المثالية في مشكل دلالتيها

ه

الفصل الاول

لما تكلمت أمس على سبر الآراء وعلاقته بالتاريخ مطبقا على تونس لتحديد الحجم الفعلي للقوى السياسية ووضع تفتتها الحالي بمناسبة الانتخابات القادمة وهي الثالثة بعد الثورة لم أستعمل الاستنتاج العقلي دون الشهادة الفعلية والمباشرة إلا في كلامي على الحرب الاهلية الأولى التي لم أعشها لأني كنت في السنوات الاولى من التعليم الابتدائي. وفي جيلنا لم توجد بعد وسائل التواصل الاجتماعي بحيث إن الاخبار لا تنتقل بسرعة والنضوح الاجتماعي كان يأتي متأخرا أو الطفولة كانت تدوم إلى حدود سن المراهقة تقريبا وبداية الثانوية. لذلك فما ينقصني من معلومات مباشرة عوضته بتحليل عماده الاطلاع البعدي على مجريات الامور ومحاولة وصلها منطقيا بظرفياتها.
لكن كلامي على ما تلاها كان من خلال حضوري المباشر كشاهد احيانا عن بعد وأحيانا كثير وبصدف أرادها الله من خلال حضور مباشر وأحيانا مساهمة فعلية في بعض الاحداث لمشاركتي السياسية في شبابي. وهنا يأتي مشكل المثالية الذي أريد أن أتكلم فيه اليوم. فالشاهد نوعان:

  1. شاهد زور أو باطل
  2. وشاهد عدل أو حق.
    فكيف نميز بين شاهد الباطل وشاهد الحق؟
    في النظرة الأولى يتصور الإنسان التمييز قضية خلقية لدى الشاهد بمعنى أن ذا الاخلاق يكون شاهد حق وعديمها أو سيئها -لأن الأخلاق ليست الموجبة وحدها بل وكذلك السالبة-يكون شاهد زور. ثم يأتي النظر في تعليل شهادة الزور وشهادة الحق. وغالبا ما يكون تعليل الأولى بالمنفعة المباشرة والثانية بمنفعة غير مباشرة (في رؤية العامة الدينية) أو باحترام الذات عند المثالي أو المعتز بنفسه الذي لا يشترى بالمنافع لا المباشرة ولا غير المباشرة بمعنى أن الحقيقة عنده قيمة بذاتها ولا ينتظر جزاء ولا شكورا على قولها كما يعتقد في ما يعتبره مطابقا لحقيقة ما يشهد له أو عليه.
    والمشكل هو ما طبيعة هذا التعليل للشهادة للحق أو على الباطل؟
    وماهي الشروط التي تجعل مثل هذه الخصائص ممكنة لقلة من الناس وشبه مستحيلة لغالبية الناس؟
    أعطيت لهذه الإشكالية عنوان المثالية ومشكل دلالتيها واقصد دلاتها المعرفة ودلالتها القيمية لأن صفة المثالي تقال إما على موقف من نظرية العرفة أو على موقف من نظرية القيم. وكلتاهما مما يسخر منه في الرؤى الشعبية وخاصة عند الساسة الذين جلهم شهود زور. وتلك هي علة مشكلي مع السياسة. ولا يمكن ألا يعترف الإنسان أن للسلطة السياسة اغراء يفوق إغراء جميلة الجميلات فضلا عن كونهما كلتاهما أداة للثانية كما هو بين عند أخبث السياسيين وخاصة المتعامل منهم -ولعلهم كلهم من هذا الجنس-مع المخابرات التي تولي وتعزل في البلاد التوابع:
    • فالمثالي في نظرية المعرفة يبدو معارضا للعقل السليم لأنه لا يقبل بما يفرضه الحس.
    • والمثالي في نظرية القيم يبدو معارضا “للواقعية” لأنه لا يقبل بما تفرضه إكراهات الممكن.
    ولهذه العلة فالإشكالية تحتاج إلى تعميق النظر. وقد اضطررت لعلاج ملغزاتها وأسرارها أن أصل الأمر الذي يعلل هذين الموقفين اللذين يبدوان حقا مستجيبين للعقل السليم: كيف يمكن للعاقل أن يتنكر لما تفرضه الحواس من بداهة ولما تفرضه اكراهات الواقع من ضرورة فيكون حتى بالمعنى النفسي غير سوي إذ يبدو في الثاني وكأنه رهن الأوهام وفي الاول رهن الهذيان الذي يتكلم على عوالم خاصة بالمرضى النفسيين.
    لذلك اضطررت أولا لتعليل الموقفين اللذين يبدوان بديهيين فوضعت مسألة المائدة و السرير وفنيهما وأحكامهما ومسألة بعدي دين العجل وسلطانهما وأحكامهما وعلاقة ذلك بهشاشة الإنسان العضوية والروحية ثم ربطت ذلك كله بنظرية القرآن في شروط تحرر الإنسان من سلطة الوساطة الروحية وسلطة الوصاية السياسية اللتين تستعملان هذه الآليات لخلق ما سميته شهادة الزور والحرب على شهادة الحق رغم أن شاهد الزور يعلم أنه شاهد زور فيقدم عليها من أجل تحقيق منفعة أو تجنب عاقبة سيئة وشاهد الحق يعلم كلفة شهادة الحق فيقدم عليها قابلا لخسارة منفعة ولعقوبة ظالمة. فتعود القضية إلى كيان الإنسان وشروط تكوينه وتكوين الجماعة التي لا يوجد فيها سلطة الوساطة وسلطة الوصاية لأنهما هما أصل الداءين:
  3. داء جعل المائدة والسرير وفنيهما أداتي السلطة في السيطرة على الإنسان بمقتضى هشاشته.
  4. داء جعل بعدي العجل -العملة معدنه والكلمة خواره -أداتي تربية اساسها المنفعة والعقاب والكذب والخداع لترويض الإنسان حتى يقبل بداء الأدواء أي سلطة الوساطة وسلطة الوصاية.
  5. فيكون الداء هو دين العجل الذي هو البنية العميقة لكل الأنظمة التي تنقسم في الحقيقة إلى صنفين
  6. هما صنف الثيوقراطيا أو الحكم باسم الله وصنف الانثروبوقراطيا أو الحكم باسم الإنسان.
  7. وبذلك يتبين أن رؤية الإسلام هي الرؤية التي تفهمنا أن المثالية بالمعنى المعرفي والقيمي ممكنة لكنها لا تكون بحق صادقة إلى عند أقلية قليلة جدا يمكن أن تكون بمجرد وجودها ودون سعي لسلطان وساطة ولا لسلطان وصاية أشبه بمنارات جاذبة قد تحرر الإنسانية بمجرد احترام شروط كون الإنسان “رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له” وهو ما يعني تطبيق النساء 1 والحجرات 13 ما يجعل الصراع على 1 بـ2 واستعمال 3 لهما بنظامي 4 هي الأدواء التي وظيفة الواحد في الديني وفي الفلسفي علاجهما وذلك هو مضمون القرآن الكريم.
    والسؤال هو هل نجح الإسلام في تحقيق هذه الرسالة أم إن المسلمين لم يدركوها على حقيقته فلم يشذوا عن سنن التاريخ الروحي والسياسي الذي نقده القرآن؟

الفصل الثاني

لست غافلا عن كون مثل هذه المسائل ليست من هموم غالبية القراء: فمن يعنيه أن “يتفلفس” (عبارة تحقيرية للفلسفة في لغة العامة من مثقفي عقاب الزمان) في مسائل تعتبر شغل من لا شغل له في لحظة حمي فيها وطيس “الروش” نحو “بيع الأصول التجارية” التي تسمى أحزابا في المزاد العلني الذي يسمى انتخابات مع محاولة وفصلها بها؟
ما علاقة الانتخابات بمشكل المثالية ودلالتيها المعرفية والقيمية؟
• فمن يعنيه مشكل المثالية في نظرية المعرفة؟
• ومن يعنيه مشكل المثالية في نظرية القيمة؟
حسن.
لكني وصلتهما بإشكالية الشهادة التي قدمتها والتي يمكن وصفها بكونها تعتمد الدلالتين. فلو لم أكن اعتقد أن الحقيقة موجودة مع علمي ألا أحد يمكن أن يدعي الوصول إليها أو ملكيتها (نفي المطابقة بين العلم وموضوعه) وأعتقد أن هذا الاعتقاد هو أساس كل القيم -وهي خمس أصناف هي حرية الإرادة وصدق العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود-لما وصلت الأمر بشهادتي في الومضات الخمس التي قدمتها بمناسبة الكلام على ما سميته سبر الآراء المعتمد على تاريخ الجماعة وتأصيل قواها السياسية وعلى منهج انتخاب العينة مقدما وغاية الاستنتاج الاحصائي تاليا في السبر الذي لا يطلب خلق الإشاعات بل تحديد حظوظ المرشحين من القوى السياسية ذات الوجود الفعلي في القاعدة الشعبية مع خصائص المرشحين الشخصية.
والوصل بين الأمرين هدفه بيان المحددات التي تجعل الشهادة تكون شهادة زور وباطل أو شهاد عدل وحق.
والمعلوم أن حق الانتخاب هو جوهر الشهادة في مسألة سياسة الجماعة لنفسها بمنطق الآية 38 من الشورى دينيا وبمنطق حرية الإنسان وكرامته فلسفيا ويجمع بينهما ابن خلدون في تعريف الإنسان جمعا بين الفلسفي والديني في عبارة “الإنسان رئيس بطبعه (فلسفي) بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له (ديني)”. لكنه حق صار أشبه بالملكية التي تقبل التصرف بالبيع والشراء. ومن هنا قابليتها للتحور إلى شهادة زور وباطل.
ولما كنت اعتمد ما أطلقت عليه الخلدونية المحدثة فإني اردت أن اشفع ما كتبته حول السبر الذي أتبعته بالعرض التاريخي لتكوينية القوى السياسية في تونس وما آلت إليه من الفوضى والبعثرة فإني أردت أن أواصل البحث لتأسيسه على النظريات التي ذكرتها في الفصل الأول من هذه المحاولة:

  1. فكل مواقف البشر رهن حاجات المائدة والسرير وفنيهما وجودا وعدما وما رؤنهما من درجات سدهما.
  2. وكل تحكم في هذه المواقف يمر بالتحكم في هذه الحاجيات التي هي أدوات الاستعباد في كل المجتمعات
  3. والتحكم فيهما يكون ببعدي دين العجل أي ربا الأموال (معدنه) وربا الأقوال (خواره) أو سلطان العلمة على المتبادلين وسلطان الكلمة على المتواصلين وهما أداتا كل سلطان في كل المجتمعات.
  4. ومستعملو السلطانين بينون:
    • فسلطان الكلمة كان للسلطان الروحي أو الكنسية وصار لما يناظرها أي ثقافة الاعلام والملاهي
    • وسلطان العملة كان للحاكم بالحق الإلهي وصار لأصحاب البنوك ورأس المال وليس الحاكم إلا مجرد ناطق باسمهما.
  5. وهذا يصح على النظامين اللذين ترد إليهما كل الأنظمة لأنه بنيتهما العميقة أعني نظام الحكم باسم الله أو الثيوقراطيا ونظام الحكم باسم الإنسان أي الأنثروبوقراطيا. وهما يبدوان متنافيين في الظاهر بوصف الأول دينيا والثاني علمانيا. لكن الثاني هو في الحقيقة عين الأول بعد علمنته شكليا وهما كلاهما صورة متنكرة من “الأبيسيوقراطيا” أو الحكم باسم العجل بمعدنه أو ربا الاموال وبخواره أو ربا الأقوال.
    هدفي من البحث هو بيان هذه المعاني وأثرها في نظرية المعرفة ونظرية القيمة وكيف حاول الإسلام تحرير الإنسانية منهما ولماذا غابت هذه المعاني عن فكر المسلمين ولماذا اعتبر الوعي بها والعمل بها هو شرط الاستئناف الإسلامي لأن فيه استجابة لحاجة الإنسانية الحالية والتي لم يكن بالوسع فهمها حتى إن هيجل ظنها مثالية تجريدية تحول دون تأسيس دولة مستقرة واعتبرها من ثم منافية لما يحتاج إليه البشر حتى يحققوا ما يسمح بالحياة المنظمة والسلمية. لكن العولمة بينت أن ما ظنه سليما هو السرطان الذي لم يكن هيجل داريا به لأنه لم يصل في عصره إلى مرحلة الميتاستاز كما نراه حاليا وبدأت الإنسانية كلها تراه وخاصة شباب الغرب الذي بدأ يفهم أنه هو بدوره ضحية مثلنا لهذه الآليات الجهنمية التي يمثلها بعدا دين العجل أيا كان تنكرها بل إن تنكرها الأخير في الديموقراطية لم يعد تنكرا لأن دور مافيات المال ومافيات الإعلام لم يعد خافيا عن أحد.

الفصل الثالث

ما الذي يجعل الإنسان الذي صار له حق التعبير -وهو معنى حق الانتخاب-عن سيادته يتخلى عنها فيقبل تحويلها إلى ملكية قابلة للبيع والشراء؟
سرعان ما تسمع الكلام على الاخلاق وخاصة ممن يستعملون السلاح الذي يؤدي إلى هذا السلوك أي من الساسة وخاصة إذا كانوا عاجزين عن الشراء؟
لو كان هذا الجواب المباشر يرضيني لما كان للبحث معنى.
يمكن أن أسمي هذا الفصل بعنوان “هشاشة الإنسان علة موضوعية لتردي منزلته الوجودية العضوية والروحية” وهي التي تكذب التحليل الهيجلي والماركسي المعتمد على صراع السيد والعبد لكأن الأمر يتعلق بمبارزة تنتهي إلى استسلام أحدا المبارزين في ساحة المعركة وهو تبسيط مخل لا يعبر عن حقيقة ما يجري فعلا فيعلل مجريات التاريخ الإنساني. فالإنسان من حيث هو إنسان يعاني من هشاشتين ولا علاقة لهما بالسيادة والعبودية لأنهما كليتان لا فرق فيهما بين سيد وعبد وهما متقدمتان على هذه المقابلة لأنهما علتهما بل هي ظاهرة تحكمها الهشاشة الذاتية للإنسان والظرف الذي قد يمكن من السيادة أو يلجئ إلى العبودية من حيث هما نظامان “قانونيان” في الجمعات البشرية وليسا منزلتين وجوديتين.
وقد اكتشفت أن الإنسان يعاني من هشاشة وجودية مضاعفة ذات علاقة بكيانه العضوي وبكيانه الروحي وهو لا يؤتى إلا منهما في علاقتهما بالمائدة والسرير وبفنيهما. وحيازة ما يسد حاجتي المائدة والسرير تحكمه قوانين عضوية وروحية في كيان الإنسان ومن ثم فالسيادة والعبودية حل قانوني لعلاج مشكل طبيعي وسياسي. والمشكل الطبيعي خاضع لقوانين طبيعية بين الإنسان والطبيعة قبل تعليلها بسنن تاريخية بين البشر. وهو ينطبق على علاقة الرجل بالمرأة وعلاقة الأب بالأبناء إلخ وأعني به التبعية للأقوى طبيعيا ثم تصبح التبعية من السنن التاريخية:

  1. فطبيعي أن الاقوى بدنيا يسيطر على الاضعف حتى يكتشف الإنسان قوة أخرى غير البدنية حتى خارج العلاقة الأسرية التي لا تبدو سيطرة سيد على عبد بل سيطرة أب على أبنائه وزوجته أو زوجاته.
  2. وطبيعي أن الاقوى في هذه القوة الثانية يسيطر على الأضعف في السيطرة على هذه القوة الثانية وعلى استعمالها للتصدي للقوة الأولى.
    ولا تصبح مسألة السيادة والعبودية مسألة إلا أن تصبح منزلة قانونية معترف بها وبعد أن يكتشف الإنسان قوة ثالثة وهي قوة خلقية تتمثل في الشعور بالذات وحقوقها. لكن هذا الشعور بالذات والحقوق يمكن أن يصبح بضاعة تباع وتشترى حتى يتم تجاوزها.
    التجاوز يحصل عندما يصبح للإنسان منزلة من حيث هو إنسان وهذه تقتضي أن توجد سلطة فوق كل سلطة إنسانية وطبيعية وهي بداية الوعي بوجود سلطة متعالية يمكن أن تتدخل في العلاقة القانونية بين الأقوياء والضعفاء بدنيا وفكريا. وهذه هي القوة الرابعة وهي بالأساس دينية.
    وقد تزيد الطين بلة لأن الله نفسه يمكن أن يوظف في تبرير الموجود ولذلك فلا بد من التمييز بينها عامة وبينها إذا أصبحت مطبقة فعليا إذ حينها فقط تتحرر ممن يسيطر عليها أي سلطان الوساطة وسلطان الوصاية وهي متعينة في الكنيسة روحيا وفي الحق الإلهي في الحكم سواء بالوصية أو بالقوة القاهرة.
    وهذا هو المستوى الخامس والارقي للتحرر وهو جوهر مضمون الرسالة الخاتمة التي تنبني على مبدأ التحرر من هذين السلطانين الروحي والسياسي وذلك هو مضمون الآية 38 من الشورى: المستجيبون للرب أمرهم شورى بينهم بمعنى أنه لا سلطان عليهم غير الرب والسلطة الروحية والسياسية هي سلطة الجماعة من البشر الذين هم أخوة (النساء 1) ومتساوون (الحجرات 13).
    لكن هل هذه الرؤية حققت تحرير البشر من السلطتين اللتين تسيطران على الرزقين الروحي (الفنان) والمادي (المائدة والسرير). ذلك هو المشكل الذي يترتب على هشاشة الإنسان والذي لا يعالج مباشرة من دون معالجة هشاشة الإنسان وإلا فإن الدين يصبح كما وصفه ماركس أفيون الشعوب.
    وإذن فلكأن الإسلام علاج لهشاشة الإنسان التي هي أصل وجود السلطانين سواء كانا باسم الله (الثيوقراطية) أو باسم الإنسان (الانثروبوقراطية). وللماركسية شيء من هذا لو لم يقع الخلط فيها بين توظيف الدين والدين وهو خلط صار عقيدة الحمقى من ادعياء الحداثة العرب.
    فكيف يكون ذلك أو كيف اكتشف الإسلام -القرآن-أن هذين السلطانين يستعملان دين العجل لتحقيق سلطانيهما ويخفيان ذلك بالثيوقراطية أو بالديموقراطية التي هي ثيوقراطية معلمنة؟
    أولا ينبغي أن أثبت أن القرآن يقدم هذا التعليل للسلطانين ويعالج هشاشة الإنسان بهذا العلاج من خلال التصدي لأداتيهما أعني بعدي العجل أي ربا الأموال وربا الأقوال والأول بيد السلطان السياسي على حاجات المائدة والسرير والثاني بيد السلطان الروحي على حاجات فنيهما أي ما يجعل الحاجات الأولى شبه لا محدودة مما يولد وجهي المشكل:
  3. الاستحواذ على ما يسد الحاجات بنوعيها
  4. فقدان ما يسد الحاجات بنوعيها. وبهما ومنهما يؤتى الإنسان فيبيع سيادته وكرامته من أجل المزيد منهما عند النوع الاول والحصول على الحد الأدنى عند النوع الثاني.
    وأبدأ بالمائدة:
    • لا يوجد حيوان يأكل أكثر مما يحتاج ليشبع.
    • ولا يوجد حيوان ينكح أكثر مما يحتاج إليه لما تأتي الحاجة.
    والحاجة الجنسية ليست دائمة عند الحيوانات بل هي في الغالب تقع مرة في السنة. لكن الإنسان يأكل أكثر مما يحتاج ليشبع غذائيا وينكح أكثر مما يحتاج ليشبع جنسيا. وحتى إذا كان لذلك حد فإن فنهما يجعل التنويع فيهما بلا حد.
    وهذا يعني أمرين:
  5. بالنسبة إلى المستحوذين عليهما لا حد في طلب المزيد لأنها ليست لسد الحاجات الذاتية فحسب بل لأنها كذلك أدوات سلطان على الآخرين.
  6. وبالنسبة إلى الفاقدين لهما المحدودية الفعلية تخلق لا محدودية خيالية فتنتج الحاجة إلى الذل من أجل الرمق ثم من أجل المزيد. وتلك علة التجارة الأولى في التاريخ أي تجارة الجنس والجواري لنفس العلتين عند الأغنياء فعلا وعند المعدمين انفعالا.
    تلك هي علل العبودية والسيادة وليست الصراع بالمعنى الهيجلي أو الماركسي. لأن هذا الصراع ليس بين الافراد بل هو بين الجماعات وخاصة في المرحلة القبلية لأنه صراع على مصادر الرزق المادي على أساس رؤية روحية في الجماعتين. ولذلك فكل المجتمعات البدائية ربها يحارب معها.

الفصل الرابع

لا يمكن فهم تميز الإسلام بالشريعة المتعلقة بالمعاملات الدنيوية إلى حد اعتبارها من العبادات وعدم الاقتصار على العبادات المشعرية من دون العلاقة بمسألة المائدة والسرير وبمسألة فينهما أو أساليب السلوك فيهما ومن دون اعتبار ذلك جزءا من علاج هشاشة الإنسان الذي يحفظ حقيقة الإنسان كما يحددها القرآن وكما صاغها ابن خلدون “رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له”.
فكونه رئيسا بطبعه يعني أنه مجهز بما يجعله قادرا على التحرر من استعباد الطبيعة له (والرمز هو تكليف نوح بأمرين: تقينا صنع السفينة والزراعة مع الرسالة التي تحدد منزلة الإنسان عبدا لربه دون سواه).
وكونه قادرا على التحرر من استعباد السياسة له (والرمز تكليف موسى بأـمرين: تبليغ الرسالة لفرعون ثم اخراج شعبه من العبودية).
وهما الرمزان اللذان تبدأ بأولهما هود وتنتهي بثانيهما في علاج كل إشكاليات وجود الإنسان بوصفه مكلفا بتعمير الأرض ومستخلفا فيها: فما بين هذين التحريرين نجد المسألة تسلط أصحاب الثروة أو المسألة الاقتصادية (هود) ومسألة توزيع الماء (صالح) ومسألة الجنس (لوط) ومسألة شروط التبادل العادل. ولهذه العلة اعتبر الرسول هذه السورة مشيبة لرأسه لأنها في الحقيقة تعرض طبيعة العلاقة بين السماء والارض في الرؤية الاسلامية لعلاج هشاشة الإنسان التي تجعله يقبل بالعبودية للطبيعة وللسياسة أو لمن يسيطر على سد حاجاته المادية والروحية بدل العبودية لله وحده.
وطبعا وجود إبراهيم بين الثلاثة الاول (نوح وهود وصالح) والثلاثة الاخيرين (لوط وشعيب وموسى) في السورة يشير إلى عودة المحمدية إلى الابراهيمية لتحقيق الرسالة الكونية لأن ابراهيم لم يحقق منها إلى المبدأ الأول أي مبدأ الوحدانية والتحرر من عبادة الافلاك والتضحية بالإنسان في المعابد.
لكن الدليل الأوضح على علاقة الإسلام بعلاج هشاشة الإنسان من هذا المنظور هو الموقف القرآني من ربا الأموال ومن ربا الأقوال. فهما الأمران اللذان كان حكم القرآن فيهما أشد أحكام الشرع:

  1. الحرب على ربا الاموال
  2. والمقت الأشد على من يقول ما لا يفعل.
    لكن الأهم من ذلك كله هو أن القانون الجنائي (حماية الملكية فوق كل الاحكام الاخرى عدا الشرك) وشروط الفروض الخمسة متصلان وثيق الاتصال بمسألة ما يحرر من الهشاشة أي بالملكية وحماتيها وبشروط الفروق أعني النصاب في الزكاة والاستطاعة في الحج وكلفة النظافة في الصلاة وكلفة الصحة في الصيام. وهذه كلها مشروطة بتوفير الحد المعقول لسد حاجات المائدة والسرير وفنيهما السليم.
    ولعل أكبر ثورة حصلت في القرآن هي علاج مسألة المائدة والسرير وفنيهما علاجا صريحا وواضحا واعتبارهما من الحقوق التي لا بد من توفيرها والتي تحصيلها جهاد وحمايتها جهاد وهي لا تقل أهمية على العبادات المشعرية بل وهي أهم منها لأنها شرطها دون أن تكون مغنية عنها فهي جزء من التعمير الذي يفقد معناه إذا لم يكن بقيم الاستخلاف.
    ولهذه العلة عرفت القوة السياسة التي تريد أن تمثيل رؤية الإسلام في العمل السياسي ينبغي ان تكون يمين اليسار بالمصطلح السياسي الحالي: فهي يسار بمعنى إيلاء اهمية كبرى للعدالة الاجتماعية لكنها تعتبر شرط ذلك تشجيع الإنتاج بحماية حق الملكية ولذلك فهي يمين اليسار.
    لكن الإسلاميين لا يفهمون ذلك بل ما يزالون أكثر يمينية من أقصى اليمين ومن ثم فاستعمالهم للإسلام ليس سليما وهو أكثر ميلا للتخدير منه للتحرير. ذلك أن الغالب عليهم هو رؤية لا تختلف عن الرأسمالية المتوحشة والتي لا تعير أدنى أهمية للعلاقة بين العدالة الاجتماعية والاقتصاد.
    والدليل هو أن أقصى ما يعتبر اجتماعيا في رؤاهم يقرب من الرشوة الانتخابية أكير من الوظيفة الاجتماعية. وما يعتبر في الإسلام متعلقا بالحالات الشاذة في علاج المشكل الاجتماعي صار أقصى ما يفكرون فيه ولم يتحرر الإنسان في رؤيتهم من علل هشاشته بدليل حاجته لرشوتهم الانتخابية. والرشوة الانتخابية لا تعني شيئا آخر غير استغلال الحاجة في المائدة أو في السرير ولذلك غالبا ما تكون المساعدات متعلقة بهما أي بالأكل وبالزواج.

الفصل الخامس

ماذا يحصل في الشخص الذي يقبل بأن يبيع “سيادته” على ذاته بدنه وروحه أيا كانت السوق التي تصبح السيادات نافقة سواء كانت سيادة الإنسان على بدنه أو على روحه؟
كل المشكل هنا. ذلك أن التنازل عن السيادة لا بد أن يكون على مستويين:
• تصوري أو معرفي.
• وتقييمي أو خلقي.
فما الذي يسهل على المتنازل التنازل في مستوى التصورات أو في مستوى “حقائق” الأشياء؟
وما الذي يسهل على المتنازل التنازل في مستوى القيم أي “أخلاق” الأفعال؟
فلا بد أولا أن يكون للمائدة والسرير دورا في مستوى إلحاح الحاجة ولا بد أن يكون لفنيهما دورا في مستوى تقييم ما يطلب مقابل سدها. هذا ما سأخصص له الفصل الخامس.
سأنطلق من دور السينما المصرية في استغلال هذين الداءين بحجة الواقعية الفنية لإفساد أخلاق المصريين والعرب عامة والنساء منهم خاصة إذ يصبح مدار الافلام على دور حاجات المائدة والسرير بتوسط الكلام عليهما والاغراء بالأموال التي يقع إبرازها إما في الاسر أو خاصة في السهرات الماجنة. لا شك أن الظاهرتين موجودتان في كل الحضارات لكنها في الشعوب الفقيرة لها الدلالة التي وصفها ابن خلدون في كلامه على الترف ودوره في نهاية الحضارات.
ذلك أن جمعها بين السادة أصحاب السلطان على أدوات سد الحاجات النباتية والمعدمين هو الذي يحدد مناخا هو عينه المستعمل في كل مناسبة لتعبير الإنسان عن سيادته وخاصة في الديموقراطيات التي من جنس ما نراه في بداياتها المصرية وكيفية استعمالها من قبل أصحاب العزب والباشوات ليكون لهم السلطان المطلق على الشعب الجائع والتابع فيهما معا. ولعل ما بدأ يعم في البلاد العربية التي تدعي الديموقراطية كتونس أو الاردن أو المغرب يثبت أن حاجات المائدة والسرير هي أدوات سلطان الاغنياء على الفقراء فيها. في البلاد الغربية المال والجنس يؤديان دورا لكنهما بين الاغنياء خاصة وليس بينهم وبين الفقراء إلا نادرا.
ولعل دور الإعلام والملاهي أكبر فيهما منه عندنا بسبب عدم الاهتمام الشعبي بما يتعلق بالسياسي في الأعلام ولا يشعر بما له علاقة بالملاهي والكرة لطابعه السياسي غير المباشر.
والآن يمكن أن أقسم العمل بين الأموال والاقوال على النحو التالي:

  1. الأموال تحدد قيم الأشياء وتمهد لجعل ما لا يقبل التصرف يصبح قابلا للتصرف.
  2. الأقوال تحدد التصورات والتواصل تسهل العملية الاولى بغسل الأدمغة وقلب المعاني.
    ويمكن القول إن معدن العجل وظيفته إدخال ما لا يقبل التبادل إلى التبادل وخواره تيسير ذلك بتغيير التصورات وهو العامل الإيديولوجي الاساسي. وبذلك نتأكد مما بينته في عدة محاولات سابقة أعني أن الحكم باسم الله والحكم باسم الإنسان ليسا إلى غطاءين للحكم باسم العجل وبعديه. وإذن فالمشكل كله هو العمل على المائدة والسرير وعلى فنيهما لجعل الإنسان يتنازل عما لا يقبل التصرف قابلا للتصرف بسبب اغراء الأموال واقناع الاقوال.
    وأكاد أزعم أن كل ما يسمونه تحرير للمرأة وخاصة في النخب التي تدعي الحداثة ليس هو شيئا آخر غير تحقيق مثل هذه المهمة بجعل كل شيء قابلا للتصرف بما يخلقونه من حاجات أصبحت من أدوات الاستعداد لعملية التبادل: فلما كانت المائدة والسرير يقتضيان “استعدادات” معينة متعلقة بالهندام وبالزينة للمشاركة فيهما على مستوى المظاهر العامة في المحلات العامة (كالمطاعم والمسارح وحتى في العمل) فإن الحاجة تتضاعف: حاجة المائدة والسرير وحاجة ميسرات الوصول إلى المشتهى منهما.
    والظاهرة وصلت إلى ما يعجز عنه الوصف. فالكثير من الفتيات يصبحن في وضع يجعلهن مستعدات للتنازل عن كل شيء من أجل “لمجة” و”قهوة” و”كأس ما” في جلسة مقابلها ما يؤدي إلى كوارث في مجتمعات ما تزال محافظة. ولما كانت الشهادات والنجاحات في التعليم هي بدروها قد صارت بضاعة تباع وتشترى إما بمقابل نقدي أو عيني فإن ما نحاول فهمه في تغيير التصورات والقيم يصبح ظاهرة عسيرة العلاج رغم أن تشخيصها ليس عسيرا.
    أصبحنا في جماعة جلها ليس عنده ما يبيع ليعيش عدا بدنه وروحه. وفي العادة نسمي في تونس من يعيش بجهده البدني “خدام حزام” أي إنه إذا لم يجد عملا يوميا فلن يستطيع أن يعيش ذلك اليوم أو الذي بعده. ومن ثم فلم يبق له إلا أن يكون عبدا ليضمن الحد الادنى للعياش النباتي. وبين هؤلاء والذين بيدهم السلطان على الأموال والأقوال درجات ممن يستغل من يوجد دونه في سلم المجتمع ويستغل ممن يوجد فوقه في السلم. وقد يظن أن من هم في أعلى السلم سادة. وفي الحقيقة هم أيضا عبيد لمن يستعمر البلد. وهذا على الأقل ما كانت عليه تونس قبل ما يسمى بالاستقلال. وقد ظننا أن من هم في رأس السلم سادة بعد الاستقلال حتى اكتشفنا أنهم عبيد لنفس المستعمر وحتى يعوضوا عن عبوديتهم للمستعمر يتصرفون بقساوة لا مثيل لها مع الشعب الذي لا يعتبر عندهم إلى انديجان. فأصبحوا هم بدورهم لهم سلم من نفس الجنس فيه أدنى السلم وهم الصبايحية وفي أعلى السلم وهم عملاء الاستعمار. وهذا صحيح في تونس في الجزائر وفي المغرب. وقد تكون الجزائر بدأت الآن تدرك علة فقرها وتسعى للتحرر. وتونس أدركت ذلك لكنها عاجزة ربما عن التحرر والمغرب أكثر من تونس.
    ويخطئ من يتصور بقية العرب أفضل حال. فهم على صنفين. الصنف الأول على قسمين هو بدوره توابع إسرائيل وأمريكا وتوابع إيران وروسيا ونسبتهم إليهما نسبتنا إلى فرنسا. ثم من يتصورون أنفسهم أغنياء من العرب في الخليج لأن بقية الخليج مثل اليمن والبحرين عبيد لهم وهم عبيد لمن نصب عليهم الامراء والملوك والسلاطين والشيوخ. وهو في غنى عن مناسبات الانتخابات لرشوة الشعوب فهم يرشونهم بما يسمونه مكرمات حتى يبقوا عليهم مثل السوائم وتسمع الكثير منهم من يقول إنهم محسودون على ما يتمتعون به من نعم.
    فتكون سوق السيادة ذات مستويين:
  3. المستوى الاول بين الشعب والمافية المحلية.
  4. المستوى الثاني بين المافية المحلية والمافية الدولية.
    وهذا هو الذي جعلني اضع هذا المشكل بمناسبة ما اراه بأم عيني من تدخل المافيات الدولية لاختيار من ستعينه من المافية المحلية لمواصلة سوق بيع السيادتين المادية والروحية لكيان الإنسان في بلاد العرب: كيانه البدني في تجارة الغذاء والجنس وكيانه الروحي في تجارة الثقافة والفنون. فلا يبق الإنسان العربي سيدا على كيانه الفردي ولا على أحياز وجوده الجغرافي وثروته والتاريخ وتراثه. والمافيات المحلية مكلفة من المافية الخارجية بالحرب على حصانته الروحية ومناعته المادية.

الفصل السادس

(يكتب هذا الفصل بالتدريج وتباعا لعلة ظرفية).
بينت أن التنازل على السيادة الذاتية العضوية والروحية أي جعل الذات ببعيدها قابلة للتصرف وكأنها شيء مملوك يباع ويشترى لا يحدث من دون حصول أمور وسيطة كثيرة تجعله ليس ممكنا فحسب بل شبه ضروري في حياة الجماعة:

  1. أثر العجز عن سد حاجات المائدة والسرير فضلا عن فنيهما.
  2. استبداد البعض بأدوات سدهما أعني بأداة الرزق المادي والروحي.
  3. حصر هذه الادوات في أداتين هما أداة التبادل وأداة التواصل اللتين تصبحان أداتي سلطان على المتبادلين والمتواصلين.
  4. الحصول المتدرج لما سماه ابن خلدون “الترف” بوجهيه المتقابلين أي الثراء الفاحش والفقر المدقع.
  5. تحول كل القيم إلى المعنى الاقتصادي أي قيمة الاستعمال وقيمة التبادل وزوال كل ما يتعالى عليهما بمعنى قيمة ما لا يقدر بالاستعمال وقيمة ما لا يقدر بالتبادل وهما قيمتا القيم بمعنى أن القيم الاقتصادية نفسها تفقد دلالتها بمجرد أن تزول هذان القيمتان اللتان تتعاليان على قيمتي الاقتصاد. فحتى المقابلة بين الاستعمال والتبادل في المستوى الاقتصادي فإنها ذات صلة بفني المائدة والسرير ومن ثم فهي بداية التعالي على الحيواني في الإنسان إلى جعله إنسانيا بما تضفيه عليهما من قيمة فنية جمالية في الغالب.
    ما اريد الكلام فيه اليوم هو هذا التحول من التمييز بين نوعي القيم إلى ردها إلى نوع وحيد هو القيمة الاقتصادية بمعنييها الاستعمالي والتبادلي والوقوف عند هذا الحد. وقد سبق لي منذ 1993 أن كتبت مقالا صدر في مجلة المستقبل العربي بتاريخ 1993 عدد 172 ص.97-119 رددت فيه على المرحوم سمير أمين على مقال له بعنوان البديل الشعبي الديموقراطي في الوطن العربي” وكان مداره رؤيته “الماركسية” للقيم وتحليل تاريخ الحضارة الإسلامية خاصة والحضارة الإنسانية عامة بها.
    رددت على هذا الرد إلى الاقتصادي بوصفه العامل الأساسي في فهم أحداث التاريخ الإنساني بنظرية البنيتين الشهيرة والمبتذلة. وكان ردي أن ماركس نفسه لا يقول بها في الحقيقة لأن ما لأجله تقع الثورات هو القيم المتعالية على القيم الاقتصادية بل هي ضد رد القيم عامة إلى الاقتصادية وذلك لأن ماركس لا يكتفي بهذا الكلام بل هو يرد أيضا على المعنى التعويضي لتوظيف الأديان عن فقدان القيم الفعلية التي تتحول إلى عالم وهمي لتحقيقها في اليوم الآخر.
    ومعنى ذلك أن ماركس نفسه يكاد يقول إن القيم الحقيقية هي التي يقول بها الدين لو لم يحوله موظفوه إلى تأسيس للتأجيل إلى يوم الدين أي ما يسميه وظيفة الافيون ولو تحققت مطالب الدين الآن وهنا لكانت عين ما تسعى إليه الثورة الماركسية. وإذن فما القيم بمعناها الاقتصادي عند ماركس إلا قيم أداتية وليست غائية. والقيم الغائية هي القيم التي تتمثل في سيادة الإنسان على ذاته بحيث لا تتحول إلى بضاعة تباع وتشترى من أجل لقمة العيش و”نكحة” الجنس في مجتمع مبني على الظلم والاستعباد والحرمان مما يسد حاجة المائدة والسرير. وهذا هو مآل المليون شاب وشابة العاطلين عن العمل في تونس ومثلهم ملايين في بلاد العرب بسبب ما أحاول فهم آليات وتفكيكها لعل الحسم في الانتخابات لا يبقى خاضعا لهذا الخلط بين القيم.
    لم يكن قصدي مناكفة المرحوم بل كان القصد بيان ما يعاني منه الماركسيون العرب من تبسيط جعلهم يخلطون بين الحرب على توظيف الدين وبين الدين وبين القيم المادية التي هي أدوات والقيم الروحية التي هي الغايات ومن ثم فهو أبعد ما يكون عن فهم الماركسية وأهم تناقض فيها لأنها بدلا من اعتبار التحليل الاقتصادي للتاريخ هو بيان ما تحول الأداة دون الغاية جعلوها هي الغاية. وطبعا لا يوجد إنسان عاقل مستعد ليموت من أجل قيمة اقتصادية إذا لم يكن ذلك من أجل غاية هي دورها في منع تحول القيم الأسمى إلى قيم أدنى. وحينئذ لا يكون جعل الملكية عامة بيد النخب الحاكمة تحريرا بل هو إطلاق للاستبداد وهو الذي حصل في كل الانظمة التي تدعي تحقيق العدل الاجتماعي لأنها صارت أكثر ظلما من الأنظمة الرأسمالية إذ هي ضاعفت من هم في وضع تحويل كل شيء إلى قيم استعمالية وتبادلية من أجل حاجات المائدة والسرير بسبب تعميم الفقر وتسلط ممثلي السلطة واستعمالها للسيطرة مع تحول الكنسية إلى الحزبية وتحول الوصاية إلى سلطة ليس باسم حق ديني بل باسم الحق الأيديولوجي. وما ورثته الأنظمة العربية هو إما الفاشية اليمينية الغربية في الأنظمة القومية العربية (مثل البعث والناصرية) أو القومية الوطنية (مثل بورقيبة) ثم أضيف إليها تزيين اشتراكي وهمي جعل موظفي الحزب الحاكم ومافيته والإدارة السياسية والنقابية تصبح أشد عنفا وظلامية من السلط الدينية في القرون الوسطى ويسمون ذلك الدولة الحاضنة التي قتلت كل الشروط المشجعة على الإنتاج والاعتماد على النفس في المجتمع الاهلي. أما بقية المحميات العربية ذات الثورة البترولية فهي أتعس لأن العراق والجزائر وليبيا والسعودية والكويت والإمارات وقطر كلها بلاد ريعية لا تنتج شيئا وهي تعيش من تصدير ثرواتها الطبيعية واستيراد ما يسد حاجات المائدة والسرير وفنيهما. وطبعا لا يبقى من ذلك كله للشعب إلى فضلات الموائد فيتحقق ما سماه ابن خلدون بالترف الذي يقضي على الحضارة وهو دائما تصاحب بين الثراء الفاحش دون عمل والفقر المدقع مع بطالة واستعداد لبيع أي شيء فيزول الفرق بين القيم الأداتية (نوعيها الاقتصاديين) والقيم الغائية (نوعيها الخلقيين أي الحرية ا لكرامة).
    والسؤال الآن هو كيف يحصل هذا التوحيد بين نوعي القيم المضاعفين: كيف ترد القيم الخلقية التي تتعلق بالحرية والكرامة مقومي سيادة الذات على كيانها العضوي والروحي إلى القيم الاقتصادية التي تتعلق بالاستعمال والتبادل فيصبح كل شيء قابلا للتصرف يباع ويشترى ومنه خاصة في حالتنا الراهنة حق الانتخاب الذي صار بضاعة ككل بضاعة له سوق لم تقتصر على التصرف في حق الانتخاب بل وكذلك في إرادة النواب الذين صاروا هم بدورهم بضاعة تباع وتشترى في المجلس وكان مؤسس هذه الظاهرة رئيس الدولة السابق الذي يزعمون أنه كان رجل دولة وديموقراطي وتركنا على “المحجة البيضاء”.
    صحيح أن الظاهرة ليست خاصة بنا. لكنها في البلاد الديموقراطية تكاد تكون مقتصرة على الطبقة الحاكمة ولوبياتها ولها حروز تمكن من المحافظة على سلامة الأنظمة ولا تؤدي إلى الفوضى التي نراها في بلادنا إذ إن أقصى ما وصلت إليه الظاهرة هي ما نراه في أمريكا لكن الثقافة الديموقراطية ونظام تعادل السلط وتقاسهما لمهام الحكم وحرية الصحافة وحرية الرأي وتقارب قوة الحزبين كل ذلك يقلل من الخلط بين القيم ويمكن من المحافظة على الحرية والكرامة وسيادة المواطن.
    الانقلاب الذي يرد القيمتين الخلقيتين إلى القيمتين الاقتصاديتين فيجل كل شيء بضاعة أو ملكية قابلة للتصرف هو ما حاولت شرحه بنظرية الرمزين الأكثر كلية في الجماعات البشرية:
  6. رمز الفعل أو العملة وكيف تنتقل من كونها أداة تبادل إلى سلطان على المتبادلين وذلك هو ما يقبل التسمية بربا الأموال والأفعال
  7. فعل الرمز أو الكلمة وكيف تنتقل من كونها أداة تواصل إلى سلطان على المتواصلين وذلك هو ما يقبل التسمية بربا المعاني والأقوال.
    وهما أهم داءين اعتبرهما القرآن سر كل الشرور الموجودة في الحياة الجماعية. وقد رمز إليهما بدين العجل أي بسلطان معدنه (الذهب المسروق من المصريين) وبسلطان خواره (تحريف الكلم عن مواضعه). وقلما فهم علماء الملة العلاقة بين هذين الانقلابين من دور اداة التبادل إلى أداة السلطان على المتبادلين وأداة التواصل وأداة السلطان على المتواصلين. والأول هو اساس الوصاية السياسة الفعلية والثاني هو أداة الوساطة الروحية الدينية الفعلية. وسورة آل عمران تعتبر الحلف بين الوسطاء (العلماء الدين الذين يحرفون قيم الديني والروحي) والأوصياء (الامراء الذين يحرفون قيم السياسي والمادي) علة كل الشرور في ا لجماعات. وهي التي تؤدي إلى كذبة تأليه عيسى (آل عمران 79) وما يترتب عليها من وساطة كنسية في التربية ووصاية سياسية في الحكم. ومن ثم ففي كل التاريخ الإنساني لا يكون قلب رمز الفعل أو العملة من أداة تبادل إلى أداة سلطان على المتبادلين وقلب فعل الرمز من أداة تواصل إلى أداة سلطان على المتواصلين من دون تحريف ديني يحدث وسطاء بين الإنسان وربه وأوصياء بين الإنسان وشأنه فتكون الأنظمة الثيوقراطية أساسها دين العجل ومثلها الانظمة الأنثروبوقراطية أي التي هي ثيوقراطية معلمنة وأفضل نماذجها ما يظن ثورة على الثيوقراطيا أي الماركسية التي هي في الحقيقة انثروبوقراطيا عوض فيها الإنسان الله وعوض فيها الحزب الكنيسة وعوض فيها الحكم بالحق الإلهي الحق بالحق الأيديولوجي باسم الطبقة العمالية.
    لكن في أنظمة العرب بعضها ما يزال يتستر باسم الله وبعضها بدأ يتستر باسم الإنسان. لكن ذلك كله كذب في كذب لأن الاول يحكم باسم مافية القبائل والثاني باسم مافية العسكر وكلاهما يحكم باسم مافية محلية تابعة لمافية دولية. وتجارة السيادة البدنية والروحية هي أداة انتخاب من يريدهم “المسؤول الكبير” لتعيين الغوافير في حكم الشعوب التي لم تفهم بعد شروط التحرر والتحرير.
    انتهى الفصل والبحث كله وهو مؤلف من ستة فصول.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي