أعلم أن الكثير يكاد يجرم الكلام على الدولة الإسلامية حتى لو كان القائل بها ممن يريدونها كامنوالث إسلامي يعيد للمسلمين منزلتهم في غابة العمالقة التي فرضتها العولمة : فحصرهم الفكرة في الدواعش قصده تشويه كل محاولات المسلمين لتجاوز شروط التبعية والتحرر من عوائق التقدم نحو ما يمكن من تحقيق الحرية والكرامة والمواطنة المتساوية داخليا والندية خارجيا.
وأعلم كذلك أن هؤلاء مع ذلك معجبون بالوحدة الأوروبية التي هي في الحقيقة صيغة محدثة للإمبراطورية اللاتينية المسيحية بدليل استثناء تركيا وجمهوريات البلقان الإسلامية أو وضع شروط مجحفة لاستتباعهم خاصة وهم في وضع دستور الوحدة الأوروبية قد اشترطوا مفهوم الحضارة اليهودية المسيحية (جيسكار داستان).
والغريب أنهم يحالفون الدولة الثيوقراطية الوحيدة في تاريخ الفكر السياسي الإسلامي أعني دولة التشيع وولاية الفقيه. وهدفي من هذه المحاولة هو تمكين شباب الإسلام بجنسيهم من أن يكونوا فخورين بمفهوم الدولة الإسلامية نظريا وعمليا وألا يخجلوا من الدفاع عن ضرورة تحقيق ما يجسد الوحدة الروحية للأمة بصورة حديثة تكون نسبته إلى ماضي المسلمين نسبة الوحدة الأوروبية إلى ماضي الأوروبيين.
لن اعتمد في تحقيق هذا الهدف النصوص الدينية (القرآن والسنة) ولا الفتاوى الفقهية بل سأقتصر على الفلسفة السياسية الصارمة من منطلق أحد الرموز الدالة عليها والتاريخ المثبت لها والتنظير المدرك لحقيقتها من أكبر فيلسوفين عرفهما تاريخ الأمة بل وتاريخ البشرية في المجال : الغزالي وابن خلدون.
المنطلق الرمزي : المدينة المنورة
اخترت هذا الاسم الرمزي “المدينة المنورة” منطلقا للكلام في مسألة طالما لاكها الكثير من أدعياء الخبرة والاختصاص في نقد الفكر الإسلامي عامة ونظرية الدولة الإسلامية خاصة نقدا حصيلته التي هي عين حكمهم المسبق أعني نفي وجود شيء اسمه الدولة الإسلامية فضلا عن نظريتها في الماضي ومن السخرية من كل من يحلم بتحقيقها في المستقبل اي شرط عودة المسلمين للتاريخ واستئناف دورهم الكوني بوصفهم أحد عمالقة التاريخ الإنساني وشرط استعادة البشرية لتوازنها الروحي والمادي.
ولست أنوي الكلام في إثبات وجود الدولة الإسلامية في الأعيان ماضيا وحيويتها في الأذهان حاضرا إذ سبق أن بينت سخف نفاتهما فضلا عن جهلهم بمفهوم الدولة ما هو وناهيك عن مفهومه الإسلامي وما يمكن أن يقدمه للبشرية التي فقدت الشعور بالأخوة أساس فلسفة السياسة القرآنية والسنية. ما أنوي الكلام فيه هو طبيعة الدولة في النظرية الإسلامية وما يترتب عليها من خصائص لنظام الحكم لمناسب لها خصائص سنرى أنها قطعت مع التصور الفلسفي القديم وما تزال فاضلة على التصور الفلسفي الحديث. وسأكتفي بأكبر منظرين إسلاميين تجاوزت قيمة أعمالهما الفلسفية المحلية والإقليمية إلى المنزلة الدولية قصدت الغزالي بداية وابن خلدون غاية.
لكن قبل ذلك لا بد من شرح قرار الرسول الخاتم تغيير اسم “يثرب” وإطلاق اسم “المدينة” عليها ووصف المسلمين لها بـ”المنورة » (وهي جامعة بين اسم المفعول واسم الفاعل : فالقرآن ينورها وهي تنور المواطن بقيمه). فهذان رمزان يستحقان وقفة تحدد معناهما الرمزي في ثورة النقد الروحي والخلقي التي يمثلها الإسلام في تاريخي الإنسانية : تاريخها الروحي (نقد التحريف) وتاريخها الخلقي (متمم مكارم الأخلاق) إذ يجمع بينهما جوهر السياسي متعينا في مفهوم الدولة التي هي في مفهومها القرآني تحقيق القيم في التاريخ الفعلي بفضل علوية قوة القانون على قانون القوة.
ولنبدأ بدلالة الاسم الذي كان للمدينة. فيثرب من الثرب والتثريب أي يفيد إما غشاء الشحم في الأمعاء أو اللوم في المعاملات أو ثرائب نور الشمس الممزق عند الغروب بمعنى التمزق أو ثرائب العطاء بمعنى قلته أي البخل. وبين أن هذه المعاني المتعلقة بقاذورات الأمعاء (إذ يخرط النسوة الأمعاء لتخليصها من هذا الشحم ليصبح صالحة للاستعمال في المأكولات وفي تصبير اللحكم) والتلاوم بين البشر وتمزقهم وبخلهم تمثل جل الرذائل التي جاء الإسلام لتخليص عرب الجاهلية منها بداية والبشرية غاية. لذلك فتعويضها تعويضها بالاسم الجديد يعني بالقصد الأول أمرين :
1-التفطن إلى وجود هذه العيوب واعتبار اسم يثرب صورة ملخصة لها من حيث الدلالة الرمزية على ما يجب تغييره في انتظام الجماعة العربية نواة للجماعة الإسلامية التي يمثل بناؤها نموذجا للأخوة البشرية (النساء 1).
2-التفطن إلى أن علة هذه العيوب هي عدم وجود الدولة التي يدين فيها الإنسان إلى القانون أعني دلالة هذا الاسم الجديد الذي يخلص الجماعة من العيوب التي يلخصها مدلول يثرب ومن ثم فالبديل هو المدينة.
والمدينة اسم مفعول مؤنث من “دان” بمعنى خضع. والخضوع هنا ليس عبودية لقوة أو شخص بل هو طاعة للقانون المحرر من هذه العيوب التي جمعها اسم يثرب جمع الصورة التامة عن الوضع الذي كانت عليه جاهلية العرب وجاهلية أي جماعة بشرية لم تنتظم في دولة قانون. والمعلوم أن الدينونة يمكن أن تكون للقوة أو لسلطان قاهر فلا تفيد عندئذ هذا التحرير الذي جاء به الإسلام. وحتى يبين المسلمون أنهم مدركون للمعنى العميق لهذه التسمية وصفوا المدينة بكونها منورة قاصدين أن ما يدين له المؤمن ليس قانون القوة (الجاهلية) بل قوة القانون (الإسلام) : إذ القرآن ينورها وهي تنور به المواطنين الذين اجتمعوا فيها تحت سلطان القرآن الكريم المؤسس للتعدد الديني شرطا للتسابق في الخيرات والتنافس في تحقيقها (المائدة 48).
إن الخضوع لدولة القانون دينونة للنور دينونة تنير الوجود الجمعي فتجعل الحياة الجمعية بحق استعمارا للإنسان في الأرض بقيم الاستخلاف عليها. وبذلك نفهم لم كان موقف القرآن من البداوة والأعراب شديدا. ولما كانت المدينة في مدلولها الفلسفي هي الدولة فإن العلاقة بين هذه المعاني جميعا تصبح بينة لكل ذي بصيرة. لكن هذا التحليل لرمزية تغيير اسم يثرب يكون مجرد تأويل لا يسنده دليل إذا لم نثبت أمرين يحددان للتأويل الرمزي دلالة ومرجعية فعلية في مستوى التاريخ وفي مستوى النظرية :
1-فلا بد من أن يوجد في تاريخ الدولة الإسلامية ما يؤيد هذا الفهم لرمزية تغيير اسم يثرب ليفيد الدينونة للقانون المستعمر للإنسان في الأرض بقيم الاستخلاف أي قيم العدل والحرية والمساواة بين البشر والأخوة البشرية المؤمنة بالتعدد الديني والوحدة السياسية التي تمكن من التسابق في الخيرات والتنافس في تحقيقها.
2-ولا بد أن يطابق ما فهمه كبار فلاسفتنا من مفهوم الدولة بوصفها شخصية معنوية أو اعتبارية وبمفهوم الحكم بوصفه تعينا حيا لوظائف هذا الشخص الاعتباري ليكون مؤسسات تحقق تلك الوظائف التي تعتبر الدولة نظامها وتناسق فعلها بتوسط من اختارتهم الأمة ليكووا قيمين عليها ما أطاعوا الله أي ما خضعوا هم بدورهم للقانون.
الدليل التاريخي
لا أحد يمكنه أن ينكر أن مشكل نظام الحكم لم يوضع الوضع الواعي إلا في لحظة وفاة الرسول وأنه متأخر عن تأسيس الدولة التي وجدت في الأعيان داخليا (لوجود سلطة تشريع منسوبة إلى الله وتنفيذ منسوبة إلى النبي وقضاء منسوبة إلى من عينهم النبي في هذه المهمة وكلفهم بالتحكيم في ضوء الشريعة بمرجعيتيها والرأي عند الحاجة) وخارجيا (لوجود المراسلات الدبلوماسية والحروب) دون أن تكون موضع خلاف حول من يملأ وظائفها من القيمين عليها. لكن وفاة الرسول أدت إلى وضع المسألة : من يخلف الرسول؟ وفيم؟ ووضع المسألة بهذين المعنيين المتقابلين هو الذي يساعد على فهم الحل التاريخي الذي انتهى إليها المسلمون والذي كان منطلق الفتنة الكبرى.
فالمعنيان متقابلان : ذلك أن اعتبار مسألة الحكم بعد وفاة الرسول خلافة له يتناقض مع مع سؤال فيم. فلايمكن أن تكون الخلافة خلافة للرسول إذا لم يكن بالوسع خلافته في ما يخصه بوصفه رسولا أعني مواصلة التشريع مبلغا للتشريع الإلهي (القرآن) أو مكلفا بفهمه واستكمال شروط تعيينه (السنة). وهو ما يعني أن الخلافة لن تكون إلا في البعد السياسي من الدور الذي كان يؤديه الرسول الخاتم ومن ثم فهي لا يمكن أن تكون اصطفاء إلهيا مثل الوحي بل هي لا بد أن تكون من اختيار الأمة. ولما كان هذا الاختيار متعلقا بعلاج المسألة من منطلق الدولة الإسلامية وضرورة ملء وظائفها بقيمين عليها يحافظون على وحدته فإن الموقف الذي غلبت عليه تقاليد الجاهلية والنكوص إلى ما دون الدولة في شبه عودة للقبليةالموقف الذي أعلن أصحابه بأن الاختيار يتمثل في “أمير منا (الأنصار) وأمير منكم (المهاجرون) » لم يصمد أمام الحسم الذي أقدم عليه كبار الصحابة وخاصة الصديق والفاروق.
وقد تبعهما غالبية المسملين وهم من يسمون اليوم بالسنة بسبب انفصال أقلية من المسلمين سموا بالشيعة لأنها فهمت عكس ذلك تماما فجعلت الخلافة حقا إلهيا أوصى به النبي واعتبرته جزءا لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية مدعية عصمة الإمام علي وذريته ما يعني ضمنا أن كل وظائف النبي متصلة فيهم حتى وإن لم يصرحوا بذلك على الأقل في البداية لأن الصحابة كانوا أدرى الناس بأن النبي لم يوص بأحد.
والمهم بالنسبة إلينا هو أمران : الأول أن الدولة موجودة وأن الخلاف لم يكن حول الدولة بما هي شخص اعتباري بل كان يدور حول كيفية تعيين القيمين على الوظائف التي تؤديها مؤسسات هذا الشخص الاعتباري في تنظيم حياة الجماعة السياسية بعد أن تم الدين وختمت الرسالة : وبلغة صريحة فالأمر يتعلق بطبيعة نظام الحكم هل هو حق إلهي لآل البيت أم هو اختيار حر للجماعة المسلمة. والحرب الأهلية أو الفتنة الكبرىي بدأت في إطار الخيار السني العام -لأن عليا لم يحكم بالوصية بل بالبيعة-ولم تكن الحرب بينه وبين معاوية حول المقابلة وصية اختيار بل بين موقفن من أول انقلاب دموي وقع في تاريخ الدولة الإسلامية : قتل الخليفة عثمان. لكنها بعد مقتل علي تحولت بالتدريج إلى المقابلة بين الوصية والاختيار وعلاقة ذلك بالعقيدة.
وتلك هي بداية العلاج النظري لطبيعة النظام السياسي عندما تحدد بمعيار كيفية تعيين القيمين على الدولة أي الخليفة أو الإمام وطبيعة علاقة الحكم بالعقيدة : إذن مسألتان تجيب عنهما النظرية الإسلامية السنية في الحكم كما عرضها فيلسوفان كبيران هما ابن خلدون والغزالي. ينطلق من المقابلة بين الحل السني والحل الشيعي لمسألة الحكم هل هو حق إلهي وجزء من العقيدة أم هم اختيار ولا علاقة له بالعقيدة بل هو إجراء اجتهادي للعناية بالصالح العام.
الدليل المفهومي
لن نطيل الكلام في المسألة لأن نصوص الفيلسوفين واضحة وضوح الشمس في القيلولة. سنكتفي بإيراد النصوص والتعليق الوجيز للتنبيه إلى مناط القضية المطروحة لا غير تعليقا تبرز دلالته من خلال العنوان الذي نختاره للنص. والمعلوم أننا قد أشبعنا هذه النصوص شرحا في غير موضع. ويمكن لمن يهتم بتعميق البحث أن يعود إليها. ولعل أهم مرجع سابق هو الجلي في التفسير الذي يحمل عنوان : استراتيجية القرآن التوحيدية (للبشرية) ومنطق السياسة المحمدية (للأمة نموذجا لوحدة الإنسانية).
نصان لابن خلدون حول العلاقة بين الدين والحكم :
النص الأول : « وألْحَق (الأشعري) بذلك الكلام في الإمامة لما ظهر حينئذ من بدعة الإمامية في قولهم إنها من عقائد الإيمان وإنها يجب على النبي تعيينها والخروج عن العهدة فيها لمن هي له وكذلك على الأمة. وقصارى أمر الإمامة أنها قضية مصلحية إجماعية ولا تلحق بالعقائد. »1
النص الثاني : « وشبهة الإمامية في ذلك إنما هي كون الأمامة من أركان الدين كما يزعمون. وليس كذلك وإنما هي من المصالح العامة المفوضة إلى نظر الخلق. ولو كانت من أركان الدين لكان شأنها شأن الصلاة. ولكان يستخلف فيها كما استخلف أبا بكر في الصلاة ولكان يشتهر كما اشتهر أمر الصلاة. واحتجاج الصحابة على خلافة أبي بكر بقياسها على الصلاة في قولهم ارتضاة رسول الله صلعم لدينيا أفلا نرضاه لدنيانا دليل على أن الوصية لم تقع »2.
» ويدل ذلك أيضا على أن أمر الإمامة والعهد بها لم يكن مهما كما هو اليوم وان العصبية المراعاة في الاجتماع والافتراق في مجاري العاداة لم يكن يومئذ بذلك الأعتبار لأن أمر الدين والإسلام كان كله بخوارق العادة من تأليف القلوب واستماتة الناس دونه وذلك من أجل الأحوال التي كانوا يشاهدونها في حضور الملائكة لنصرهم وتردد خير السماء بينهم وتجدد خطاب الله في كل حادثة تتلى عليهم. فلم يتج إلى مراعاة العصبية لما شمل الناس من صبغة الانقياد والأذعان وما يستفزهم من تتابع المعجزات الخارقة والأحوال الإلهية الواقعة والملائكة المترددة التي وجموا منها ودهشوا من تتابعها فكان أمر الخلافة والملك والعهد والعصبية وسائر هذه الأنواع مندرجا في ذلك القبيل كما وقع. فلما انحصر ذلك المدد بذهاب تلك المعجزات ثم بفناء القرون الذين شاهدوها فاتحالت تلك الصبغة قليلا قليلا وذهبت الخوارق وصار الحكم للعادة كما كان. فاعتبر أمر العصبية ومجاري العوائد فيما ينشأ عنها من المصالح والمفاسد وأصبح الملك والخلافة والعهد بهما مهما من المهمات الأكيدة كما زعموا ولم يكن ذلك من قبل” 3.
المسألة الثانية : كيفية اختيار الحاكم
نص الغزالي لتحديد العلاقة بين الحكم وأصل الشرعية خلال مناقشته لنظرية الباطنية في الحكم (من كتابه فضائح الباطنية):
« فإن قيل بم تنكرون على من يقول : لا مأخذ للإمامة إلا النص أو الاختيار. فإذا بطل الاختيار ثبت النص (حجة الباطني)؟ قلنا (حجة ا لسني) : نعم لا مأخذ للإمامة إلا النص أو الاختيار. ونحن نقول مهما بطل النص ثبت الاختيار. وقولهم إن الاختيار باطل لأنه :
لا يمكن 1-اعتبار كافة الخلق
2-ولا (يمكن) الاكتفاء بواحد
3-ولا (يمكن) التحكم بتقدير عدد معين بين الواحد والكل.
فهذا جهل بمذهبنا الذي نختاره ونقيم البرهان على صحته. والذي نختاره أنه يكتفى بشخص واحد يعقد البيعة للإمام مهما كان ذلك الواحد مطاعا ذا شوكة لا تطال ومهما كان مال إلى جانب مال بسببه الجماهير ولا يخالفه إلا من لا يتكرث بمخالفته. فالشخص الواحد المتبوع المطاع الموصوف بهذه الصفة إذا بايع كفى إذ في موافقته موافقة الجماهير. فإن لم يحصل هذا الغرض إلا لشخصين أو ثلاثة فلا بد من اتفاقهم. وليس المقصود أعيان المبايعين وإنما الغرض قيام شوكة للإمام بالاتباع والأشياع. وذلك يحصل لكل مستول مطاع.
ونحن نقول : لما بايع عمر أبا بكر-رضي الله عنهما-انعقدت الإمامة له بمجرد بيعته. ولكن لتتابع الأيدي إلى البيعة بسبب مبادرته. ولو لم يبايعه غير عمر وبقي كافة الخلق مخالفين أو انقسموا انقساما متكافئا لا يتميز فيه غالب عن مغلوب لما انعقدت الإمامة. فإن شرط ابتداء الانعقاد قيام الشوكة وانصراف القلوب إلى المشايعة ومطابقة البواطن والظواهر على المبايعة فإن المقصود الذي طلبنا له الإمام جمع شتات الآراء في مصطدم تعارض الأهواء.
ولا تتفق الإرادات المتناقضة والشهوات المتباينة المتنافرة على متابعة رأي واحد إلا إذا ظهرت شوكته وعظمت تجدته وترسخت في النفوس رهبته ومهابته. ومدار جميع ذلك على الشوكة ولا تقوم الشوكة إلا بموافقة الأكثرين من معتبري كل زمان”4.
لا يحتاج نص الغزالي هذا إلى تعليق طويل تكفي ملاحظتان :
الملاحظة الأولى :
تتمثل في فهم الغزالي لشرطي الحكم الذي يمكن أن يحقق للدولة الملء المطابق لشروط تحقيق وظائفها حماية ورعاية مشروطتين برضا الجماعة التي ينتظم بها وجوده بما هو تعاون لسد الحاجات الأولية وتآنس لتحقيق الغايات الأساسية للوجود الإنساني. فالحكم الذي يملأ مؤسسات الدولة قيما عليها لا بد فيه من الاتصاف بصفتين : مادية هي الشوكة ورمزية هي المهابة. والعلة في ذلك هي أن الجماعات متعددة الـأهواء والأراء ولا بد لها من سلطة تتصف بالشرعية القوية أو بالقوة الشرعية.
الملاحظة الثانية :
واضح أن الخلايا الثلاث في اختيار الحاكم يعتبرها الغزالي ضرورية جميعا أي إن أي نظام سياسي لا بد فيها من هذه الخلايا وليس كما تصورت الفلسفة القديمة في تصنيفها للأنظمة السياسية بمعيار عدد من بيده والسلطة وأخلاقه فتكون ستة أنظمة أي أن هذه الثلاثة يمكن أن تكون للأفاضل أو للاراذل : الملكية والارستوقراطية والجمهورية للأفاضل والاستبدادية والاليغارشية والديموقراطية للأراذل. أما الغزالي فيأخذها الثلاثة ويعتبرها مشروطة في كل نظام : فلا بد من واحد ومعه غيره ثم رضا الأغلبية وقد ضرب مثال بيعة الفاروق للصديق وتوالي البيعة من الصحابة الحاضرين ورضا الجماعة بذلك وحصول الرضا الجماعي أو الحصول على الأغلبية التي من دون لا يمكن للحكم أن يستقر. وهذا هو التعريف الدقيق للديموقراطية الحديثة وخاصة إذا كانت رئاسية. لكن نافي هذه الثلاثة (الشيعي) ينتهي إلى ضرورة الوصية والنص واعتبار الحكم حقا إليها للموصى به لهم : وتلك هي النظرية الإمامية التي يعتبرها ابن خلدون بدعة.
خاتمة ثورية في الفلسفة السياسية
ابن خلدون ومبدأ عدم التأثيم للتعددية السياسية
يمكن اعتبار مبدأ “عدم ا لتأثيم” الذي وضعه ابن خلدون انطلاقا من مفهوم الاجتهاد في المسائل العملية عامة أي في ما ينتسب إلى السياسة والشريعة وليس إلى قطيعات الإيمان والعقيدة تأسيسا فلسفيا ودينيا في آن لأهم مبادئ التعددية السياسية. ولهذا المبدأ الفضل في تحريرنا من أهم عقدتين مرضيتين تعاني منهما حضارتنا :
1-قضية الفتنة الكبرى الأولى التي ما تزال حية أعني الخلاف السني الشيعي
2-وقضية الفتنة الكبرى الثانية التي تجددت أعني الخلاف الإسلامي العلماني.
فهو مبدأ يحرر العمل السياسي من مبدأ عدم التناقض ومن القراءة الدينية في تقويم الاجتهاد السياسي بمعايير تحرم التعددية: « والأمر الثالث شأن الحروب الواقعة في الإسلام بين الصحابة والتابعين. فاعلم أن اختلافهم إنما يقع في الأمور الدينية وينشأ عن الاجتهاد في الأدلة الصحيحة والمدارك المعتبرة. والمجتهدون إذا اختلفوا :
1-فإن قلنا إن الحق في المسائل الاجتهادية واحد من الطرفين ومن لم يصادفه فهو مخطي فإن جهته لا تتعين بإجماع. فيبقى الكل على احتمال الإصابة ولا يتعين المخطئ منها. والتأثيم مدفوع عن الكل إجماعا.
2-وإن قلنا إن الكل على حق وإن كل مجتهد مصيب فأحرى بنفي الخطأ والتأثيم. وغاية الخلاف الذي بين الصحابة والتابعين أنه خلاف اجتهادي في مسائل دينية ظنية وهذا حكمه”5.
ليس بعد هذا الكلام الخلدوني من قول يمكن التفوه به لبيان القصد من التسامح السياسي الناتج عن الإيمان بالتعددية الضرورية للعمل السياسي. فهذا ابن خلدون يبين بصورة لا لبس فيها أن قوانين المنطق الثنائي لا تصح في السياسية لأن المقابلة بين الحق والباطل تتعلق بالحقائق في ذاتها ولا تتعلق باجتهادات البشر في سعيهم إلى تحقيق ما يمكنهم إدراكه منهما بقصد حسن دون محاكمة النوايا التي لا يدركها إلا علام الغيوب.