المدخل التاريخي – أهم المحطات لعلاقة النظر بالعمل – الفصل الأول: تحديد العلاقة بين النظر/العمل من منطلق الفكر الفلسفي – عقيل الخطيب

ه

الفصل الأول:تحديد العلاقة بين النظر/العمل من منطلق الفكر الفلسفي

عقيل الخطيب

 تتكون هذه المقالة من فصلين:
• الاول يتم خلاله تحديد العلاقة النظر/العمل من منطلق الفكر الفلسفي
• والثاني تحديد نفس العلاقة من منطلق الفكر الديني يمهد الدكتور للمسالة بنقد يوجهه الى التقاليد التي لازالت مهيمنة في محاولتها التأريخ للتاريخ الفلسفي في الفكر العربي/الإسلامي، وهي محاولات تهمل التحولات التي مكنت هذا الفكر من تجاوز الثنائية المضاعفة التي شقت وتشق الصيغة التقليدية للعلاقة بين النظر/العمل اي بين علوم الطبيعة/علوم الشريعة.
فالقراءة الاولى تقتصر على اجترار السطحيات لتأريخ خارجي يكون فيه الفكر العربي مجرد تراكم لمتردم التأثيرات المتوالية وكأنه من جنس المزابل التي تتكدس فيها قمامات الأمم السابقة، فهو عديم التاريخ الذاتي.
وقد تطعم هذه القراءة بطلاء تحديثي في شبه ردود سطحية على مسخرة تلبيسات الاستشراقيين ذات الأصل الواحد هو فلسفة تاريخ العقل المقصور على الغرب حصرا.
ويمثل الدكتور لهذه القراءة بسرديات “عبد الرحمان بدوي” لهذا التاريخ وما يزعمه “محمد عابد الجابري” من قراءة نقدية للسردية السابقة وبديلا لها.
وواضح أن المشترك فيهما هو تبني فكرة روح الشعب الهيجلية في صيغتها المنحطة كما تبناها المستشرق الفرنسي “رنان” لكن بنكهة وجودية لدى “بدوي” ونكهة وضعية لدى “الجابري”.
اما القراءة الثانية فهي لا تتعدى التأثر الجد سطحي بهذا الأصل مع إعادة صياغته ضمن آخر صيحات الموضات الفكرية التي تحدث لدى الأمم الحية كالتأثر بالوضعية الجديدة، وهنا الإشارة الى “زكي نجيب محمود” (مع انه يفتقد العلم بالطبيعة) والتأثر بالفلسفة التحليلية ( مع افتقاد علم المنطق واللسان) وهذا الصنف على قلّته موجود بجامعاتنا، إلا أن الأكثرية هي المتأثرة بالماركسية (دون اقتصاد واجتماع)، وهنا الإشارة واضحة لليسار اللبناني والسوري ممثلا في “الطيب تيزيني” وآخر تقليعات القراءات تلك المتبنية الهيدجرية (دون فقه لغة ودين).
بعد هذا التمهيد النقدي يطرح الدكتور بديله من خلال إشكالية العلاقة بين النظر/العمل لكن كما تعينا في التقاليد الفلسفية السابقة ثم يستبدل في فصل آخر بديله حيث يعيد صياغة تاريخ العقل من منطلق ما يعتقده تحولا خطيرا حصل في المرجعية العربية/الاسلامية بحيث يمكن اعتبارها لحظة أولى ممتازة من تاريخ العقل الانساني يمكن منها فهم ما سبق وما لحق.

الفصل الأول بعنوان: تحديد العلاقة بين النظر/العمل من منطلق الفكر الفلسفي

إن الفكر الفلسفي وتحديدا مع الرمزين “أفلاطون/أرسطو” يميز بين النظر/العمل انطلاقا من معيارين مترابطين:
• معيار معرفي للبحث في خصائص العلم
• معيار وجودي للبحث في خصائص الموضوع
فالنظر يعين أنه علم الكلي/الضروري في الموضوع الطبيعي آداته العقل النظري.
والعمل يعين انه علم الجزئي/الاختياري في الموضوع الخلقي اداته العقل العملي (وهذا الموضوع الخلقي هو مفهوم دارج في لغة الفلسفة القديمة والوسيطة وعوض في الفلسفة الحديثة بمفهوم أوسع هو العلوم الانسانية).
إذا سادت مقابلة بين النظر/العمل أو بين العقل النظري/العقل العملي أو بين مجالي الضرورة/الاختيار. هذه المقابلات سادت طيلة العصرين القديم والوسيط وكل واحد منهما له حقبتين (اليوناني/الهلنستي) و(العربي/اللاتيني) ولم يتم تجاوز هذه المقابلة إلا من خلال “بن خلدون” في الحقبة العربية و”هوبس” و”سبينوزا” في الغرب الكلاسيكي.
فالفيلسوف العربي بن خلدون أنجز ثورته من خلال تدشينه بداية العلم بالتاريخ نسجا على منوال العلوم الطبيعية وسمى هذه القارة الجديدة، أعنى العلوم الإنسانية، علم العمران البشري، أما “هوبز” فواضح من قراءته للسياسة على منوال الفيزياء. وبالنسبة “لسبينوزا” فهو عالج الأخلاق بمنهجية رياضية.
يسجل الدكتور إذا أن أول محاولة فلسفية جادة للقطع مع المقابلات الزائفة والتي هيمنت على الفلاسفة منذ العصر الاغريقي والعربي بين النظر/العمل إنما تمت بنجاح على يد “بن خلدون” ودليله على ذلك أمران:

  1. أثناء تصنيفه للعلوم في المقدمة لم يذكر العلوم العملية وهذا الغياب ليس لعلة النسيان أو التغافل وإنما لرفصه منزلتها المعرفية المسندة لها من قبل التقليد الفلسفي فهو لا يعترف بعلميتها.
  2. أنكر بوضوح وبإصرار ان ما يسميه الفلاسفة علم السياسة المدني ليس علما وعوضه بعلم جديد ابتكره هو علم العمران البشري والاجتماع الإنساني.
    إذا التقاليد الفلسفية تمايز بين النظر/العمل استنادا الى المقابلة بين عالمين:
    • عالم الطبائع وهذه منطقها منطق الضرورة/الحتمية،
    • وعالم الشرائع وهذه منطقها منطق الحرية/الاختيار.
    ومن هذين المجالين تتفرع وتتعدد المعارف والعلوم، وكانت تسمى فلسفة، لذا نفهم علة هذه القسمة الثلاثية الأبعاد للعلوم والتي هيمنت على المدونة المعرفية الانسانية منذ اليونان:
  3. العلوم النظرية وهي تدرس الظاهرات الطبيعية وتتكون من أقانيم ثلاثة هي :
    • علم الطبيعة كل علوم العالم المادي بنوعيه الجامد والحي
    • علوم الرياضية بفرعيها علم العدد والهندسة
    • علم ما بعد الطبيعة أي الميتافيزيقا
  4. العلوم العملية وتدرس الظاهرات الخلقية وبدورها تنقسم الى ثلاث أقانيم:
    • علم الاقتصاد المنزلي
    • علم الأخلاق
    • علم السياسة
    وأضاف شراح أرسطو وتلامذته ضربا ثالثا من العلوم يجمع خاصيات كلا الطرفين مع غلبة أحدهما ونحتوا لها اسما:
  5. العلوم الإنتاجية، وهذه تتفرع بحسب خصائصها:
    • صناعية تتعلق بالتقنيات والحيل وفيها يتم استعمال علوم النظر والطبيعة للإنتاج الصناعي اي التقنية
    • جمالية وخلالها تستعمل علوم العمل والشريعة للانتاج الادبي والفني
    هذه هي المجالات الثلاث التي أصبحت تقليدا في المدارس الفلسفية متوارثة منذ الاغريق الى بدايات العصر الحديث، ولكن لا يفوت الدكتور أن يلاحظ غياب علم المنطق بكتبه الثمانية والتي يعرفها طالب العلم.
    في الحقيقة موقف أرسطو نفسه ملتبس: هل علم المنطق علم قائم بذاته ومستقل؟ أم أنه مدخل للعلوم؟
    ولأن هذا الموضوع لا يعنينا في مشكلنا إلا عرضا، ينتهي بنا إلى أن التقاليد الفلسفية تقيم مقابلة بين النظر/العمل وذلك طيلة مرحلتيها القديمة (اليونانية/الهلنستية) والوسيطة (العربية/اللاتينية) بمعنيين للمقابلة.
    المعنى الأول هو مقابلة الوجه الصناعي بالوجه الخلقي ضمن العمل الذي يختلف عن النظر بطبيعة الموضوع، ولتدقيق أكثر، الوجه الخلقي فيه العمل غاية ذاته أما الوجه الصناعي فالعمل فيه أداة لغيره.
    المعنى الثاني يستند إلى طبيعة الموضوع وخصائصه الوجودية، فالثابت فيه وهو الضروري يعنى به علم النظر، أما المتغير، وهو الاختياري، فيعنى به علم العمل.
    إن أرسطو كان يجمع في الحقيقة بين أساسي التمييز لتحديد مفهوم العمل أعني خاصية الموضوع وهدف الفعل.
    بهذه القسمة الاعتبارية الارسطية يلتبس مفهوم العمل:
    • فهو من جهة اولى ضرب من المعرفة (غير المعرفة النظرية)
    • ومن جهة ثانية ضرب من الوجود يقابل الطبيعة (اي علوم النظر)
    وهو أيضا في هذا المستوى غير النظر وجمع العمل لهذين الوجهين يضفي عليه منزلة خاصة، فهو جوهر الوجود الانساني وجود ناظر ومنظور من خلاله يتحقق وعيا انه في نفس الوقت عمل العلم وعلم العمل مع وعي علم العمل بحدود عمل العلم ورغم ان الانسان مجبول في طبيعته على تجاوز هذه الحدود في مسيرة لا تتوقف، إنه ما يسميه دكتورنا الاشرئباب المشروعي بما هو مفهوم الشهود أي الحضور المدرك لذاته في تحيزه الزماني/المكاني وفي سعيه المتواصل للتعالي عليهما.
    هذا الوضع الملتبس للنظر/العمل به يعلل الدكتور أصل المقابلة الابستيملوجية بين علوم الطبيعة وعلوم الانسان والمقابلة الوجودية بين الطبيعة والتاريخ والمقابلة الاكسيولوجية الجامعة بين المقابلتين اي الحقيقة/القيمة.
    يعتقد الدكتور ان الفكر الفلسفي لم يتمكن من تجاوز صيغة الاشكالية التقليدية للعلاقة بين النظر/العمل إلا بفضل تأثير الفكر الفلسفي المستند الى الدين بمعنى استبداله الميتافزيقا /المابعد تاريخ بمقاربة الدين فالفكر الديني ورؤيته المابعد تاريخ كان أكثر تعقيدا وأبعد غورا من المعالجة الفلسفية سواء بميتافزيقاها أو بما بعد تاريخها فما هو معلوم وواضح وبين أن مدار الفكر الديني ليس الطبيعة لكونها موضوع منفعل يؤثر في الذات العاملة سلبا بالصد والمنع، بل كان التاريخ الذي يمكن ان يكون موضوعا فاعلا لصلته بعمل الذات الفاعلة ايجابا لذا كان التقابل بين الرؤيتين الفلسفية والدينية في الفكر القديم والوسيط وهو من جنس المقابلة اليوم بين ابستيمولوجية علوم الطبيعة واستيملوجية علوم الانسان ولذا لو لا الرؤية الدينية ما كان لهذه القارة الجديدة ان تكون اي علوم الانسان.
    وللمنظور الديني علتان لتحقيق هذه الثورة وهو ما يغيب عن المفكرين:
    • العلة الاولى هي العلاقة بين العمل والنظر
    • العلة الثانية هي العلاقة بين النظر والشعر
    ويجمع بين العلتين النظر الى أفعال العقل من علاقتها بالذات الفاعلة وليس فقط من حيث علاقتها بالموضوع المنفعل وكأننا في المعالجات كأن المنهج الغالب على الباحث هو المنهج المنطقي (وهو يلاحظ علاقة فعل النظري بأحوال الموضوع) بينما في المنهج الصوفي او الطريقة كما يلذ لأصحابها التسمية (طريقة تلاحظ علاقة فعل العقل النظري باحوال الذات منفصلين ومتنافيين) الى ان حدث الجمع بين المنهجين الفلسفي والديني فيما بات يعرف تحت مسمى تجربة الروح او العقل (فينومينولوجيا العقل).
    والعبرة أو الخلاصة الهامة التي ينتهي اليها الدكتور هي ان النظر ليس كما اعتاد الفلاسفة تصوره وفهمه انه مشاهدة مجردة تختلف عن العمل الذي يرونه مشاركة في الامر لا في مشاهدة لها بل انه اي النظر ذو ضرب من التأثير لا يقل فاعلية وشانا عن العمل. كيف ذلك؟
    ان النظر فيه يتم انتخاب المقومات التي يصفها بانها عناصر المعقول بفعل التجريد (وكل عملية تجريد يتم فيها استثناء بعض العناصر بعملية مفاضلة معيارية بين عناصر الموجود حيث تعقل الامر من خلال التمييز بين ما هو جوهري مقوم وما هو عرضي يمكن تجاوزه وهذا التمييز يعطي موقفا معرفيا للذات ويكون الاختيار بحسب سلم تقويمي هو ينتمي لنسق حضارة الذات العارفة ) ليكون النظر (وهو مجرد) وقبل تطبيقاته التقنية أقصى درجات العمل تدخلا تقويميا في الوجود بحسب أغراض الذات العارفة وهذا يمكن أن نسميه عمل النظر وفيه ومن خلاله يتبين العلاقة الوطيدة بين الوجودي/القيمي في كلا الفعلين النظر/العمل ويزول بالتالي التفرقة الساذجة بين المعرفة النظرية والمعرفة العملية وبين ماهو طبيعي /ضروري وماهو خلقي /اختياري.

انتهى الفصل الاول ويليه الفصل الثاني

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي