يزعمون أن سمير أمين يعد فخر الاقتصاديين العرب وصاحب نظرية المركز والأطراف والتبشير بالرؤية الصينية بديلا من الرأسمالية الاميركية.
لكن تنظيره الاقتصادي متخلف ومثله رؤى كل الماركسيين العرب في الفلسفة وفي رؤى العالم. وخاصة رؤاهم للدين بخرافة أفيون الشعوب.
وهم يحلمون بأن تسرع جائحة كورونا هذا التحول في نظام العالم فتثبت صحة رؤيته.
وخرافة المتاجرة بالدين هم أكثر الناس عملا بها لأن المتاجرة به تعني استعماله ولو بالسلب ليكون القول فيه شرعية الرؤية التي يدافعون عنها.
ومن ثم فلا أحد ذو عقل يتاجر إيجابا بالدين في مجتمعات تستمد نخبها شرعيتها بالمتاجرة به سلبا.
فالتاجر يربح بما يبيع ولا يضحي من أجله.
لكن من لا يفهم أنه توجد قيم فوق الاقتصاديتين أي فوق الاستعمال والتبادل هما قيمة الحرية الروحية وقيمة الكرامة المشروطة بسد الحاجة المادية دون تبعية لا يمكن أن يفهم معنى الدين ولا خاصة معنى التضحية من أجله لأنه ذليل يستمد شهرته عند مستعبديه من الحرب عليه.
ويكفي أنهم يتصورون الماركسية علما وفهمهم لها فلسفة وفكرا. ويزعم سمير أمين أن الإسلام السياسي من صنع المستشرقين في الهند. وهذه آخر خرافة أسمعها منه مع الزعم بأن المودودي تبناها أخذا عنهم.
والإسلام لا يمكن أن يوصف رأيه في المسالة الاقتصادية بالماركسية ولا بالرأسمالية المتوحشة كما يزعم.
فرؤية الإسلام تقبل الوصف بجعل ثمرة الاستعمار في الأرض (الاقتصاد) أداة من أجل الاستخلاف فيها (الغاية الاجتماعية وحماية العالم).
ولذلك فهو إذا أمكن وصفه بلغة عصرنا يقبل التحديد بما آلت إليه الرؤية التي تشبه يمين اليسار إذا حررناه من الالحاد وحصره الوجود في عالم الشهادة أي إن الإسلام يعتبر الاجتماعي غاية الاقتصادي.
وشرط ذلك تشجيع الملكية الخاصة وحماية مؤسسات الإنتاج التي هي مصدر الرزق.
وهي رؤية قريبة من الرؤية الالمانية منذ بداية النظام الذي وضعه بسمارك موحد ألمانيا بتأسيس نظام تعاوني بين كل المتدخلين في مؤسسات الإنتاج بخلاف حمق النقابيات “آ لا فرنساز” وهي نموذج نقابة تونس المخربة لاقتصادها الهش.
وقد حاولت صوغ الرؤية القرآنية للاقتصادية في النظام الإسلامي برد عناصرها إلى خمسة وليس إلى مقابلة فجة بين العمل ورأس المال. فلا بد في كل انتاج مادي أو رمزي من خمسة عوامل متكاملة هي:
لا بد من فكرة عامة مستمدة من نظرية علمية قابلة للتطبيق في تقنية تمكن من سد حاجة مادية كانت أو روحية (الاقتصاد والثقافة).
لا بد من رؤية لاستثمارها في سد تلك الحاجة ببضاعة أو خدمة تكون مربحة دفعا للإقدام على الاستثمار.
لا بد من تمويل لذلك الاستثمار خاص بادخار فردي أو عام بادخار جمعي أو اعم بادخار نائب الجماعة ككل أي بادخار الدولة. فيكون التمويل خاصا أو عاما أو كليهما معا.
وما كان كل ما تقدم ليصبح عملا إنتاجيا فيتحقق فعليا لو لم يوجد طلب واستهلاك هو الدافع الأصلي للعملية كلها وكلما كان الطلب كبيرا وملحا كلما كان التحقيق أسرع وأيسر بدافع الربح عند المستثمر والممول طبعا. لكن الأهم في ذلك كله هو التشغيل وموارد الرزق.
وعندئذ تلتقي كل هذه العوامل في مؤسسات انتاج فيها العمل المنتج والعمل المدير والعمل الباحث في تجويد الانتاج وفي تسويقه وفي تحسين المناهج للحد من الكلفة والزيادة في الربح لصاحب الفكرة ولمستثمرها ولممولها وللمستهلك وطبعا للعاملين بكل هذه المعاني المذكورة في خامسا.
وهذه الرؤية تختلف تماما عن الرؤية الماركسية إذا طبقت في مجتمع فيه حرية نقابية مثل البلاد الديموقراطية لأن المجتمعات الماركسية ليس فيها حرية لا نقابية ولا غير نقابية.
وما يحدث في تونس مثلا من تخريب المؤسسات هو ماركسية صدامية ورثناها عن اليعقوبية الفرنسية.
والحمقى من الماركسيين والجهلة من النقابيين -فجلهم أميون في رؤى الإسلام وفي الفلسفة ناهيك عن الاقتصاد وغالبهم صبابة لممثل المافيات التي تدير البلاد وهو الحاكم في الظاهر-هم من يتكلمون في شرطي قيام الإنسان: علم الاقتصاد والسياسة التي تستفيد من قوانينه.
وقد سبق أن ناقشت بعض مقولاته حول القومية وبناء الدولة العربية في مجلة مركز دراسات الوحدة العربية إذ رددت عليه ونشر المقال وركزت في نقدي على أكبر خطأ انبنت عليه الماركسية وهو فكرتها الأساسية التي تعتبر القيم مقصورة على نوعيها الاقتصاديين دون أن تتساءل على الأقل عن سر الفرق بين القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية الذي لا يمكن للعامل الاقتصادي الخالص أن يعللها.
وقد بينت أن القيمتين الاقتصاديتين في ثانيتهما بعد فيها خروج عن القيمة بمعناها المادي إلى ما هو أسمى منها وهو الجمالي الذي لا يقدر بمادة حتى وإن صار يعتبر حاملا للقيمة الاقتصادية تبادلية سامية.
لكنه يوجد فوق هذين القيمتين قيمتان اخريان أسمى من الاقتصادي وحتى من الجمالي الذي يتحول إلى بضاعة أسمى من الاستعمالي. فمن يموت دون عرضه ومن يدفع حياته من أجل ابنه ومن يموت من أجل وطنه ومن يجاهد من أجل عقيدته حتى لو كانت فاسدة مثل الماركسية له قيم فوق كل رؤية مادية.
والشباب العربي الذي ثار وطالب بالحرية والكرامة تجاوز الفكر البدائي ذا الرؤية الماركسية والذي هو رؤية فاقدة لمعاني القيم الخلقية وتقتصر على ما سماه ابن خلدون “الخرج” الذي يجعل القيم الاقتصادية أداة سلطان لأنه يؤمن بدين العجل: معدنه وخواره.
الماركسية تفسر التاريخ ببعدي دين العجل: بمعدنه أو الاقتصاد وبخواره أي إيديولوجية الماركسيين الذين يعتقدون أن الإنسان عندما يسفل يبقى انسانا في حين أنه يتحول انسان فاقد لمعاني الإنسانية بلغة ابن خلدون.
وحتى لو سلمنا بأن ماركس صادق في ما يقول فإن قوانينه لو صحت لاستحال وجود أمثال ماركس على الأقل في كلامه على الغاية من الثورة الماركسية: أليس مشكله هو تحرير الإنسان من العامل المادي الذي يفسر به التاريخ؟ فهل معنى ذلك أن قوانين المادية الجدلية ستتوقف عن العمل بمجرد زوال الدولة ومعها الفرق بين العمل ورأس المال فيصبح العمال ارباب العمل على أنفسهم؟
وهل الاقتصاد مؤلف من العمل وخاصة بعد زوال أهمية العمل اليدوي ورأس المال فحسب؟
وكل عربي يفاخر بما يحصل في الصين مما يصفونه بالمعجزات فالمفروض أن يعترفوا بأمرين دالين على الجهل بحياة غالبية الصينيين التي هي دون حياة الحيوانات.
فليس للإنسان حرية ولا كرامة لأن الثقافة الجارية هي ثقافة الاديان الطبيعية التي لا تؤمن بغير الاخلاد إلى الارض ورؤيتهم قد يكون أصدق عبارة عنها ما يجري في كوريا الشمالية:
الأول أن ثروة الصين اتت من تبني القيم الرأسمالية حتى وإن حافظت على النظام الشيوعي في السياسة وجعلت شعبها عبيد لشركت البلاد الرأسمالية.
والثاني وهو الأهم حتى لو افترضنا أنها بعد عشرين سنة سيصبح دخلها القومي الخام مثل أمريكا فإن دخل الفرد سيكون دائما دون ثلث دخل الفرد الأمريكي لأن عدد سكانها ثلاثة اضعاف سكانها.
وعلى كل فتطور الاقتصاد بعد الماركسية صارت أهم عوامله العلم وتطبيقاته التقنية والتعالي على الإخلاد إلى الأرض والقيم الإنسانية التي هي التعاون والتبادل في شروط الحياة العضوية والتفاهم والتواصل في شروط الحياة الروحية.
فلو لم يكن الفن والقيم الجمالية مثلا هما ما يضيف إلى القيمة الاقتصادية الاستعمالية الفرق بينها وبين القيمة التبادلية لكان الاقتصاد لا يتجاوز القيمة الاستعمالية مع حسبان كلفة الوسطاء بين المنتج والمستهلك.
يمكن القول إن كلامه المتخلف على الاقتصاد مبني على رؤى ماركس التي كانت عموميات مقبولة ربما في القرن التاسع عشر. ولو كان ماركس موجودا الآن لغير كل ما كتبه حتى يفسر الفرق بين القيمتين أولا والفرق بينهما وبين ما يتعالى عليهما ويعلل به ثورته أعني الحرية والكرامة والحياة من أجل القيم الإنسانية الارفع من ضرورات المعيشة.
فأولا التاريخ أثبت خطأ كل نظرياته لأن للاقتصاد قوانين أيا كانت الايديولوجيات التي تتعلق بتوظيفها السياسي لتأسيس نظرية الدولة الحاضنة خاصة.
لكن الاقتصاد حتى في هذه الحالة فهو يبقى ذا قوانين قاهرة. لذلك فلا معنى لفكرة الاقتصاد الإسلامي يتجاوز القصد بتقديم القيمتين الروحيتين الأسمى من القيمتين الاقتصاديتين اللتين تعتبران أداتين لهما: فالحرية والكرامة لا يمكن قصدتنهما فتصبحان تابعتين للاستعمال والتبادل لتنافي ذلك مع القيمتين الروحيتين أو ما جمعه ابن خلدون في عبارة “الإنسان رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له” (المقدمة الباب الثاني الفصل 24).
وثانيا لم يبق الاقتصاد علاقة عمال يدويين ورأس تابع لأشخاص طبيعيين من طبقة واحدة بل هو موزع على المشاركين فيه وإدارته ليست بيد أصحاب الأسهم مباشرة بل بقيادات منتخبة ليسوا بالضرورة مالكيه. فأما العمل فقد صار ابداعا فكريا أكثر مما هو عمل يدوي يمكن أن تعوضه الآلة.
وأما رأس المال فقد صار خفي الاسم وعالمي ولم يبق تابعا لطبقة معينة في دولة معينة بل إن السلطان عليه لم يعد لـأصحابه بل للأنظمة المالية التي لها قوانينها الصارمة.
وكل الدول التي جربت الماركسية أفلست كلها لأنها ظنت أن الاقتصاد ليس له قوانين وأنه تابع للإرادة بل بعضهم في غلوه ذهب حتى إلى ظن قوانين البايولوجيا تابعة للإيديولوجيا وظنوا أن كل شيء مكتسب وناتج عن الإرادة السياسية.
لكن الأخطر من ذلك كله هو أن الماركسية تمثل نكوصا إلى العبودية وتأسيس إلى الاستبداد والفساد باسم العدالة الزائفة في الخصاصة وهي في الحقيقة عين النظام الثيوقراطي الذي عوض في الإنسان الرب فصار انثروبوقراطي يتأله فيه الطاغية.
إنه نظام فرعوني الحزب فيه كنيسة والنومونكلاتوريا كهنوت وأمين الحزب العام بابا وكل من يخرج عليه يبدع ويمرق ويفسق ويعتبر محرفا لأن خرافاتهم صارت علما لا يمكن مناقشته أو نقده والدليل الجولاج وسيبيريا وثورة ماو وكل ما حدث من جبال الرؤوس حول الصين وتوابعها.
وكل الفرحين بسقوط الهيمنة الأمريكية لا يفكرون في حل أفضل بل يعتبرون المستقبل للحل الصيني وعودة روسيا. وطبعا فكل هؤلاء لا يخطر ببالهم أنه يمكن ابداع ما هو أفضل من الحل الرأسمالي والحل الشيوعي. والعلة هي أنهم يعتبرون دور الدين لا يكون إلا بالصورة التي بنى عليها الماركسيون رؤيتهم لدوره.
أما أن تبين لهم أن ذلك لا يصدق على الإسلام فإنهم يتغابون فيزعمون أن الاديان كلها متماثلة.
فإذا قلت لهم إن نفي الوساطة في التربية والوصاية في الحكم مبدآن يجعلان رؤيته للسياسة مختلفة تماما عن الثيوقراطيا (الحكم باسم الله) والأنثروبوقراطيا (الحكم باسم الإنسان) وأن هذين خطاء على الحكم باسم بعدي العجل أي ربا الاموال (معدن العجل) وربا الأقوال (خوار العجل) فإنهم لا يفهمون ذلك.
وعندما تبين لهم أن الدين في الإسلام مرجعية قيمية لأخلقة السياسة ومعيارها ليس النصوص بل ما يتعين في الوظائف التي تنسب إلى الجماعة وتكون قوامتها تابعة لها حتى وإن نوبت عنها من يؤديها فرض كفاية تحت رقابتها فرض عين فإنهم لا يفهمون خاصة إذا قلت إن هذه الوظائف كونية ولا تخلو منها جماعة وهي التي وظيفة الدولة قوامة نظامها وحفظه وليست هي التي تقوم بها.
وهذه الوظائف عشرة مع وظيفة حادية عشرة وظيفتها التنسيق بينها من حيث قوامة النظام وتطبيق القانون ومنع ربا الاموال وربا الاقوال اللذين هما الشر المطلق في السياسة وأداتي العبودية في كل جماعة لأن أداة التبادل (العملة) تتحول بالربا إلى أداة سلطة على المتبادلين وأداة التواصل (الكلمة) تتحول بربا الأقوال إلى أداة سلطة على المتواصلين. والوظائف العشرة تنقسم إلى:
خمس للرعاية وهي اثنان لتكوين اجيال الجماعة أي التربية والنظامية والتربية الاجتماعية في تقسيم العمل واثنان لتمونيها أي انتاج التموين الروحي بكل أبعاده علما وقيما وهو الثقافة وانتاج التموين العضوي بكل أبعاده ثمرة للعلم وللعلم وهو الاقتصاد. وأصلها جميعا البحث العلمي وتطبيقاته.
وخمس للحماية وهي اثنان للحماية الداخلية أي القضاء والأمن واثنان للحماية الخارجية أي الدبلوماسية والدفاع والأخيرة هي الاستعلام على حال الامة في الداخل بين أفرادها ومجموعاتها وبينها وبين القوامة وعلى حالها في الخارج بينها وبين الاصدقاء والاعداء وذلك هو شرط العمل السياسي على علم.
أما رئاسة القيمين على نظام هذه الوظائف أو الوزراء هو رئيس الوزراء الذي ينبغي أن يكون القيم على مالية الدولة وعلى اعلامها حتى لا يتحول المال إلى ربا الأموال وحتى لا يتحول القول إلى ربا الأقوال في الجماعة لأن كل الفتن علتها أحد هذين الداءين. وهو الحكم بين الوزارات في توظيف مالية الدولة بنوعي الميزانية ميزانية التسيير وميزانية تمويل الاستثمار.
أما رئيس الدولة فهي وظيفة رمزية تمثل وحدة الجماعة واحترام القيميين لقيمها بنوعيها: قيمها الاقتصادية الاستعمالية والتبادلية وشروط العدل فيها وقيمها المتعالية عليهما أي قيمة الحرية وقيمة الكرامة للمواطن وللوطن.
وهذه المعاني الأربعة أصلها وعي الجماعة بكيانها الواحد في المكان وفي الزمان أو السيادة وشروطها. فالدولة من دون سيادة داخلية للمواطن وخارجية للوطن لا تعتبر دولة بل هي استبداد في الداخل وتبعية في الخارج ماديا وروحيا بالحاجة إلى الرعاية الاجنبية وسياسيا وخلقيا بالحاجة إلى حماية أجنبية.