القوى المتصارعة، معادلتها الاستراتيجية في قلب دار الاسلام – الفصل الخامس

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله القوى المتصارعة معادلتها الاستراتيجية في قلب دار الاسلام

وصلنا الآن إلى الفصل الاخير من هذه المحاولة-وهي بديل مما كان ينتظر مني الكلام فيه بعد لقاء السيجا في جامعة زعيم بإسطنبول حول “آفاق التغيير السياسي والاجتماعي في الشرق الاوسط وشمال إفريقيا من المنظور الجيوسياسي” الموضوع الذي لست مخولا للكلام فيه قبل منظميه.

فما أدرسه هنا لا علاقة له به بل هو محاولة نظرية لفهم الوضعية الاستراتيجية في الاقليم وأختمه بهذا الفصل حول مسألتين: دور الشعب المؤسس بداية والشعب الحامي غاية لدولة الإسلام وبصورة أدق لعلاقتها بالجزء الثاني الإقليم الأوروبي من الإقليم الاكبر الجامع بين الشرق والغرب الاوسطين.

لم تبق العولمة للأقاليم ما كان لها من استقلال شبه تام فيما بينها بسبب شروط النقل والتواصل في العصور الماضية وجعلها متفاعلة بسرعة البرق لما حصل من تقدم فيهما. لكن ذلك لم يزل مفهوم الاقاليم على الأقل في ما يتعلق بالتمايز الحضاري الذي صمد رغم العولمة: فالإقليمان يشتركان في المصادر.

فسواء تكلمنا على المصادر الدينية أو على المصادر الفلسفية كانت هذه المصادرة واحدة أو متقاربة تقاربا نتج عن التراكم والتخاصب الحضاري في ملتقى القارات الثلاث منذ بداية التاريخ القديم ومراحله المتقدمة على الأديان المنزلة الثلاثة وعلى الفلسفة اليونانية مع ما صاحب ذلك من صراع الورثة.

واليوم يجد الشرق الأوسط (والعرب أكثر من ثلاثة أرباعه نفوسا وارضهم أكثر من أرض البقية مرتين مساحة) والغرب الأوسط (أي أوروبا ونفوسها بعدد العرب ومساحتها دون ربع مساحة أرضنا) نفسيهما بين فكي كماشة الرشق الاقصى والغرب الاقصى الذين يمثلان وحدهما أكثر من نصف البشرية وجل قوتها المادية والفكرية.

وما لم يتعاون الشرق الاوسط والغرب الأوسط ويتكاملان فإن تبعيتهما ستزداد إلى حد التحول إلى مستعمرات أبدية خاصة وهو في الطريق الواصلة بين القطبين الجديدين أمريكا والصين اللذين يسيطران على الأرض بكل ما فيها وعلى السماء والفضاء حتى خارج المجرة التي ننتمي إليها ولن ننافسهم بدون تكامل.

لكن هذا المشكل ليس هنا محل علاجه سأكتفي بشرط الخوض فيه: فمؤسسوا دولة الإسلام بداية وحماتها غاية كلاهما أعجز من أن يجعل هذا التعاون ممكنا أولا ونديا ثانيا إذا تعامل مع الغرب الأوسط بمفرده ممثلا للشرق الأوسط. أما أذا تكاملا فإن ما قام به الغرب في نهاية القرون الوسطى يصبح ممتنعا.

كلنا يعلم أن الغرب الاوسط -قبل اكتشاف أمريكا وراس الرجاء الصالح-كان مضطرا للتعامل معنا سلما وحربا لضرورات اقتصادية وسياسية وبعد الاكتشاف حقق ما أغناه عنا فآل الأمر إلى ركود اقتصادي كبير وتخلف علمي وتقني وبفضل هذا التقدم استعمرونا حتى هدموا بعضهم البعض في الحربين الكبريين.

فخسروا مستعمراتهم وصاروا هم بدورهم مستعمرات لأمريكا وروسيا السوفياتية. لكنهم فهموا الحاجة إلى الحجم المناسب للعصر فاتحدوا بصورة تعطيهم متنفسا لكنها لم تمدهم بالحجم الكافي ولم تسمح لهم أمريكا بالوحدة التي من مجنس وحدتها (دول متحدة لا ولايات United States).

وطبعا فنحن أبعد من أوروبا من الوحدة التي تحقق الحجم المناسب للعصر: فالجامعة العربية خدعة تضعف العرب ولا تقويهم لأن أي محمية عربية حتى لو كان سكانها دون حي من تونس فضلا عن حي من القاهرة يمكن أن يوقف إمكانية العمل العربي المشترك لأنها جامعة دول وتخضع لشرط الإجماع.

وبذلك فعلى الثورة أن تقطع خطوتين قبل الكلام على ندية التعامل بين الشرق والغرب الأوسطين: لا بد أولا من تحقيق تكامل عربي ثم تكامل عربي تركي. ويمكن أن نطمح في تكامل عربي تركي كردي أمازيغي ولم لا أيراني إذا تخلصوا من عقدة الانتقام من العرب والإسلام.

أما إسرائيل فلا كلام عليها ليس لأن الإقليم يرفضها بل لأنها لا تريد أن تندمج فيه هي تريد أن تستعمره. وتلك علة سعيها للاستفراد بالسلاح النووي وبالعلاقة مع الغرب وفي ذلك يساعدها الاغبياء الذين لا يميزون بين الغرب الأوسط والغرب الاقصى: التخلص من الاستعمار الأمريكي هو الأعسر.

لكن الأعسر على الاطلاق هو التكامل العربي. فقد شاركت في التقريرين الاخيرين للإسكوا بوصفها من لجنة التحرير المضيقة وتبين لي أن الانظمة العربية بنوعيها القبلي الذي يدعي الإسلام والأصالة والعسكري الذي يدعي القومية والحداثة آخر همهم التكامل لأن مشكل السيادة وشروطها ليس مطروحا عندهم.

كلهم كانوا راضين بالحماية الأمريكية والسوفياتية بعد الحرب الثانية وكلهم اليوم راضون بحماية ذراعيهما إيران وإسرائيل بحيث إن عرب المشرق في وضع أدنى مما كانوا عليه وقت الانتداب وغرب المغرب في وضع أدنى مما كانوا عليه في عهد الاستعمار تبعية اقتصادية وثقافية وطبعا سياسية: لا سيادة.

لم يضحكني شيء أكثر من تفاخر بعض الخليجيين على بعضهم بالمساحة كأن يقولوا إن قطر صغيرة مساحة وهم ليسوا أكثر سيادة منها رغم المساحة. كل أقطار العرب من كبر حجم ارضه ومن صغر ومن كثرت نفوسه أو قلت محميات والدليل وجود القواعد العسكرية التي لم تأت للسياحة.

ولأول مرة في تاريخ البشرية صار المستعمرون يمولون استعمارهم بل ويتنافسون في هذا التمويل لكأن بلدانهم صارت فنادق تتنافس على جلب الزبائن.

ألم يقل ترومب إن الكثر من بلاد العرب مستعدون لتمويل بدائل عن القواعد الموجود في قطر؟

وهل ما تبنيه الإمارات هو لجيشها أم لجيش إسرائيل والمرتزقة؟

كانت أرض العرب قبل الإسلام محتلة من قوتين فارسية (المناذرة) وبيزنطية (الغساسنة) مع بعض القبائل التي حافظت على بداوتها مثل “الصعاليك” لكنها لم تكن ذات استقلال روحي لأن بعضها تهود أو تمسح أو تمجس أو توثن ولولا الإسلام لكان مآلهم كالأعراب الذين يذمهم ابن خلدون بعد القرآن.

وهذا المثال هو الذي يجعلني لا أيس من العرب: فقد تحيا فيهم قوة الطموح التاريخي ليكونوا في مستوى المؤسسين لدورهم التاريخي الكوبي بفضل الرسالة التي ما تزال حية في قلوب شبابهم رغم ما حل بها من نكبات بسب جمود شيوخهم وضحالة فكرهم وحصرهم الدين في قشور العبادات ونفاق الخطابات.

وكم يؤلمني سماع هؤلاء المنافقين الذين يتنكرون لمحاولات الأتراك العودة إلى هويتهم الحضارية بدلا من تشجيعها بدعوى أن تركيا في الخمر والاختلاط وينسون أن ما فيها في العلن عندهم منه فيما وراء الاسوار ما هو أبشع منه وأكثر بعدا عن الإسلام: فمدن الخمارات والموبقات ليست تركية.

ولست بحاجة للدفاع عن تركيا فأهلها أولى مني بذلك بل إن الأتراك أدنى حاجة للعرب من العرب للأتراك: ولولا توجهها إلى استعادة هويتها لرضي عنه عتاة معاداة الإسلام في اوروبا وليسر ذلك دخولها إلى الوحدة الاوروبية. وقد يحصل ذلك إذا بقينا نحن العرب فيما نحن عليه من غباء وبلاء وهواء.

ذلك أن استفراد اسرائيل بمن يتصورونها حاميتهم ضد إيران واستفراد إيران بمن يتصورونها حاميتهم ضد إسرائيل سيجعل ارض العرب أرضا مستباحة يتقاسمهما الإيرانيون والإسرائيليون ولن يبقوا من احتموا بهم بل هم سيكلفون عليهم أمراء فرس ويهود كما كانوا في عهد المناذرة والغساسنة.

ولست أشك لحظة واحدة أنهم قد كلفوا بعد ولاة عليهم في الخفاء هم الآن برتبة مستشار في الظاهر وحاكم في الباطن وسيتم الإعلان عن ذلك عندما يتحقق الهدف، وإذا بقي العرب على هذه الحال فلن يطول الانتظار: ذلك أن الإحاطة بالخليج تكاد تتم من فوقه ومن تحته ومن كل جوانبه في عهد المراهقين.

فلا فرق عندي بين لاورنس العرب في بداية القرن الماضي وبلار في بداية القرن الحالي ومثله صهر ترومب وغيره من كلاب إسرائيل وإيران ولا حاجة لذكر الأسماء. والسؤال هو كيف بمثل هؤلاء أن تصان سيادة العرب وتحمى أرضهم وثروتها وتاريخهم وتراثه وحتى المرجعية المشتركة: الحمير يدعون إصلاح الإسلام.

والحمد لله أن تحرك الشباب بجنسيه ليوقف تردي الأوضاع العربية. ويظن الكثير من المغفلين أن الثورة المضادة قضت على الربيع العربي. لكن الحقيقة هي الفشل الذريع للثورة المضادة حتى حيث ظنوا أنها قد أفلحت أي مصر وسوريا وليبيا واليمن. فتعثر الانظمة وحماتهم وصمود الشباب دليل العكس تماما.

ولنا واثق ومؤمن ومتأكد عقلا ونقلا أن الثورة لن تهزم بل هي في طريق النصر المادي بعد أن حققت النصر الروحي: لا يوجد إلا قلة من النخب الفاسدة مثل الانظمة يعارضها أما الشعب فمؤمن بها والواقع يدفعه إليها دفعا في البلاد والفقيرة وفي البلاد التي اعجزتها أزمة البترول عن إسكاته بالرشوة.

لذلك فأنا متفائل: فنحن في مرحلة الحرب المادية. أما الحرب الرمزية فقد ربحناها. ويكفي دليلا أن الشعب الخليجي انتقل من مرحلة الرفض بالقلب إلى مرحلة الرفض باللسان. فإذا لم يسمعوه فيفعل ما فعلته أي ثورة مصداقا لمعنى قول الرسول: بعد القلب واللسان تأتي اليد. فليحذروا.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي