعلمها إلا الله بل التعليل الخلقي الذي هو صريح فيها. وبهذا تتميز الشرائع ذات التعليل الخلقي عن الشكلانية الإجرائية التي تبدو ضامنة لموضوعية الأحكام وهي ما يجعل القانون أداة تحيل ينفي العدل. ولعل أهم ظاهرة تبرز فيها هذه الخاصية الشكلانية هي الفصل بين المدني والجنائي حيث يحتكم لقاضي لما يقدمه طرفا النزاع الأول بخلاف النزاع الثاني. ولما كانت جل النزاعات الجنائية مصدرها نزاعات مدنية لم تحسم بالعدل-إذا ما استثنينا جرائم الشرف-تبينت في المدني حاجة منع التحيل الشكلاني. والتحيل الشكلاني له علاقة بالفرق الاقتصادي والاجتماعي بين المتنازعين لان الأقدر على الدفع أكثر وانتخاب المحامين “الاشطر” غالبا ما يربح. أعلم أن تدخل القاضي في الجنائي لا يمنع التحيل لان الفرق الاقتصادي والاجتماعي فيه يكون ربما أكثر فاعلية فيكون المتهم القاضي ونائب الحق العام. فيتعلق الأمر حينها بفساد قضائي أيسر علاجا وليس بفساد النظام الذي يجعل المتنازعين خاضعين لشريعة المتعاقدين وهي غالبا خاضعة لميزان القوة. فإذا قدمنا التعليل الخلقي للعدل-ومعياره يسير فكل ظالم يكفي أن يوضع في وضع المظلوم حتى يدرك بالموقفين حقيقة العدل-كان تقدير الجزاء للقاضي. وعندما تكون سمعة القاضي في الميزان ومعيار الحكم خلقيا فإن الراي العام يصبح ذا دور يتجاوز الشكلانية القضائية التي تضيع الحقوق بموجبها. ومن العيوب الأساسية في الشكلانية نظرية الدرجات الثلاث وتعدد القضاة في كل درجة. فكلفة القضاء وآجال الحسم تضيعان فائدة القضاء على مستوييها. فهي تعطل وجهه المدني (العقود والالتزامات) وتنمي وجهه الجنائي فمن يفرغ صبره من الظلم والتحيل القضائي ومناورات المحامين قد يأخذ حقه بيده. وتلك هي العلة التي جعلتني أعتبر المدني يكون في غالب الأحيان علة الجنائي فالعاجز أمام القوة وفاقد الصبر قد يلجأ إلى أخذ حقه بنفسه بالعنف. ولما كان والدي من موظفي القضاء الشرعي فإني أعلم أن الكثير من الجرائم بين ملاك الأرض وعمالهم وبين الورثة يعود إلى شكلانيته القضاء الإجرائية. وكل مناورات المحامين وبطء القضاء وحتى مشاركة القضاة فيهما علته الاختفاء وراء الشكلانية فلا تكون سمعة القاضي في الميزان بحجة القانون قانون. لذلك فإنه لا بد من العودة إلى جعل سمعة القاضي في الميزان بمعيار خلقي للرأي العام فيه وزن والذهاب إلى حد انتخاب القضاة والحد من الشكلانية. فيمكن أن تكون الدرجة الأولى بقاض واحد والثانية بقاضيين والأخيرة بثلاثة. وأن يكون كل حكم يمر بالمراحل الثلاثة بلا استثناء وبلا آجال بينها. يحكم القاضي الأول فيعرض الحكم على ثان يناقشه وسواء اتفقا أو لم يتفقا ينتقل الحكم إلى ثالث فإذا حصل الاجماع أو أحدهما كان الحكم نهائيا. وإذن فكل النوازل ينبغي أن تحسم في آجال لا تضر بالنشاط الذي ينتسب إليه النزاع ولا تؤدي إلى المناورة والتآجيلات اللامتناهية لمناورات المحامين. وانا على يقين أن ذلك يفيد النشاط الاقتصادي لأن المدني غالبه اقتصادي وينقص من الظلم والغضب فيقلل من الجنائيات التي لها صلة بهضم الحقوق. والشريعة الإسلامية تخضع المدني لواجب تدخل القاضي وتضع إجراءات تركز على تحييد عدم المساواة في قوة المتنازعين. لكن ذلك لم يصغ بصورة صريحة. وسأكتفي بأطول آية في القرآن تحدد شروط التعاقد التي تمنع التحيل الممكن بجعل من عليه الدين هو الذي يملي العقد وفرض كتابة العقد والشهادة. والاجراءات في القضاء المدني تعتبر اقل دفعا لما يصبح تابعا للقضاء الجنائي بالقياس إلى القضاء المتعلق بالأحوال الشخصية أو بالعدوان على الكرامة. فكم من امرأة تظلم ومن أسرة تهدم ومن كرامة تنتهك بسبب ما وصفت من تباطؤ إما بسبب الشكلانية الإجرائية أو لصالح الاقوى فيسود الباطل ويضيع الحق. ويصل الأمر إلى ما هو أدهى عندما يصبح للدولة قضاء خاص بها وبمن يمثلها فيصبح المواطن أمام خصم هو حكم أو ذي سلطان على الحكم في غالب الاحيان. وقد درست القانون الإداري عند أكبر أعلامه (جورج فودال) في فرنسا ورأيت أنه رغم احترام القضاء الإداري ومنزلة القضاة أن الحقوق ليست دائما ناجزة. فما بالك في بلداننا حيث لا وجود لاحترام للحقوق ولا للقضاة ولا للمواطن ولا للقانون. لذلك فلنسمع لابن خلدون: فالظلم مؤذن بخراب العمران. فإذا أضفنا أن القضاء حتى لو تصورناه قد عدل فإنه ليس كافيا. لأن القانون حكم على ورق لا يكون نافذا إلا بدور السلطة التنفيذية وأدتها الأمن. وكل ما يحصل في مستوى القضاء يحصل ما هو أسوأ منه في مستوى التنفيذ والأمن. وبهذا تضيع الحقوق وتفسد الحياة المدنية ويصبح الجميع متحيلا وعنيفا. ولما كان الحكام اغلبهم لصوص ومعتدين على الحقوق فإن ممثلي الدولة والقوة العامة يخربون شروط العيش المشترك ويدفعون الناس إلى حرب أهلية دائمة. ففي غياب قوة القانون يحضر قانون القوة. ويكون ممثلي العدل في الجماعة قضائيا كان أو افتائيا مجرد مسكن يهترئ فينفجر العنف العام في جل بلادنا. فالإنسان إذا تبين له أنه لا ملجأ له من الظلم إلا أخذ حقه نفسه وتراكم فأصبح ظاهرة عامة فإن الحرب الأهلية من الأدنى إلى الأسفل تصبح ثورة.
الكتيب