إلام تعود فاعلية مرجعيات الخيار القيمي؟: فعندما يختار حزب ما مرجعية دينية (حزب إسلامي مثلا) ويختار حزب آخر مرجعية طبيعية (حزب علماني مثلا)، هل الفاعلية تعود إلى المرجعية؟ أم إلى اعتقاد من اختارها بأنها المتعالي الذي تتأسس عليه أفعاله؟ وبلغة منطقية، هل الأمر قضوي أم موقف قضوي؟
وسأنطلق من الموقف القضوي من القضوي: فليست المرجعية في ذاتها هي التي تعلل اختيارها لتأسيس الخيارات القيمية للحزب، بل اعتقاد من اختارها أنها أوثق أساس لقيمه، وهو إذن موقف قضوي. فيكون السؤال عندئذ: ما الذي يجعل صاحب الموقف يعتبر موقفه أولى بالتصديق من موقف الثاني؟
في مثالنا العلماني، سيدعي أن موقفه يستند إلى العلم الطبيعي (حقوق الانسان الطبيعية) ويعتبر موقف الثاني مستندا إلى الخرافة الدينية (واجبات الإنسان الروحية). فيصبح الامر متعلقا بطبيعة المرجعين بعد ردهما إلى دغمائية معرفية: العلماني يدعي الإطلاق لما يسميه علما ويشكك في الدين. وحتى لا نظلم العلماني بكلمة “إطلاق” لأنه يعتبر مزية خياره، متمثلة في قابلية مرجعتيه للتغير، ومن ثم مرونة تشريعاته المناسبة للظروف متحررا بذلك من ثبات التشريعات ذات المرجعية الدينية. وهو يسجل بهذا هدفا يصعب أن يجادل فيه من اعتبر الدين مشرعا مباشرا للنوازل وليس مشرعا للتشريع للنوازل. لكن ذلك الهدف الحقيقي ليس هو كذلك إلا لأن الفقهاء تصوروا المرجعية الدينية قابلة للاستعمال المباشر، ولذلك، فأضعف حجة لهم في جدلهم مع العلماني، هو إشكالية التوفيق بين تاريخية التشريعات ولا تاريخية المرجعية الدينية. وفي الحقيقة، فالفقيه الذي يظن القرآن مشرعا للنوازل وليس للتشريع محجوج.
وقد بينت الظاهرة استحالة تأسيس توسيع التشريع بالقياس، وهي طبعا تتصوره مثل من تنقد تشريعا مباشرا للنوازل وليس تشريعا للتشريع. صحيح أنها وسعت حرية المشرع الوضعي بأن اعتبرت كل ما لم يأت فيه نص يعتبر من المباح الذي يشرع فيه الإنسان ابتداء. لكن ذلك مغالطة كبيرة سنبين طبيعتها. فالمشرع الظاهري الذي يرفض القياس الصريح فإنه يشرع من منطلق ثقافة إسلامية، بمعنى أن المرجعية حاضرة حتما، وهو إذن من حيث لا يعلم يعتبرها تشريعا لتشريعه حتى وإن لم يكن ذلك التشريع لتشريعه صريحا، وهو ما يحاول أصحاب الرؤية المقاصدية صوغه صوغا بينت استحالته لقلبه المعلول علة. فما يفعل عند الظاهري بصورة لا واعية، أعني ثقافته الإسلامية أو تصوراته القيمية، حاول المقاصديون صوغها بصورة قلبت العلاقة بين الحكم وثمرته، فجعلوا الثمرة علة للحكم وسموها مقصدا، لكأن الله عندما يشرع يحتاج إلى علة غير إرادته المشرعة. لم يفهموا أن تشريعه تكليف لخليفته وليس لمجال فعله.
لو كان الله يشرع للنوازل وليس للتشريع عامة، لأصبح الخليفة مجرد مطبق لتشريعات الله ولا يمكن حينها أن يسمى مجتهدا في التشريع بل في تطبيق التشريع. وهذا الفهم القاصر جعلهم يتصورون أن التشريعات المباشرة للنوازل موجودة في القرآن ثم عمموا الامر فتكلموا على أن كل العلوم موجودة فيه. وانطلاقا من هذا الانتقال من المقابلة بين المرجعيتين إلى المقابلة بين طبيعة المرجعيتين لتأسيس الخيار الموقفي بينهما يجعل المقابلة ذات مستويين: الحكم الذي يدعي صاحبه أنه قضوي، أي تحديد طبيعة المرجعية الدينية (خرافة) والمرجعية العلمانية (علم) يؤسس عليه موقف قضوي: المفاضلة بينهما. وهنا ينبغي أولا أن نتكلم في المقابلة المتعلقة بطبيعة المرجعيتين: هل صاحب التشريع الوضعي الذي يحل مشكل تاريخية التشريع يستند حقا إلى الطبيعة الإنسانية للتشريع كما يزعم صاحبه؟ وهل صاحب التشريع الديني الذي يعجز عن حل مشكل تاريخية التشريع يستند حقا إلى الطبيعة الإلهية للتشريع؟
لو كان العلماني صادقا وكان تشريعه يستند إلى ما يشرع في الإنسان، لاكتشف أنه الإرادة والقدرة وأن العقل مجرد أداة لتحقيق إرادة الأقدر أو الاقوى في العلاقات البشرية. وحينها ينبغي ألا يتكلم عن حقوق الإنسان وواجباته، بل على علاقات القوة بين البشر وهو القانون الطبيعي الوحيد المقبول عقلا. والقضية ليست جديدة. فمنذ المقابلة بين كاليكلاس وسقراط صيغت بصورة تجعل المقابلة بين القانون الطبيعي والقانون الخلقي أساس الإشكال في السياسة عامة وفي التشريع خاصة. وحتى يكون الإشكال أوضح: كيف يمكن لماركس أن يوفق بين المادية التاريخية ومطالب الثورة الاجتماعية التي هي بالأساس خلقية؟ فمطلب الحرية والمساواة والحياة السعيدة للجميع لا يمكن أن يكون مطلبا طبيعيا لأنه متناف أولا مع المعطيات الطبيعية للإنسان كفرد، وللجماعات كمجموعات تتحدد منازلها بما لها من قوة وعلامات القوة وأدواتها، ومن ثم فهي كلها من طبيعة مغايرة للموجود أصلها منشود غير طبيعي في التاريخ الفعلي. وهذا هو “الخرافي” أو “اليتوبي” إذا استعملنا ما يترتب على اعتبار التاريخ الإنساني خاضعا للضرورة الطبيعية التي هي دائما علاقات قوى لا معنى فيها للقيم الخلقية أو لما يتناقض مع “الواقع” أو “الامر الواقع” في مجرى الأحداث والوقائع الطبيعية سواء بين البشر أو بينهم وبين الطبيعة. فيكون العلماني قد وقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه الديني: كلاهما تصور المرجعية هي التي تشرع مباشرة. فلا الطبيعة تشرع مباشرة للنوازل ولا الله يشرع مباشرة للنوازل. كلاهما غفل على أن مرجعيته تشرع لتشريعه من حيث هو إنسان، أو كلاهما غفل على أن مرجعيته لم تشرع للتشريع لا للنوازل. ذلك أن حجة تاريخية التشريع ليست الوحيدة التي تعارض التشريع الثابت للنوازل، بل توجد حجة ثانية أعمق وأقوى وهي لا تناهي النوازل كيفيا وكميا وبالتساوق والتوالي وليس بالتغير التاريخي لنفس النوازل فحسب. وبمنظور قرآني، فالله استخلف آدم وحدد له شروط الخلافة فعلا وانفعالا في عالم ذي نظام.
وكان ينبغي للعلماني أن يفهم أن وضعه غير مختلف: فعليه أن يدرك أن الطبيعة، وهي مرجعيته، لا تشرع مباشرة، بل أعطته شروط التشريع الذي هو من مهامه يخطئ فيه ويصيب ككل نظر وعمل إنسانيين. فلا يمكن للطبيعة أن تكون المشرع الاول للنوازل أو الله المشرع الأول لها: كلاهما مكلف للإنسان بالتشريع. فيتبين هنا أن الديني أكثر تناسقا مع نفسه من العلماني: فالديني عندما يعتبر نفسه مكلفا من كائن حر بالتشريع بوصفه كائنا حرا، وهو معنى خليفة مكلف وليس مطبقا لتشريع مفروض عليه، وإلا لفقد معنى التكليف والمسؤولية، يكون متناسقا أكثر من العلماني عندما يعتبر نفسه مكلفا بالتشريع من كائن مضطر.
لا يمكن أن أدعي أن المادية التاريخية تقول بالضرورة الطبيعية ثم تعتبر الإنسان شاذا عن الضرورة الطبيعية فيكون مكلفا بالتشريع، بل عليه تطبيق قوانين الطبيعة. وقوانين الطبيعة تجعل التشريع إرادة الأقوياء والأغنياء ولا معنى للاحتجاج ضد ذلك: كيف نمر من الموجود إلى المنشود بمرجعية طبيعية؟ وعندما نعين مجال الكلام في المسألة فإن الدين هنا هو الإسلام. وتقابله علمانية التوابع من كاريكاتور التحديث الذين لا يفهمون مثل هذه اللطائف والعلمانية والماركسية والليبرالية جعلتهم أكثر جمودا ودغمائية من شيوخ القرون الوسطى وهم إلا ما ندر عبيد العسكر والقبائل في الثورة المضادة.
فمزية الإسلام هي أنه لا يعتبر الديني مقابلا للطبيعي، بل هو يعتبر أساس القيم فطريا أي من طبيعة الإنسان. ومعنى ذلك أن ما يسمى حقوق الإنسان هي واجبات البشر في ما بينهم، وفي ما بينهم وبين ومرجعية تشريع التشريع التي هي أصل يترتب عليه فرعان: الله والعالم الطبيعي والعالم التاريخي. فالمسلم بخلاف ما عرفه هيجل في كلامه على علاقة المسيحي بالطبيعة، لا يعتبر القيم الخلقية والروحية مضادة للطبيعة بل هو يعتبرها نابعة من نفس المعين ومتأسسة على نفس المدد: الطبيعة ذات نظام فيه ما يجعل الإنسان يحافظ على كيانه العضوي وكيانه الروحي دون تضاد بينهما.
ولذلك لن تجد في الإسلام كلاما على خطيئة موروثة أو اعتبار الجنس مرذولا، وذلك النصيب من الدنيا مرذولين بهما حلالا زلالا، والقيم هي ما به يكون سلوك الإنسان في معاملاته محققا لحرية الإرادة وصدق العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود. وهذه هي غايات التشريع الاجتهادي للإنسان.
وإذن فلتشريع التشريع مستويان: 1. عام وكوني، وهو ما جهز به الإنسان ليكون قادرا على التشريع بالاجتهاد الذي يخضع لمعايير الاستخلاف أي حرية الإرادة وصدق العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود، مع تحديدات خاصة لوظيفة القاضي (الحكم) والأمير (الحاكم) والمكون (المربي). والثاني: 2. تاريخي، وهو عمل الإنسان بهذه القيم الكونية التي تتعلق بالإنسان من حيث هو إنسان أو بالوظائف التي تحقق تلك القيم في القضاء والحكم والتربية والنظر والعمل. وهي إذن تشريعات لأفعال الإنسان التي تقضي وتحكم وتربي وتنظر وتعمل. وهي في ذلك كله مشرعة ومطبقة بالاجتهاد للقيم.