ه
عقيل الخطيب
واضح اننا في هذه المقالة وتتعلق بالبدائل من جهة التاريخ لهذه العلاقة بين النظر/العمل أننا ازاء مفهومين هما:
• المقولة/الآية الاولى تحيل للأفق المنطقي بمعنى المعارف النظرية
• والثانية أعنى الآية فهي تحيل الى القرآن بما هو آية الآيات أي أننا في افق المعرفة العملية
هذا الفصل هو من أهم ما جاء في الحوارية وهو أعقدها وسنسعى للإتيان على اهم تفاصيلها دون الاخلال بجوهر الفكرة.
يسعى الدكتور للتحرر من التقليد البغاوي السائد في الفكر العربي الراهن وبالتالي يريد فقه الدور الذي ادته المرجعية الفكرية العربية للكشف عن الخيط الناظم لعقد تاريخ الفكر الإنساني، وبالتالي يريد دمج التجربة العربية/الاسلامية في الحضارة الإنسانية، لكن هنا لابد من الاشارة إلى أن المرجعية العربية/الاسلامية لم تعد كافية اذا اخذت بمعزل عن ربطها بالسابق واللاحق لفهم ما يجري في حياتنا، وذلك لان تأويلاتها انقطع سندها في عصور الانحطاط، وهو ما يسميه الدكتور بالكسر الذي يحول دون الحاضر والصلة الحية به من بعديه ماضيا ومستقبلا، فالدكتور يرى فلسفة في الزمن الحضاري يمكن ايجازها في أن الحاضر الحي له بعدين في الماضي (الاحداث السابقة والمعاني اللاحقة) وبعدين في المستقبل (المعاني السابقة والاحداث اللاحقة) وهذا يعني ان جهد هذا الفصل ينصب حول جعل المرجعية الفكرية العربية/الاسلامية قابلة لأن تكون منظارا يمكن من خلاله فهم الاشكاليات الفلسفية الحية كما هي في جدل الفكر الحي بين المشاركين في الجماعة المبدعة، وهي لا يكون ابداعها إلا كونيا، وكل ما عدى هذا ليس إلا انطواءً أو هذيانا أو هروبا وهو ما يؤدي الى عدم فهم الحاضر.
كل من تضلع في دراسة تطور الفكر الانساني عامة، والفلسفي خاصة، يدرك أن تحليل واقع الحاضر هو المحدد لحدث المستقبل من خلال تأويل معنى الماضي. كيف ذلك؟
يأخذ الدكتور مثالا وهو ان النهضة العربية الثانية التي أرادت الاستئناف في الربع الاخير من القرن التاسع عشر/الربع الاول من القرن العشرين كانت مصدر التجديد الفكري الغربي بصفة عامة والالماني منه على وجه الخصوص، وهذا التجديد معظمه يدور حول قراءة فلسفة افلاطون/ارسطو في ضوء الكنطية والمثالية الالمانية بعد ثورة العلم والعمل الحديثين حيث إعادة اكتشاف أفلاطون وفلسفته الرياضية والطبيعية (مدرسة ماربور) واكتشاف ارسطو في فلسفته السياسية والاجتماعية بل حتى الوجودية (رسالة برانتو حول تعدد معاني الوجود).
لذلك يحدد الدكتور منزلة الفكر العربي في الفكر الانساني من خلال دلالته فيه متخذا من منطلق استئناف الفكر أي كان منبته حول اشكالية علاقة النظر /العمل في صلتهما البسيطة (الفلسفة/الدين) ثم بتوسط ما بعد الفلسفة النظرية المجردة (الرياضيات/المنطق) والمطبقة (علم الطبيعة).
هذا المابعد الفلسفي هو المعروف بالميتافزيقا بما هي أساس العلم النظري وبتوسط ثان لما بعد الفلسفة العملية مجردة ومطبقة (السياسة/التاريخ) هذا المابعد الفلسفي العملي هو الذي يسميه دكتورنا الميتاتاريخ وهو جوهر الفكر الديني.
يفهمنا هذا التحديد أن إعادة قراءة افلاطون /ارسطو وهي كانت مرحلة قصوى في تطور الفكر العربي/الاسلامي وخير دليل ابن رشد (ارسطو) والسهروردي (أفلاطون) هذا الحد الاقصى في قراءتهما على ضوء المجال التداولي العربي/الاسلامي هو الذي انتهى بنا الى النقد الجذري للفلسفتين ابن تيمية في نقده للميتافزيقا الأرسطية وللمنطق وابن خلدون في نقده للميتاتاريخ الأفلاطوني.
هذين النقدين كانا جذريين ولذلك العين لا تخطئ دور كلا الفيلسوفين في النهضة العربية الثانية:
• فابن تيمية اتخذه التيار الاصلاني مرجعية
• وبن خلدون تبناه التيار الحداثي
ولا يزالان مصدر كل محاولات الاستئناف ومدار التزاحم بين قطبي الحل في اشكالية النظر/العمل.
يخلص الدكتور الى أهمية الوساطة العربية/الاسلامية لا في كونها حافضت على التراث الانساني الفلسفي وسلمت الأمانة لمن تحمل القيادة الحضارية بعده ولكن مزيتها انها كتجربة وحدت بين العلاج الديني والفلسفي بالصورتين الممكنتين اي من الدين الى الفلسفة فلسفيا ودينيا (الرازي/ابن عربي) ومن الفلسفة إلى الدين دينيا وفلسفيا (السهروردي/ابن رشد) فهي تجربة اكتمل فيها وصالا ايجابيا في تطور نظرية المعرفة/الوجود ووصالا سلبيا نقديا في تطور نظرية القيم الخلقية والجمالية.
للتحقق من هذا التصور، يعتقد الدكتور انه لا بد من شرح سريع لنظريتين حددتا معاني القول الفلسفي في مرحلتيه الرئيسيتين، وهما مرحلتان لا يمكن جبرهما إلا بتوسط الفكر العربي/الاسلامي وهذه الوساطة متفرعة بشكليها كما تم اثبات ذلك، فهما توسطان حددا معاني ما تقدم عليهما، وبالتالي ما تلاهما فيكون هذا التحديد هو أساس الكل لنوضح هذه القراءة:
- نظرية الآية (= دليل المرموز عاملا أو ناظرا): هذه النظرية تأسس عليها الدين القديم والوسيط والدين الحديث والمعاصر أي في ما يمكنه اجماله في البعد الفقهي (الالواح الموسوية) والبعد الصوفي (التجارب العيسوية) والجمع الجدلي بين البعدين في الاسلام خاصة في الفعل الديني/السياسي لدى محمد (صلى الله عليه وسلم).
- نظرية المقولة (= صورة المعقول موجودا او معلوما): التي تأسست عليها الفلسفة القديمة والوسيطة والفلسفة الحديثة والمعاصرة أي ما يمكن اجماله في البعد الوجودي (المقولات الارسطية) والبعد المعرفي (النقد الكانطي) والجمع الجدلي بينهما في الهيجلية.
- لكن الفلسفة الحديثة اعترفت الآن بان مضمونها لم يعد مقصورا على نظام المقولات بل تأثر بنظام الآيات من حيث أن الفلسفة لم يعد يعنيها فقط صلب الوجود المدلول في المقول حصرا، وانما اتسع مجاله ليشمل صلب الوجود الدال عامة، وبالتالي غدت التجربة الدينية اهم مقومات التجربة الفلسفية فلكان التفلسف تدين والتدين تفلسف بقطع النظر عن المضامين (الفلسفة الوجودية والفينومنولوجية والفنية قصا وادبا وخاصة شعرا) وبنفس التأثر تجد الدين ورجاله ومنتسبيه غدت لديهم التجارب الفلسفية اهم مقومات العيش الديني والسياحة نحو المطلق.
لدينا الآن خيطان ناظمان:
• الاول هو نظرية المقولة
• والثاني نظرية الآية فلنفصل في كليهما
الخيط الناظم الاول او نظرية المقولة
المقولات هي أحد عناوين ارسطو الشهيرة، وهو عنوان لا يمكن ان ينفصل عن الميتافزيقا العلم السيد لديه، وقد نجح أرسطو سريعا في صياغة نظرية المقولة، إذ أنه تلقف محاولات أستاذه أفلاطون التي حاول أن ينجح فيها لكنه أدرك أن أنظمة المقولات الكثيرة التي جربها من “البارمنيدس” الى “السفسطائي” الى “الفيلابس” الى “الطيماوس” وكلها عناوين لمؤلفات نسجها أفلاطون وأدرك بيأس أن كل محاولة لحصر الوجود في أنظمة المقولات تكون قاصرة.
المهم ان أرسطو تلقف هذا السعي وتخلص من نظرية المثل الافلاطونية ونسج ميتافزيقاه بمقولاتها المنطقية العشرة وهي المتعاليات الثلاثة (الواحد والخير والوجود) وما بعد المقولات الخمسة:
• التقابل
• الاضداد
• الزمان تقدما وتأخرا وتساوقا
• الحركة
• الإضافة
هذه المقولات ستصبح أهم مقومات الفكر الميتافزيقي الذي يؤسس نظرية المعرفة من مدخل الصفات العامة للموجود الذي يقاس به المعلوم، فالحقيقة هي مطابقة المعلوم للموجود وتتحقق المطابقة بمجرد توفر الشروط المنهجية المنطقية كما بسطها أرسطو في كتابه التحليلات الأوائل (ومعها كتاب العبارة) وكتاب التحليلات الأواخر (ومعها كتاب المقولات) هذا في مستوى البناء الذي تسبقه عمليات سلبية بمعنى التخلص من الجدل السلبي والايجابي من خلال كتابي التبكيتات والمواضع ولا يفوت الدكتور هنا أن يلاحظ أن الفكر القديم والوسيط لم يحدد كيفية اخضاع العمل للمقولة الوجودية التي يستند إليها الفكر النظري فهو من جهة يعتبر العمل شرائع وليس طبائع فالأول اختياري والثاني ضروري.
إذا كيف يمكن أن تنطبق مقولات المنطق على ما لا يتوفر من شروطها هي التي تنطبق على عالم الضرورة اي الطبائع؟
هل كل علم هو طبيعيات؟
هذه الاشكالية نفسها توضع بصورة احراجية أمام نظرية المقولة المعرفية فلم يعد مفهوما اخضاع عالم الشرائع الى عالم الطبائع انه تحدي واجه الفكر القديم وهذا ما ينسب امكانية صلاحية المقولات المنطقية لعالم الحرية او الشرائع.
لكن الفكر الديني شكك في نظرية العلم /المطابقة أي مطابقة المعلوم للموجود وشكك أكثر بالتالي في مطابقة المعلوم النظري للمعلوم العملي.
لقد بنى مواقفه على نظرية تعتبر المعرفة الانسانية عاجزة عن الايفاء بشروط التاكد من المطابقة بين المعلوم والموجود فاستنبت رجاله مفاهيم تشكيكية مثل مفهوم طور ما وراء العقل الذي وضعه الامام الغزالي وهو مفهوم وان كان تهديميا، الا أنه أقر مع ذلك بالمعرفة بنور قذفه الله في القلب، فالعقل ضل لديه شاغلا وليس شاغرا، وما اراد تأكيده هو وضع حدود للعقل أي عجز المقولات عن الإحاطة بالوجود، هذا المفهوم لطور ماوراء العقل سيكون أكثر وضوحا لدى ابن خلدون اذ صاغه نسقيا وأتم الصياغة كانط المسافة بين الوجود والعقل او الفينومان (الظاهر) والنومان (الشيء في ذاته) وهذه هي الدلالة الايجابية للنقد اذا نتج عن هذا التحول الناقل من غلبة الصياغة الدينية الكلامية إلى غلبة الصياغة الدينية الصوفية ونتج عن تزاحمهما كصياغتين هو هيمنة نظرية الحلولية في المسيح دينيا وفي الانسان الكامل فلسفيا /صوفيا.
الذي حدث في الحداثة الديكارتية ومن خلال مفهوم الضمانة الالاهية هي أنه سلم، أي ديكارت، بالتخلي عن المدخل الوجودي وبالتالي ضرورة الفصل بين الموجود في ذاته الذي لا يعلمه الا الله والمعلوم الانساني وأصبح المدخل المعرفي والضمانة الالاهية تضمن ما ينتهي إليه العقل، فالتخلي في الفلسفة عن نظرية الحقيقة/المطابقة هو تخلي عن المنظورية الأنطلوجية وتعويضها بالمنظورية الابستملوجية وهو ما عجل بظهور النقد الكانطي، حيث يقاس الموجود الاضافي الى الانسان بالمعلوم بدلا من العكس (ما يسمى بالانقلاب الكوبرنيكي جعل الذات مركز المعرفة) ولكن تواجه النقد الكانطي قضيتان لا حل لهما:
- قضية التمييز بين الموضوع والذات المتناسبين والموجود المجهول ذاتيا
- قضية المشترك بين الذوات او شرط التواصل بينها بقياس الآخر على الذات
نخلص من خلال مسيرة هذا الجدل بين الفكرين الديني والفلسفي إلى أن النقلة من المدخل الأول الوجودي الى المدخل الثاني المعرفي قد استند الى النقد الديني من حيث هو فكر كلامي بداية وانتهت الى الجمع التأسيسي والمضموني والفصل المنهجي والشكلي بين الموقفين الفلسفي والديني عند ديكارت، ومن ثم الجمع السلبي بينهما بنفس المعنى عند كانط ولكن بتمييز دقيق:
• حيث أصبح للموقف الفلسفي مجال النظر (وخلاله يكون الموقف الديني موجودا بالسلب لأن ما نفكر فيه من الباطنيات أو النومان لا نستطيع علمه ومعرفته)
• وللموقف الديني مجال العمل (وفيه وخلاله يكون الموقف الفلسفي موجودا لكن بالسلب لكون الظاهرات المعلومة لا تتضمن حقيقة فعلية قيمية)
وكانت محاولة كانط هي آخر المحاولات الجادة لبناء معالم الحل لكن كما حصل في تجربتنا العربية/الاسلامية انتكس النقد وتراجع ونفس الأمر انطلاقا من كانط تم التوحيد النهائي بين الفكرين الديني والفلسفي من حيث أصبح لدينا حلا صوفيا (يا للمفارقة كان النقد التيمي/الخلدوني نقدا لا هوادة فيه للحل الصوفي) فعن طريق الجدل الهيجلي حل المطلق في النسبي والكلي في الجزئي وحتى الوضعية التي نفت المطلق فهي قد أطلقت النسبي.
هكذا أدت المثالية الالمانية المهمة والتي بلغت الذروة في فلسفة شيلنج وهيجل وهما وحدا المدخلين بفضل الجدل جاعلين من مفهوم المقولة الارسطية/الكانطية امرا واحدا في جوهره واصبح ما كان يعد أنطولوجيا (صفات الوجود العامة عند ارسطو) وابستيملوجيا(صفات الذات المتعالية عند كانط) أصبحا ضربا جديدا من الميتافزيقا هو المنطق التاملي التي يتحد فيها المطلق بالنسبي المعقول واقعي والواقعي معقولا فالجوهر أصبح بالجدل ذاتا، والذات أصبحت جوهرا اذ تحققها هو عين وجودها فيكون المثال هو تعينه المتحقق، فالحقائق هي ذات الحركية الذاتية التي لا تقتصر على الفعل النفسي بل هي تاريخ تعينها وتحققها.
لكن هذا الحل الهيجلي الجامع بين الانطلوجي (الوجودي) والابستيملوجي(المعرفي) من خلال رفض المسافة الفاصلة بين المعاني في تصورها الذاتي والمعاني في ذاتها كعلم مطلق سرعان ما انفرط عقده لكونه في الحقيقة مستندا لحل سوفسطائي اذ لا شيء يثبت ان المعاني المنطقية رغم اختلافها عن تصورها النفسي مطابقة للموجود في ذاته كحقيقة إلا اذا سلمنا عقديا/ايمانيا بحلول الرب في الانسان لا معنى للعلم المطلق دون التصوف أو إدراك منزلة الانسان الكامل او ما يعادله من سلطة روحية تملك العلم اللدني وهو أمر لم يسلم به بعض الرافضين لهذا المصير فتنادى البعض الى العمل الذاتي كبحث عن المطلق الديني خارج المطلق الفلسفي (كيريجارد الوجودية المؤمنة) أو تنادى الى العمل الموضوعي حيث التحقق العملي قبالة الحقيقة النظرية في شكل فلسفة بنيوية مادية تبحث عن النسبي الانساني خارج اوهام الهيجلية (ماركس واشياعه) وخارج هذا التنادي اصبح نيتشه ممكنا محاولا البحث ضمن نفس السيستم عن وصل جديد جاعلا بين قوسين كل المنجزات الحضارية باحثا عن اسس جديدة لقد طلب بدايات نظرية جديدة تختلف عما اختاره من كان عمله رد فعل شكلي على الحل الصوفي الهيجلي أعني حل الوجودية المؤمنة التي انتهت إلى توحيد العمل داخل سياق الفلسفة/الدين من خلال تجارب دينية شخصية كما عاينها كيركيغارد أو التجربة الجماعية عند ماركس بما هي مقوم للتجربة السياسية الخلقية للمجتمع، لكن هذا البحث عن قلب للقيم النيتشوي الذي سلم باعتراضات الخلاص الفردي (كيركيغارد) والخلاص الجمعي (ماركس) لكنه لم ترضه حلولهما فطاف يبحث عن بدايات جديدة الى ما قبل سقراط وربما الى المهمش الافلاطوني حتى لا نقول السقراطي أكان هذا المهمش لا وعيا عضويا او لسانيا أو تكوينيا خلقيا ومعرفيا.
كل هذه هي محاولات ترميم من المنطلق العملي بعد محاولتي التهديم الحاصلتين للتخلص من عودة فوضى البدايات النيتشوية والبحث عن التاسيس.
انتهت مغامرة الحضارة الراهنة حسب دكتورنا الى محاولتين:
• الاولى تهديمية
• والثانية ترميمية.
كيف ذلك؟ - محاولتا تهديم الحل الهيجلي بمنهج التاويل ومن منطلق الموقف العملي في محاولة غير واعية او بتنكر واع لاعادة التاسيس الانفصالين عن الحل الهيجلي، وهذا هو الحل الهيرمنوطيقي من منطلق عملي للفصل بين ضربي تحديد المقولات فصلا تأويليا ذا ميل ديني في مواصلة للخط الذي دشنه كيركيغارد (تأكيدا على تجربة الوعي الشخصي الدينية) او فصلا تأويليا عمليا هو الآخر لكن ذو ميل سياسي مواصلة للخط الماركسي بالتنصيص على تجربة الوعي الجمعي السياسي وهذا ما يفسر التلازم بين الوجودية والماركسية بتفسير يفهم في اطار ان كلا منهما هو موقف هيرمنوطيقي. نعم كل منهما هو تأويل للتجربة الانسانية العملية: واحد يختار البعد الفردي، والاخر البعد الجمعي.
- محاولتا ترميم الحل الهيجلي بمنهج التحليل ومن منطلق الموقف النظري الذي يحاول اعادة تأسيس الحل الهيجلي (دون وعي أو بوعي متنكر) وهو الحل الفينومنولوجي من منطلق نظري مستأنفا للجمع الهيجلي بين ضربي تحديد المقولات الارسطي والكانطي جمعا تحليليا نظريا ذو ميل ابستيمولوجي (الجمع بين ارسطو/كانط مع تغليب كانط) وهذا هو ما اختاره هوسرل او ما اختاره هايدجر عندما قام بالجمع التحليلي النظري ذو الميل الانطلوجي من خلال محاولاته الجمع بين ارسطو/كانط بتغليب ارسطو لكن يعترف الدكتور أن الحل الهيدجيري يتميز بمناوسة بين الحلول الأربعة التي ينحل فيها الحل الهيجلي ويقصد بذلك كل من كيركيغارد + ماركس + هوسرل وهايدجر نفسه.
فالهيدجرية ليست الا هيجلية متنكرة مترددة بين حديها المضاعفين الممكنين ويستدل الدكتور على هذه القراءة بالقول يكفي قلب ما جاء في الجملة الاخيرة من فينومنولوجيا الروح لهيجل كي نكتشف كل فلسفة هيدجير فهي العمل العكسي لفينومنولوجيا الروح عودة من الغاية الى البداية عودة نقدية لتاريخ الفلسفة والروح ظنا من هيجل انه حدد مصير العقل الإنساني.
الخيط الناظم الثاني او نظرية الآية
بالنسبة لنظرية الآية فالمقصود بها دور الوساطة الرمزية الثانية اي الدين ولكن من منظور أو موقف أساسه نظرية الرمز الخالصة أي نظرية الآية دون تخصيصها أكانت دينية او غيرها.
هنا نحن ازاء نظرية عامة كل الرموز العينية هي نسخ منها ومعلوم أن الرمز له أبعاد ثلاثة قياسا على ثلاثية القيم المعيارية، فكما بنى الغرب ثلاثية القيم على قيم الحقيقة والخير والجمال، وبالتالي ثلاثية العلوم المعيارية وهي المنطق وعلم الاخلاق والجماليات، نجد ثلاثة ابعاد لنظرية الرمز اللساني وهي:
• التركيب (حيث علاقة الرمز بالرمز)
• والدلالة (حيث علاقة الرمز بما يدل عليه اي المرموز)
• وفعل القول (حيث علاقة الرمز بالرامز اي الذوات المتواصلة)
وهذه علوم ثلاثة أصبح أي باحث في اللسانيات يميز بينها هذه الابعاد قابلة للتعميم على كل الرموز وكعادته يراها الدكتور ناقصة لأنه يجد بعدين مهملين يسبقان، وربما يؤسسان، امكان الرموز ذاتها وهما:
- مادة علم الطبيعيات وهي المراجع المرموز إليها ويدرس علاقات الاشياء بعضها ببعض أي قوانينها وهي تختلف عن تصوراتنا حولها ورموزنا لها، بل إن كل صياغتنا الرمزية هي من أجل الظفر بهذا الميدان وهذا المجهود والسعي يخضع دوما للمراجعة بحكم تجاربنا ومراكمتنا لخبرتنا في التعامل معه.
- مادة عمل العمرانيات وهي العلاقات بين المتكلمين او الذوات الرامزة ويدرس علاقات الناس بعضهم بالبعض او قوانين هذه العلاقات وهو أمر يختلف عما نتصوره كعلاقات ورموزنا لها وتختلف عن علاقات الاشياء ببعض اي عن الطبيعيات بكونها وهذه ميزتها تقبل ان تكون رامزة ومرموزة.
بهذا المعنى، نحن إزاء خمسة علوم هي:
• أسس النظرية الرمزية وهي علم التراكيب (علاقة الرموز بعضها ببعض)
• وعلم الدلالة (علاقة الرموز بالمرموز اليه من مراجع المدلول)
• وعلم افعال القول (علاقة الرمز بالرامز من مراجع الدال)
• وعلم الطبيعة (علاقة المرموزات بعضها ببعض)
• وعلم العمران (علاقة الرامزين بعضها ببعض)
والعمرانيات تختلف عن الطبيعيات لكونها تضيف الى القانون الطبيعي القانون الخلقي بما هو الوعي المصاحب لتصور القانون الطبيعي وتصوره كذات حرة مبدعة وهذه هي مكمن وأهمية العبقرية الخلدونية التي حملته لثورته التأسيسية لعلم العمران.
إن جوهر الرمز الديني في دلالة الوجود الكوني بما هو آية ولقد تعين هذا الرمز في حضارتنا في القرآن الكريم تعينا لسانيا يقص التعينات الأخرى (الطبيعة/القيم والانفس/المجتمعات) ولكن القرآن يقص ذاته القاصة أيضا والحضارة العربية /الاسلامية بمرحلتيها تشكل أهم انجاز حقيقي لتجاوز مشاكل التقابل بين النظر/العمل، وبهذا يتوصل الدكتور الى إدراج الحقبة العربية في معراج تحولات التاريخ الكوني بمختلف لولبياته وتعرجاته، غير أنه لا يفوته أن يسجل موقفا من ثلاثية الزمان المشهورة طالما الأمر يتعلق بالزمن أكان حضاريا أو خاصا، فالقسمة المشهورة للزمن بأنه ماض أو حاضر أو مستقبل يراها غير صحيحة أو قل ناقصة فمقومات الزمان عنده مخمس الأبعاد وليس ثلاثيا وكنا لمحنا في ابانه الى ذلك، لكن ماهي الآلية التي اكتشفها الانسان لتيسير التحكم في اللاتناهي واللاتحدد الزمانيين اذا ما استثنينا الموقف العدمي وهو موقف تحكمي سلبي ينفي الزمان بالدهر.
إن أساس هذه الآلية هو علاقة المعنى بالحدث فحدث ما ليكن مشهد طبيعي أو صناعي كل كيف يراه ويؤوله وتتعدد معانيه بتعدد الذوات التي تعايش هذا الحدث وعلى ذالك قس كل الاحداث والوقائع فالمعاني اذا جماعة لامتناهية وحداتها منفصلة، وعلى العكس من المعاني، تكون الاحداث سلسلة مترابطة فهي اذا جماعة ليس لها وحدات منفصلة. هي لامتناه متصل ويتم الفصل بينها بفضل المعاني أي وحدات الجماعة الاولى ومعنى ذلك (في فلسفة يعربية لا يعرف سرها الا هو) أن كل لحظة حاضرة من لحظات الزمان (بوصفها بؤرة البعدين المضاعفين اللامتناهيين الماضيين والمستقبلين كما بينا سابقا) تستمد وحدتها الحينية من معنى الحدث الحاضر حيث تمسك الوحدة المنفصلة للبعد المعنوي من الحاضر الوحدة المتصلة من البعد الحدثي الحاضر في شكل علاقة بين صورة ومادة.
بلغة أخرى، إن عملية المطابقة بين جماعة الوحدات الاولى وجماعة الوحدات الثانية هي التي تمكن من تحقيق الانفصال في الاتصال، فيكون لدينا الزمان التاريخي وهو تأليف بين وحدات حدثية ذات معاني قابلة للفصل، فتعد حقبا من التاريخ الجمعي مثلما تعد اللحظات المتوالية في حياة الافراد لحظات ذات وحدة معنوية فتكون الاحداث مواد الوعي او مضموناته والمعاني صور الوعي او اشكاله. وذلك هو سر سيادة الامم على مصيرها وهو ما يشترط النظر ايا كان شكله دينيا او فلسفيا او شعريا او اسطوريا ويجمع بين الاشكال الاربعة الوجود الخلقي في الوعي الجمعي المتعين في المبدعات التي تكون بها الامم الحية مسيطرة ومهيمنة او وارثة الارض بمعنى القرآن.
هذه الرؤية لا تنطبق على الزمان الحضاري العربي/الإسلامي فقط، بل تنطبق على كل الأزمان الحضارية اذ المتعينات أمثلة ونسخ من تطبيقاتها.
يلفت الدكتور الانتباه هنا الى أنه إذ يقيس الزمان الجمعي على الزمان الفردي ليس معنى ذلك إلا ان الزمان الفردي يبقى بمستواه النظري عند الفرد مرقاته الوحيدة الى الزمان الجمعي الذي يكون في الوعي الغفل قصصيا ويكون في الوعي العلمي بناءا نظريا، ولهذا البناء هيكل عظمي يمثله العمران أو بنية المجتمع عامة بوصفه ذاتا نظرية كما تم توضيح ذلك في كتاب “الاجتماع النظري الخلدوني والتاريخ العربي المعاصر” (وسنعود اليه ان شاءالله).
لقد تبين من خلال هذا الطرح صلة الفكر الفلسفي الحديث بالكلام والتصوف وهما يجمعان معا الفكر الديني والفلسفي، وتبين تاريخيا صلة الفكر الفلسفي الحديث بالحدث التاريخي ومعناه وذلك بالربط مع راهن العالم في عولمته المتوحشة وفي صلته بنا كامة صامدة لكوننا نواجه طاغوتين دينيين يتحكمان في أدوات السلطان الدائمة في التاريخ الانساني أي أدوات القوة الغير المباشرة او العلم والاعلام والمال والتجارة وما يحميها جميعا من أدوات القوة المباشرة القوة الاستعلامية والحربية والسياسية هذين الطاغوتين هما أمريكا وتقوم على ايديولوجيا التوراتية المحدثة او ما يسميه الدكتور الاصلاح البروتستانتي الذي يقول بنظرية ارض الله الموعودة الجديدة والكيان الصهيونية الذي نتج عن الاصلاح الصهيوني التوراتي ويؤمن بنظرية العودة الى الارض الموعودة القديمة.
انتهت المقالة الثالثة ويليها المقالة الاخيرة.