لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله المعادلة الوجودية
– الفصل الثاني –
اعتبر هذا اليوم أسعد أيام حياتي إلى حد الآن: فقد تمكنت من بيان انطباق نظرية المعادلة الوجودية على وجهي القرآن الكريم في آن: النقدي والبنائي.
لما وضعت نظرية المعادلة الوجودية لم أكن أتصور قابلية المطابقة بين وجهي الدين القيم وتحريفه بمجرد قلب الصفات الموجبة إلى نقائضها السالبة.
وما زاد في سعادتي هو أن هذه المطابقة تبين ما يجعل أصناف الأديان التي يذكرها في نقده للتحريف ويعترف بحقها في الوجود شرطا للتسابق في الخيرات.
وتصنيفه جامع مانع لنماذجها وليس لأعيانها:
– اثنان منزلان (اليهودية والمسيحية)
– اثنان طبيعيان (الصابئية والمجوسية)
– والخامس هو أصلها المطلق والنسبي: الشرك
وهي تقابل الإيمان الذي هو الديني في كل دين وضمير “كلمة” الإيمان هو ليس مجرد التصديق بعقيدة بل التصديق بدين الله: المعادلة الوجودية الموجبة.
ندرس في المحاولة استراتيجية القرآن بما هي ما بعد الأخلاق تشخيصا وعلاجا لأمراض الإنسانية الروحية والمادية وسر كونية الإسلام وعداء العولمة له.
التوحيد عضوي خِلقي وسياسي حقوقي: التقوى تعني احترام شرع الله أو القانون في الأديان. الناس هنا شعوب وقبائل: مفهوم انثروبولوجي وليس دينيا.
ونتيجة هذا التوحيد هي التعارف. وللتعارف معنيان المعرفة والمعروف فضلا عن دلالة المشاركة كما في سورة العصر بين المؤمنين والعاملين صالحا.
بات الآن بوسعنا أن نتكلم على شروط تحقيق هذه الغاية بمقتضى المعادلة الوجودية التي تجعل الإنسان بما هو خليفة يحقق هذه الشروط فتتحد الإنسانية.
وذلك هو مضمون بعدي السياسة القرآنية ووظيفتي دولته: تربية الإنسان وحكمه. ودولة الإسلام نموذج بعديها تربية وحكما قرآني والسنة تحقيق عينة منها.
ولهذه العلة سميت قراءتي للقرآن فلسفيا: “استراتيجية القرآن التوحيدية ومنطق السياسية المحمدية”: والمسلمون نكصوا منذ الفتنة الكبرى الى الآن.
فالسياسة بخلاف صورتها في دين العجل ليست أداة التحكم بالتدنيس وتقية التقديس بل هي التقديس المكرم للإنسان بتحريره من التدنيس وجعله بحق رئيس.
نباهة ابن خلدون مكنته من تعريف العبودية: نتيجة سياسة تهدف بتربيتها وحكمها إلى إفساد معاني الإنسانية فيه وجعله يظهر عكس ما يبطن: أخلاق العبيد.
ومن الأدلة القاطعة على فقدان البصيرة الكلام على الإسلام بقولين كلاهما يسيطر على افكار أدعياء الحداثة ممن تسكرهم زبيبة اعلام الحرب النفسية.
وأولهما دعوى عدم وجود نظرية حكم ودولة في القرآن والثاني القول بفصل السياسة عن الدين. وقد لحق بهم من يطمع من زائف الإسلاميين في الحكم معهم.
وهذا الدليل القاطع: القرآن بوجهيه النقدي والبنائي فلسفة دين وفلسفة تاريخ. وقطع الدلالة: هل يمكن لعاقل أن يتصور فلسفة تاريخ دون رؤية سياسية؟
فيكون المطلوب في المحاولة بيان استراتيجية القرآن الكريم في:
وجه الرسالة النقدي لنتائج التحريف الديني في السياسي بوجهيه تربية وحكما.
ثم الوجه البنائي لتحديد الدين الحق بقيمه الكونية التي تشمل الإنسانية وما يترتب عليه سياسيا في تربية البشر وحكمهم بوصفهم اخوة متساوين.
فضل نظرية المعادلة الوجودية أنها بينت أنه حتى العلماني لا يستطيع بناء نظام سياسي وخلقي من دون مرجعية قيمية أساسها مقدسات سماوية أو دنيوية.
فالدين ليس كله منزلا. والأديان الطبيعية شكل بدائي من الدين يؤله لطبائع الخارجية أو الداخلية (الإنسان). والعلمانية نكوص إلى الدين الطبيعي.
أصحابها لفقدان البصيرة يتصورونها تقدما وتحررا وهي في الحقيقة نكوص إلى شكل الدين البدائي: فهي تعبد القوى الطبيعية سواء خارج الإنسان أو فيه.
ولا تصدق كذبة أن الإنسان يمكن أن يكون تسام إلى ما يتجاوز صورته عما يؤله من الوجود. فجوهر العلمانية أخلاق العجل الذهبي والإخلاد إلى الأرض.
وهذا حتم: فمن يعتقد أنه لا شيء يعلو على الطبائع ويستمد منها الشرائع فلا يمكن أن تكون أخلاقه غير ما يترتب على العجل من إخلاد إلى الطبائع (الأرض).
ودعوى أن كنط يفصل بين الأخلاق والدين من جنس ويل للمصلين: صحيح أن علمهما فنان منفصلان. لكن شرط الأخلاق (الحرية) عالم متعال على الطبيعة.
ذلك أن الطبيعة قانونها الضرورة ولا يمكن أن تستثني الإنسان من قانونها. فإذا لم يوجد ما يتعالى عليها امتنع أن يوجد ما شرطه التعالي عليها.
لا أخلاق من دون حرية ولا حرية من دون تعال على الطبيعة ولا تعال عليها من دون إيمان بمبدأ حر فوق الطبيعة والضرورة إذن الأخلاق دينية بالجوهر.
وإليك نصه الصريح:
“Ich kann also Gott, Freiheit Und Unsterblichkeit zum Behuf des notwendigen praktischen Gebrauchs meiner Vernunft nicht einmal annehmen, wenn ich nicht der spekulativen Vernunft zugleich ihre Anmassung überschwenglicher Einsichten benehme, weil sie sich, um zu diesen zugelangen, solcher Grundsätze bedienen mudss, die, indem sie in der Tat bloss auf Gegenstände möglicher Erfahrung reichen, wenn sie gleichwohl auf das angewandt werden, was nicht ein Gegenstandder Erfahrung sein kann, wirklich dieses jederzeit in Erscheinung verwandeln, und so alle praktische Erweiterung der reinn Vernunft für unmöglich erklären. Ich musste also das Wissen aufheben, um zum
Glauben Platz zu bekommen, und der Dogmatism des Metaphysik, d.i. das Vorteil, in ihr ohne Kritik der reinene Vernunft fortzukommen, ist die wahre Quelle alles der Moralität widersteitenden Unglaubens, der jederzeit gar sehr dogmatisch ist
وقد سبق أن عرضت هذا النص وترجمته[1] .
المفيد هنا هو أن كنط لا يؤسس للفصل بين الدين والأخلاق إلا كفنين. وليس القصد بالدين شعائره ومؤسساته بل العقد فيما يتعالى على الطبيعة.
العناصر الثلاثة اعتبرها الغزالي كذلك الديني من الدين: الإيمان بوجود الله وبخلود النفس وبالحرية شرط الأخلاق وعدم اقتصار الإنسان على الطبيعة.
وهذا يكفي تمهيدا للكلام على استراتيجية القرآن بوجهيها النقدي والبنائي في فلسفة الدين وفي فلسفة التاريخ أي في السياسة ببعديها وفي الأخلاق.
[1] “وهكذا إذن فإنه لا يمكنني ولو لمرة واحدة (أبدا) أن أسلم بوجود الله والحرية وخلود النفس لأجل الاستعمال العملي الضروري لعقلي، إن لم أحذف في آن الآراء بالغة الحماسة التي يدعيها العقل النظري. فالعقل النظري ينبغي، لكي ينجح في تحقيق هذه الأراء، أن يستعمل ذلك النوع من المبادئ التي، وإن كانت تكفي لمعرفة مجرد موضوعات التجربة الممكنة، فإنها، عند استعمالها كذلك فيما لا يمكن أن يكون موضوع التجربة، تحوله فعلا وفي كل مرة إلى مجرد ظاهر منه. وبذلك يتبين أن كل توسيع للاستعمال العلمي للعقل النظري غير ممكن.
لذلك اضطررت إلى نسخ العلم لأمكن للإيمان (أعني نسخ) وثوقية الميتافيزيقا أي الحكم المسبق القائل بتوسيع العقل الخالص من دون النقد، ذلك الحكم المسبق الذي هو المعين الحقيقي لعدم الإيمان المجادل في كل أخلاق، والذي هو في كل عصر مطلق الدغمائية”.