ه
عقيل الخطيب
تختلف المقاربة الدينية عن المقاربة الفلسفية للعلاقة النظر/العمل فإذا كان التراث الفلسفي يعالج هذه العلاقة كما بينا سابقا ضمن إطار أوسع هو المشكل حول كيفية الملاءمة بين العقلي واللاعقلي لو استعملنا اللغة الفلسفية القديمة او باصطلاح الفلسفة الحديثة الحرية /الضرورة (الطبيعة/الاخلاق) فإن إطار المعالجة الدينية أعمق واشمل همها كيفية الملائمة بين الارادة الالاهية /الارادة الإنسانية.
لقد نجحت الفلسفة المعاصرة مع المثالية الالمانية تحديدا في تجاوز هذه المقابلة من خلال توحيدها بين المنطلقين الديني والفلسفي.
إن المثالية المعاصرة بدأت بنصين اساسيين تجاوزت فيهما التقابل بين الفكرين وبالتالي وحدت اشكالية العلاقة النظر/العمل وهذين النصين لمن اراد مزيد تسليط الضوء على المسألة هما كتاب “هيجل” فينومينولوجيا الروح وكتاب “شيلنغ ” جوهر الحرية الإنسانية.
ولنا عودة مع كتاب وحدة الفكرين الديني والفلسفي ففيهما تسليط للضوء على المثالية الألمانية.
لكن ما يلاحضه الدكتور أن هذا التلاقي للمنطلقين تقدم عليه تدرج طويل في الفكر الديني حتى تم أخيرا تحديد قضيتين هما:
• قضية افعال العباد وكيفية التوفيق بين الحريتين أعنى حرية الالاه/حرية الانسان.
• مشكل المنزلة الوجودية التي للقيم الخلقية والمدى الوجودي لفعل العقل النظري اي ما يعرف في علم الكلام عندنا مسالة التحسين والتقبيح.
هذين الوجهين المعرفيين داخل الفكر الديني يتبعان مبدأ تاريخ الفلسفة.
• مسالة السياسة والشريعة وكيفية التوفيق بين التشريعات الفقهية ومسائل الضمير الخلقي
• لننتهي بمشكل المنزلة الوجودية لطبيعة النظام السياسي والمدى الوجودي لعمل العقل العملي ويمكن تعيين هذه المسألة ضمن ما يعرف في حضارتنا بالأمر بالمعروف والنهي على المنكر حيث تمت ترجمته من حالة فردية وشخصية الى وضعية مؤسسية هي الحسبة.
هذين الوجهين العمليين مرجع النظر فيهما مبدـ فلسفة التاريخ.
وهكذا ضمن رحلة التجربة في سياق تاريخ الفلسفة /فلسفة التاريخ يتبين لنا ثراء هذا المسار.
يشير الدكتور إلى أن الفلاسفة عندما قابلوا بين الطبائع/الشرائع أو بين الضرورة /الحرية هم في زعمهم أو هكذا اعتقدوا وظنوا، أنه مقابلة متعالية على أثرها في علم الانسان وعمله (فهو منفعل بها معرفيا وعمليا) وبالتالي متجاوزة لهما والنقد الديني هو الذي جعل الفلاسفة يستدركون كيف ذلك؟
ان الصيغة التي آلت اليها اشكالية النظر/العمل عند الفلاسفة وهي صيغة التقابل هذا ناتج عن تقابل قطعي عندهم بين علم الطبيعة وعملها وعلم الشريعة وعملها وهذا التقابل مصدره الشعور بأثر الطبيعة والشريعة علما وعملا فالمقابلة إذا بين النظر/العمل هي مقابلة بين موضوعيين مفارقين مفارقة مستقلة عن العلم في الجهتين علم النظر وعلم العمل كموقفين شعوريين.
لذا لادراك المسالة في عمقها وبعيدا عن القراءات المتسرعة لابد من التمييز بين مرحلة النظر الغير النقدي ومرحلة النظر النقدي وهذه هي البنت الشرعية لأثر الدين.
في حضارتنا وتجربتنا يمكن تمثيل المرحلة النقدية بكونها من نتائج المدرسة الاشعرية خاصة في نقدها الحرية الخلقية وهذا ضد المدرسة الاعتزالية (نظرية الكسب ضد القدرية “بمعنى الحرية”) ولكن النقد لم يكتفي بالجانب العملي، وإنما طال الضرورة الطبيعية من خلال نفي السببية (بما يشبه القول بالاحتمال) فهذا الجدل الكلامي بين المدارس الدينية ألقى بضلاله على التقاليد الفلسفية وكان من نتائج ذلك (نفي الحرية/نفي الضرورة) من نتائجه نقل المسالة من الطرح الما بعد طبيعي (الميتافيزيقي) الى الطرح ما بعد تاريخي فتم قلب العلاقة بين النظر/العمل الطبيعة نفسها صارت ذات تاريخ ومن ثم العمل الذي كان يعتبر تابعا للنظر عند الفلاسفة لأن منزلته الانطولوجية هي دون موضوع النظر إطلاقا صار بعد النقد متقدما على النظر. لقد أصبح العمل متعلقا بالمطلقات العقدية والنظر مقصورا على المعرفة الذريعية خدمة لتلك المطلقات (هذه وان لم تكن واصحة الا عند كانط في اخلاقه في العصر الحديث لكن بدايتها عندنا في حضارتنا).
ان هذه القطيعة لجهة تقديم العمل على النظر بفضل الفكر المنتسب للدين جعلت البحث /المسألة تصبح محاولة لتحديد سلم تعييري/تأويلي يرتب أمرين في النظر/العمل هما وجهي قفا الكثافة الوجودية/الدلالة الخلقية فالمقابلة بين القول المنتسب الى النظر والفعل المنتسب الى العمل تجعل الفعل أكثر دلالة من القول (بما هو في النفس) والعقد الخلقي الواعي في النفس (النية) الذي لا يترجم في الواقع اما عن طريق المخالفة او تكاسلا تجعل هذا العقد الواعي أكثر كثافة وجودية من الفعل الخارجي (ضعف الارادة أو فسادها) ومن ثم يدل النفاق /التقية (الاول وجه سلبي اظهار عكس ما يبطن والثاني وجه ايجابي بمعنى الحذر الحسابي) على المقابلة بين ما في النفس من عقد وما في الواقع من أفعال وهذه المشكلة انما تندرج في دلالة اعمق هي المقابلة بين العقد الخلقي (وهو لا معلوم الا للمعني بالأمر فالسرائر لا يعلمها الا الله) والممارسة الظاهرة اي بين الايمان(الباطن) والأفعال أو عدم الايمان (الظاهر) هذا المشكل البشري (فرديا كان أو جماعيا) هو مشكل ينقلنا من سطحية المسالة بما هي مفارقة فضائل الخلق وفضائل العقل الى مشكل المسافة الفاصلة بين القول والفعل وهذا يحيلنا الى اكتشاف بعد جديد في المعرفة النفسية/الوجودية لم يكن يدر بخلد المفكرين والفلاسفة أعني اكتشاف أعماق النفس اللا واعية أو ما يسمى في لغة دعاة الحاثة العقل الباطن وليس مصادفة أن يهتم الفلاسفة المتأثرون بالدين خاصة بأحوال النفس اكثر من غيرهم (ابن حزم والغزالي عندنا، وسبينوزا ونيتشه لدى الغرب ).
إن الاضافة الثورية التي ينسبها الدكتور الى الفكر الديني وتحديدا إلى الكلام الاسلامي مكنت من تجاوز أطروحة التوفيق بين الدين والفلسفة بالرد المتبادل بينهما (هذا هو الشغل الشاغل الذي هيمن على الفكر المدرسي الوسيط وهو يمكن اختزاله في موقفين الاول صادق يؤكد مقولة الحقيقة المزدوجة وله انصاره في العرب/اللاتين والثاني مخاتل ينفي عن الدين كل حقيقة ويعتبره تعبير عامي عن مثالات الحقيقة التي هي خالصة للفلاسفة وحتى لا يقع الصدام يقوم بالتاويل المغرق في الرمزية لتحقيق التوفيق ) أو بالصلح المغشوش بينهما من خلال الفصل المتواصل بين العلم /العقد(النظر/العمل) (وهذا هو مميز الحل الكانطي الذي جعل النقد عبارة عن وظيفة بوليسية هنا نقد بالمعنى السلبي) او بالدمج الممجوج بنظرية الروح التي ينحصر متعاليها في اوهام اما بانتصار الخيال الطبقي ( هذا هو مميز الفكر الهيجلي والماركسي فالتعبير الديني في كليهما لم يتجاوز التعبير الرمزي عن الفشل السياسي او عن قوة الروح/التاريخ والتي ستنتهي ضرورة بمجرد المرور الى الفعل) ) او الجدل بين النظر/العمل وهذا الجدل الحي ذو مستويين هما القفا ووجهه الدنيا /الآخرة هذا هو الحل الاسلامي يتمكن فيه الخليفة من حفظ عقد الخلافة لرعاية الكون الذي هو ذو منزلة يسميه القرآن الآية.
بهذا التحول الاساسي تمت النقلة من الحقبة الحديثة الى المعاصرة فالثورة التي حدثت في الفكر الديني انتقلت الى الفكر الفلسفي الحديث بفضل محاولات تجاوز المثالية الألمانية، لهذا يحق للدكتور ان يعتبر أن عملية فهم واستيعاب القول الفلسفي قديمه ووسطه وحديثه ومعاصره يمر حتما من خلال استيعاب وفهم العلاقة بين النظر/العمل وهذا الفهم مكن الدكتور من الوصول الى جعل العلاج التاريخي لهذه العلاقة ذو ابعاد خمسة:
اثنان يميزان التحديد الذي ساد في الماضي
واثنان آخران يتوقع لهما ان يسودا في المستقبل
ويوحد بينهما بعد الراهن كزمن حيث صار فيه العمل الممكن والنظر الفعلي جوهر الوحدة في الحضارة الحالية خاصة في تعينها اي العولمة لان العولمة ليست الا التطابق بين فعلي العقل النظري /والعقل العملي فالمسافة الفاصلة بين النظر/العمل تكاد تنمحي لقد تحول عمل الانسان وارتقى حتى كاد يطابق علمه وأصبح ما في مستطاع النوع في مستطاع الفرد وبات مفهوم المسؤولية والرعاية العامة مفهوما غير نظري بل متحقق على نحو ماهو واقعي عقلي وما هو عقلي واقعي.
يرى دكتورنا ان عصري الفكر الفلسفي الاوليين كانت المعادلة من جهة النسبة هي النظر/الفلسفة = العمل/الدين ولأن الطبيعة تنسب الى الفلسفة، فإنه بالمقابل تنسب الشريعة الى الدين ولأن في الطرفين ثمة خطاب حول الطبيعة والشريعة فإن نسبة الشريعة الى الفلسفة هي عين نسبة الطبيعة الى الدين ولذا عمارة البناية قدت على اساس التقابل الفكري بين الفلسفة والدين بما هما تجربتين روحيتين متقابلين غاية أحدهما بداية الثاني وغاية الثاني بداية الأول نتج عن هذا التقابل الموقف من اشكالية النظر/العمل لكن هذا البناء لم يستمر على ذات الشاكلة اذ تم استبداله بنقلة لا تغيب عن كل بصيرة ناقدة اذ تم الاتجاه نحو عصرين جديدين (وكل هذا بفضل العبقرية الغزالية) تبنى فيهما الفكر الفلسفي مضمون الفكر الديني وتبنى فيهما الفكر الديني شكل الفكر الفلسفي، وبالتالي أصبح منذئذ الأول أعني النظر يحدد الشكل والعمل يحدد المضمون بلغة يعربية واثقة يقدم الاطروحة التالية انتهى تقديم الطبائع على الشرائع في الفكر الفلسفي لكونها صارت جميعا شرائع وان بدرجتين مختلفتين فزال التقابل بين ضربي الفكر.
لكن مع ملاحظة هنا وهي ان مفهوم الشرائع الديني صار اقرب الى مفهوم الطبائع الفلسفي بالمعنى الدارج في العصر القديم والوسيط فهو يقابل مفهوم الشرائع الوضعي ( لان هذه الشرائع من ابتكار فكر غير شخصي فلقد زال مفهوم المشرع الشخصي/واضع السنن واصبح التشريع ناتج عن لعبة كم في الديمقراطية الذي ينبني داخله على توازن السلط والتشريعية احدها هي التي تصوغ القوانين لا بحسب موازين العقل بل بحسب موازين القوى ).
يذكرنا الدكتور بان الفلسفة القديمة والوسيطة كانت تعتبر جميع الشرائع وضعية/غير طبيعية والفرق الوحيد وهو هام ان بعض الشرائع يكون صادرا عن العلم النظري بالطبائع وهي الملل المستندة الى الفلسفة الحقيقية وبعضها صادر عن الخيال والوهم وهي الملل المستندة الى الفلسفة الغير حقيقية كما يبينها الفارابي وهذه نجدها بوضوح اتم عند افلاطون فالفن الذي يحاكي الطبيعة غير الفن التام الذي تحاكيه الطبيعة ولهذا السبب اطرد افلاطون الشعراء من مدينته الفاضلة (والانبياء من جنس الشعراء حسب راي الفلاسفة).
ان مشكل العلاقة النظر/العمل في راهن الحضارة اليوم هو نفسه مشكل العولمة التي هي المولود الشرعي والطبيعي للفشل الذريع لعملية الاصلاح الديني والفلسفي الحديثين وتجاهل المتعمد والغير مبرر للثورة القرآنية التي انتجت فلسفة عربية/اسلامية فالمحاكاة الفاشلة دليل فشلها هذا المنتوج الخطير المسمى العولمة لقد نتج عن عملية الاصلاح الغربي وهو يحاكي الاصلاح الاسلامي خيارين كليهما يمثل مأزقا.
- المحاكات الفاشلة للإصلاح الديني الاسلامي والتي حاولها الاصلاح البروتستانتي انتهت الى غاية توراتية محدثة او ما يمكن تسميته بالربوبية المادية الجديدة وليس ابو يعرب في حاجة للبرهنة على هذا المآل البروتستانتي اذ سبق لماكس فيبير ان عالج هذا في كتابه الاخلاق البروتستانية وروح الرأسمالية فلقد بين ان الاصلاح انتهى الى تاسيس الراسمالية من خلال قلب العلاقة بين القيم الاخروية والقيم الدنيوية حيث صارت الادوات غايات (ما سيسميه الدكتور لاحقا في كتاباته تاليه العجل او سلطان التصور الربوي للاقتصاد).
- المحاكات الفاشلة للإصلاح الفلسفي الإسلامي الاصلاح الكنطي والذي انتهت غايته الى المثالية الالمانية او الربوبيةالروحية الجديدة فهذه الربوبية تعينت كحصيلة لنظرية ارواح الشعوب والتي اكتملت في الروح الاخيرة التي يتطابق فيها الروح المطلق مع العلم المطلق اي وحدة النظر/العمل ككيانين مطلقين وبالتالي القول بنهاية التاريخ فالعولمة بوجهها الايديولوجي والطاغوتي الصريح فشلت كنسخة ماركسية واما وجهها الطاغوتي الضمني وهو الراسمالية الجديدة فهو ما تعاني منه البشرية والكون قاطبة وخاصة العرب والمسلمون ولقد كان هيجل واعيا بالمقابلة بين العالم الجرماني والعالم الاسلامي في جزءه الاخيلر من فلسفة التاريخ ولكن ما لم يكن يتصوره هو ان مصير الكون يحدده المسلمون لاحقا
ان هذه الاشكالية العويصة أعنى النظر/العمل لها كما طرحها الدكتور بعدين:
• بعد تاريخي خاص بدور هذه العلاقة في تحرير الارادة الانسانية
• بعد فلسفي خاص بدور هذه العلاقة في تحليل معمار العقل الانساني
وكلا البعدين بعد تحليلهما يقتضي ان نبحث عن مدخل بديل للعلاقة بين النظر/العمل يكون غايته تحديد جديد لمبدأ تاريخ الفلسفة (يستمد من تحليل البنية العميقة لافعال العقل) وفلسفة تاريخ جديدة (تستمد من تحليل البنية العميقة لمقومات العمران).
بهذا المطلب يعيد الدكتور النظر في هذه الاشكالية العويصةبما هي اشكالية انسانية راهنة ولكنه يعالجها من خلال ارادة استئناف العمل الذي بدأه بن تيمية على مستوى النظر وبن خلدون على مستوى العمل.
انتهت المقالة الثانية بفصليها وتليها المقالة الثالثة.