ه
شروطها بين الامكان والاستحالة
أسمع المرشحين الممثلين لأكبر تيارين سياسيين في تونس يتكلمان على المصالحة بصورة عامة دون أن يحدد أي منهما ما يقصده بها. لكنه مع ذلك أمر محمود لأن فيه عزما على تجاوز الماضي وقلب صفحة قريبه وبعيده للالتفات إلى المستقبل.
لكن لا بد من تحديد القصد بالمصالحة الكفيلة بتحقيق ذلك والجواب عن السؤالين التاليين:
• فبين من ومن تكون المصالحة؟
• وبماذا تتعلق المصالحة المنشودة؟
لما كان كلام الرجلين عليها عاما وخاليا من الجواب عنهما سأكتفي بالافتراض الذي يستنتج منطقيا من طبيعة نسبتهما إلى صفين هما بدورهما بصدد التحدد وإن بدوا محددين:
- سأفترض أن المرشح الذي يقدم نفسه أو يقدمه الظرف على أنه وريث السبسي الذي يدعي أنه وريث بورقيبة فيكون هو وريث الوريث حتى وإن تقدم كمستقل: وأعني الدكتور الزبيدي.
- وسأفترض أن المرشح الذي يقدم نفسه أو يقدمه الظرف دون تحديد موروثه إلا بصورة غير مباشرة من خلال اعتباره مرشح النهضة لأنه لم يتقدم كمستقل: وأعني الأستاذ مورو.
أما بقية المرشحين فينقسمون إلى فصيلتين ولا أحد منهم يبدو من دعاة المصالحة بل كلهم من دعاة المحاسبة لأنهم منحازون إما إلى الثورة أو إلى ما قبلها رغم أن الموضوعات السياسية الأخرى التي تتعلق بالتنمية وبعدها الاجتماعي مشتركة بينهم وبين المرشحين اللذين سأتكلم على رؤيتهما للمصالحة.
• والفصيلة الأولى هي فصيلة من كانت مشاركتهم في الحكم كافية لبيان عجزهم عن تحقيق شيء ملموس في علاج مشاكل الوضعية التونسية. وإذا اعتمدنا على حصيلة تجربتهم فإنهم لا حظ لهم في هذه المنافسة الانتخابية.
• والفصيلة الثانية هي فصيلة من ليس لهم تجربة سياسية وكان يمكن أن يكون لبعضهم حظ لو كانت لهم قاعدة شعبية وهو شرط لا يتوفر حاليا لأي منهم ولا معنى لفعل سياسي من دون قاعدة شعبية حاصلة أو ممكنة الحصول.
ولذلك فسأكتفي بالكلام على هذين المرشحين اللذين يتميزان بكونهما من ذوي الخبرة دون مشاركة في تجربة الحكم التي صارت بؤرة التقييم لأنها تبدو وكأنها تغطي على عيوب ما تقدم عليها رغم أنها في الحقيقة هي أصل الداء.
وسأحاول بيان المفارقة في الترشحين وفي تحديد طبيعة المصالحة المسكوت عنها لأصل إلى المصالحة المصرح بها عند كلا المشرحين. وأبدأ بالمفارقة البينة لكل ذي بصيرة أعني بالمصالحة المسكوت عنها:
فالذي يتقدم على أنه مستقل عن الأحزاب هو في الحقيقة مرشح كل شقوق حزب السبسي لأنهم يعتبرون ترشحه فرصة لتوحيد صفهم ومن يتردد في الانضواء تحت لوائه سوف ينتهي إلى لا شيء.
والذي يتقدم على انه مرشح حزب هو في الحقيقة مرشح مستقل حقيقة لأن الحزب الذي يدعي ترشيحه له قيادة تتكلم بصوت مختلف تماما عن صوته ولذلك فترشحه في الحقيقة تعبير هش عن درء صدع لم يعد بالوسع إخفاؤه.
وإذا فاز الأول فيسكون بفضل وحدة الزعامة التي تحقق المصالحة بين الشقوق في حزب السبسي. وإذا فشل الثاني فستكون علة الفشل ازدواج الزعامة في تشقق حزب النهضة.
وهكذا فنحن أمام مشروعين للمصالحة مصرح بهما. أحدهما يمثله الزبيدي وريث الوريث للمشروع البورقيبي. والثاني يمثله مورو الذي ليس له وسيط بين مشروعه ومشروع ضمني لم يعلن عنه لكنه بين من خلال تكوينه بوصفه صادقيا حاز على الثقافة الزيتونية ما يعني أنه ذو صلة مباشرة بلحظة أولى في الحركة الوطنية التي لم يكن بورقيبة بعد قد انفصل فيها عن الأصل المشترك لهذه الحركة: شباب تونس الذي كان يجمع بين الثقافتين الأصيلة والحديثة بعيد الحرب العالمية الأولى التي كانت بداية حركات التحرر في العالم انطلاقا من مشروع ولسون.
المشروع الأول: مشروع المصالحة شبه المستحيلة التي يصرح بها الزبيدي:
وأبدأ بالدكتور الزبيدي الذي يتكلم على المصالحة بالمعنى الذي كان يتكلم عليه السبسي وهي إذن مصالحة أعتقد أنها مستحيلة لانعدام شروطها التي سابين. فالسبسي يضمر أن مرحلة ابن علي مواصلة لمرحلة بورقيبة. وهذه كذبة بينة. ففي عهد بورقيبة مهما قيل فيها فإنها لم تكن محكومة بالمافيات في الدولة وفي الاتحاد ركني النظام البورقيبي. كان الجميع مهما اختلفوا مؤمنين بما يسمى الوحدة الوطنية ويسمونها القومية. لم يكن فيهما اختراق مافيوزي ولا اختراق صيهوني أو صفوي وأقصى ما كان موجودا هو تأثير المستعمر القديم ثقافيا وقيود اتفاقية الاستقلال. فيكون المشكل مع هذه المرحلة البورقيبية مقصورا على مسألة الاستقلال المنقوص ومسألة الديموقراطية.
لكن مرحلة ابن علي أضافت إليهما مسألة الاختراق المافيوزي والاختراق الصهيوني والصفوي. ومن ينكر ذلك لا يريد التشخيص الدقيق ولا يريد البحث عن العلاج المناسب للداء ويكتفي بتلطيف الأعراض. وأستعمل هنا لغة الأطباء لأن الزبيدي طبيب.
والسؤال الذي أوجهه له: هل له حل سحري للمصالحة التونسية من دون علاج هذه الأدواء الأربعة أي عيبي البورقيبية وعيبي الابنلعوية: - تعديل اتفاقية الاستقلال حتى يكون استقلالا بحق؟
- تعديل مفهوم الوحدة الوطنية بصورة لا تتنافي مع التعددية شرط الديموقراطية؟
- الحسم مع المافيات التي تنخر الدولة والاتحاد؟
- الحسم مع الاختراق الصهيوني والصفوي خاصة والمخابراتي الدولي في الأحزاب والمنظمات وجمعيات المجتمع المدني؟
فإذا غابت هذه المسائل في مشروع المصالحة لم يبق منه شيء يعتد به وهو عين ما حاوله السبسي فكان في الحقيقة ليس علاجا بل مسكنا للإبقاء على ما كان موجودا في عهد ابن على مع واجهة هي ما يسمى بالديموقراطية الشكلية التي لا معنى لها لأنها تبقى على الحال المرضية التي لن تجعل تونس دولة شعب حر بل دولة أنديجان تحكمها المافيات والاختراقات ولا طموح لها غير قشور التغرب والاغتراب.
المشروع الثاني: مشروع المصالحة شبه المستحيلة التي يضمرها مورو.
مشروع مورو ينتسب إلى ما لا ينقال. فصاحبه لا يستطيع التصريح به لأنه يضيف إلى ما يعجز دونه الزبيدي ما يجعل أي إنسان آخر أعجز عنه إذ لا يمكن فيه الاقتصار على الأقوال الظرفية بل لا بد من شروط انتقال الأقوال إلى الأفعال ككل بناء حضاري طويل النفس ليس السياسي فيه إلى احدى تجلياته السطحية.
ولذلك فما لم يفهم الرجلان أن المنافسة بينهما ليست منافسة على الغايات التي هي أعمق من السياسي بل هي على أساليب العلاج السياسي الموصل إليها والذي شرطه أن يحصل اتفاق عميق بينهما عليها أصلا لترتيب الأوليات في المقاومة الشعبية لعلل التخلف والانحطاط المادي والروحي في الجماعات ذات التاريخ التليد. فكل ما أشرت إليه في مشروع الزبيدي للمصالحة الذي صار شبه مستحيل للعلل التي ذكرت ليس خاصا بصف الزبيدي بل هو يشمل الصفين إذ هو عينه ما يجعل مشروع المصالحة الذي بضمره مورو شبه مستحيل بل أكثر قربا من الاستحالة من المشروع الأول. فلا يمكن أن تصل النخبة السياسية التونسية الحالية إلى فهم علة الداء الأعمق في حال تونس الحالية من دون أن تجيب عن الأسئلة التالية: - ما الذي جعل اتفاقية الاستقلال تكون مغشوشة وكيف يمكن تعديلها؟
- ما الذي جعل مفهوم الوحدة الوطنية متنافيا مع التعددية الديموقراطية وكيف يمكن تعديله؟
- ما الذي يجعل الحسم مع المافيات التي تنخر كيان الدولة والاتحاد شبه مستحيل وكيف يصبح ممكنا؟
- ما الذي يجعل الحسم مع الاختراق الصهيوني والصفوي والمخابرات الدولية شبه مستحيل وكيف يصبح ممكنا؟
أليست هذه هي مطالب حرب التحرير أم إن أجدادنا كانوا على خطا وارهابيين؟ أليست هذه حرب التحرر أم إن شبانا الذي ثار بين 17 ديسمبر و14 جانفي كانوا على خطأ وإرهابيين؟ ألا يعني ذلك أن المشكل المطروح حاليا إذا كنا نريد للانتخابات ان تكون تعبيرا حقيقيا عما يحول دون تونس والنهوض باقتصادها وثقافتها أعني التبعية في كل شيء مشروط في النهوض وهي التي قسمت نخبها السياسية بصورة جعلت:
• الوحدة الوطنية شبه مستحيلة.
• والتعددية الديموقراطية شبه مستحيلة.
لأن شعبا صار يعيش على التسول في رعاية حاجاته الأساسية وفي حماية قيامه لا يمكن أن يفرغ لغير الطرق القريبة “لتدبير الراس” بدل البناء المتين لشروط الحرية والكرامة التي طالب بها الأجداد الذين خاضوا معركة التحرير والشباب الذي خاض معركة التحرر وأصبحت النخب متنكرة للمعركتين معركة التحرير ومعركة التحرر ولا تريد إلا الحكم تحت سنابك المافيات والاختراقات الصهيونية والصفوية والمنظمات الدولية والمخابرات الاستعمارية.
• فأصبح الاختراق الصهيوني والصفوي شبه حتمية.
• وأصبح الاختراق المخابراتي للمنظمات الوطنية والجمعيات وكل شيء شبه حتمي.
• فأصبح الوطن مجرد شعار وأصبح الولاء والبراء مجرد تهمة توجه إلى من يوصفون بالإرهاب في حين أنه العلامة الأدنى لمعنى الوطنية التي هي ولاء للوطن وبراء من أعدائه وليست عدوانا على أحد لم يعتد عليه.