لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالقوى المتصارعة معادلتها الاستراتيجية في قلب دار الاسلام
الفصل الأول
دون أن أنفي الأصل الذاتي لحركة الجهاد السنية المتوجهة لحماية الأمة ضد العدوان الخارجي وحركة الثأر من المتوجهة للانتقام من السنة، كتبت ذات مرة أن تحولهما إلى أداة بيد غيرهما هي التي جعلتهما تنتقلان من هذه المهمة المعلومة من تاريخهما إلى ما صارتا عليه في العصر الحديث.
ولا أنوي الكلام على تاريخ الحركتين فهو معلوم على الأقل لمن لهم دراية بتاريخ الحركتين ولعل الرمز هو العلاقة مع الصليبين ومغول الشرق (اسقاط الخلافة في منتصف القرن السابع) ومغول الغرب (أمريكا خلال غزو العراق وأفغانستان) وما بينهما في مساندة أصحاب حرب الاسترداد ضد الخلافة العثمانية.
ما يعنيني هو انقلاب الدور الحديث عندما وظفت الحركتان ووظفهما الخميني وابن لادن. ذلك أن الحركتين صارتا أداتين في يد أحد القطبين ضد الثاني في دار الإسلام وكان ذلك في البداية القطب الموظف لهما هو القطب الغربي ضد الاتحاد السوفياتي: ابن لادن في افغانستان والخميني في إيران.
وكانت فرضيتي في المقال الذي كتبته في كوالالمبور تعتمد على أن القطب الغربي أدرك أن الشاه لم يعد قادرا على منع سقوط إيران تحت السيطرة السوفياتية بحركات يسارية إيرانية كانت هي المسيطرة على معارضته والمهددة لسلطانه: الخميني لم يؤت به ضد الشاه وإنما ضد هذا المد اليساري وقد صفته حركته.
وما كانت لتأتي به طائرة بأمر من جنيسكار داستان إيمانا بثورة إسلامية كما يزعمون بل إيمانا باستحالة منع السوفيات من السيطرة على إيران بأبنائها من اليساريين والشيوعيين من دون التصدي لهم بكذبة الثورة الإسلامية في إيران والتي هي كما سنرى من جنس كذبة الجهاد في افغانستان.
وعلي أن أشرح التناقض بين قولي إن للحركتين أصلا ذاتيا في حضارتنا -الجهاد لحماية الامة من العدو الخارجي والتحالف مع العدو الخارجي للانتقام من العرب باسم الثأر للحسين منذ بداية التاريخ الإسلامي-وقولي إنهما قد تحولتا إلى أداتين يوظفهما العدو ضد عدوه ولا يعنيه أصلهما.
وكل من يغفل عن هذين المسارين للحركتين لن يفهم أمرين بينين للعين المجردة ولا حاجة لذكاء استراتيجي لفهمهما: كيف نفهم أن تتحالف إيران مع أمريكا في العراق (الحشد بمظلة جوية أمريكية) وفي سوريا مع روسيا (المليشيات الشيعية بمظلة جوية روسية) وحرب داعش على حركات المقاومة التي تمثل الثورة؟
وقد يظن ساسة الحركات الشيعية أنهم دهاة وأنهم استطاعوا الجمع بين ما يبدو لهم دالا على عبقرية استراتيجية تخادع الغرب والشرق في آن. لكني أعتقد أنهم لا يقلون سذاجة عن ساسة الحركات الجهادية. فليس الغرب بالغافل بحيث يحصد لغيره: كلتاهما لازالتا أداتين ولا تختلف إيران عن كوريا الشمالية.
وقبل بيان ذلك فلأشرح علة تحول حركة الجهاد الإسلامي هذا التحول المريع الذي جعلها أداة مرتين: لإيران ولأمريكا وروسيا تبعا لتوهم إيران أنها تستغل أمريكا وروسيا لاسترداد امبراطورية فارس باستعمال غباء النخب العربية التي تتصورها عدوة للغرب وإسرائيل وتقاومهما من أجل الإسلام.
وما يذهلني حقا هو أن من يدعون القومية من العرب يقنعهم كلام القوميين الفرس بأن من شروط مقاومة أمريكا وإسرائيل التنازل على جل ارض العرب لإيران حتى يحرروا فلسطين. يعني الوعد بتحرير فلسطين كاف للتنازل على الهلال كله ومعه اليمن والخليج (وتلك نتيجة حتمية بعدهما):هل يوجد أغبى من هذا؟
وما لم أستطع فهمه حقا هو كيف يمكن أن أعتبر ذلك مختلفا عمن يتوهم الحلف مع إسرائيل التي لها نفس الغاية: كلاهما عندي يسعى إلى نفس الهدف: استرداد ما أفقده إياهم الإسلام أعني امبراطورية كسرى وامبراطورية داود بإزالة سلطان مؤسسي دولته بداية (العرب) وحماتها غاية (الأتراك).
ولست غافلا عن أن قوميتين من قوميات أمة الإسلام مظلومتان منذ أن تبنى المسلمون فكرة الدولة القومية التي لم تكن من تقاليد الأمة: الأكراد والأمازيغ. وهما مظلومتان مرتين: ممن تبنى الدولة القومية دون الاعتراف بحقهما القومي ومن الاستعمار الذي جعلهما قنبلتين موقوتتين لتهديم أي كيان قومي.
فصارت القومية والطائفة أداتي التخريب الداخلي لمكونات الامة المتنوعة والتي لم تكن قادرة على تهديهم كيانها المتجاوز للصراع الطائفي والقومي. ثم أضاف العصر الحديث لهذين العاملين عاملا شبيها بصدام الحضارات الداخلي بين القائلين بالأصالة الزائفة والقائلين بالحداثة الأزيف.
واقصر تحليلي على الإسلام في الإقليم الذي يمثل قلب الأمة أعني ما يسمى بالشرق الأوسط ومنه الجناح المغربي لما يسمى بالوطن العربي والذي اقترحت الا يسمى باسم أحد أقوامه بل أن يسمى مثل كل المجموعات بجغرافيته: ولايات الوسط المتحدة (ملتقى القارات الثلاث وهي وسط بينها وضفة المتوسط).
فالتسمية بالجغرافيا تشرك فيها كل المجموعات الكبرى وهي محايدة ولا تخلق حساسية قومية أو عرقية أو طائفية لأن المكان هو الحيز الأعم لكونه يتعلق بشروط الحياة العضوية ويليه الزمان ويتعلق بشروط الحياة الثقافية والجامع هو المرجعية التي تضمن شروط البقاء والمصالح: حرية الإنسان وكرامته.
الآن: كيف صارت حركات الجهاد السنية أدوات مرتين: لما استغنت عنهم امريكا وأصبحوا عبئا على الأنظمة العربية التي استعملتهم بطلب من أمريكا سعوا إلى القضاء عليهم فاضطروا إلى ملجأ وكانت إيران بحاجة إليهم حتى تحقق بأيديهم الغبية ما لا تستطيع الجمع بينه وحاجتها للحلف مع الغرب ضد السنة.
قدمت لهم إيران الملجأ والممر إلى أرض العرب التي كانت تنوي غزوها وسلحتهم ماديا وخاصة استراتيجيا بصورة تبدو لهم ممثلة للبطولة وهي في الحقيقة ممثلة لخطة تشويه السنة في العالم كله بحيث إن العالم كله يعتبر إيران ممثلة للحضارة والسنة ممثلة للهمجية ومحيية للخوف من الإسلام السني عامة.
وبهذا المعنى فإن من ضيع ثورة الشباب السوري الاخيرة ومقاومة الشباب العراقي قبلها ليس الطائفية الشيعية فسحب بل خاصة الهمجية القاعدية والتي بلغت الذروة مع داعش: كلما حرر الجيش الحر إقليما في سوريا احتلته مليشيات داعش ثم تسلمه لاحقا إلى مليشيات بشار: لا يدرون أنهم أدوات إيران.
وقد فهمت من أحد الإيرانيين ومحاولته تصويري كما يرونني بأن عدوا لإيران دون أن يعلموا أن عداوتي ليست لإيران شعبها وحضارتها بل لداعشها التي هي نظام الملالي والتي لا تختلف في شيء عن داعشنا التي هي نظام القاعدة ومخرجاتها المتعددة بل عداوتي لهذه أكثر لأنها أداة الأداة.
وإذا كانت هذه العلاقة تطورا لما نسميه عادة الفتنة الكبرى حيث اجتمع على بناء دولة الإسلام السنية الباطنية والخارجين عليهم (الخوارج) وعملوا ما استطاعوا لجعل الأمة تعيش في حالة الطوارئ مدة أربعة عشر قرنا لحاجتها إلى تقديم الأمن على الحرية فإن شيئا مماثلا أضيف لها في العصر الحديث.
كانت الفتنة الكبرى حول المقابلة بين الاختيار (السنة) والوصية (الشيعة) أساسا لشرعية الحكم في دولة الإسلام وبين الحرية الروحية (السنة) والوساطة الروحية (الشيعة) اساسا لشرعية الحكم في المعرفة الإسلامية لكن الصراع والوصية والوساطة على الاختيار والحرية جعل الامة كسيحة سياسيا وفكريا.
ذلك هو حصاد الفتنة الكبرى حول السياسي والفكري وقد أعادت الخمينية كل هذا الحصاد من جديد. لكن حصاد فتنة جديدة أسميها فتنة صغرى وهي ناتجة عن الابنلادنية وهي كذلك حول الحكم والفكر: فالحكم جعلوه كما تتصوره داعش والفكر كما يتصوره غلاة النصيين. فاجتمع على الأمة مرضان مكسحان.
حصاد الفتنة الكبرى بحيل الباطنية التي تعتمد الإرهاب المتذاكي وحصاد الفتنة الصغرى التي تعتمد الإرهاب المتغابي. فاجتمعوا على الثورة التي اراد الشباب بها اخراج الأمة من حالة الطوارئ واستئناف دورها التاريخي بالحريتين الروحية (لا وساطة بين الفرد وربه) والسياسية (لا وصاية على الأمة).
فأعداء الثورة من مليشيات السيف هم من حصاد الفتنة الكبرى (تشيع وباطنية وتصوف) ومن حصاد الفتنة الصغرى (تسنن وظاهرية نصية وعلمانية). وبهذا نفهم اجتماع النقيضين في محاربي الثورة التي تريد استئناف دور الإسلام في العالم. وهم جميعا أدوات لخطة حرب على من أنشأ دولة الإسلام ومن حماها.