لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالقوى المتصارعة معادلتها الاستراتيجية في قلب دار الاسلام
عرضت حصاد الفتنتين الكبرى (بعد إحياء الخمينية لها) والصغرى (بعد إحياء الابنلادنية لها) من الداخل أي من منظور أفعال المحيين وما ترتبت عليها دون أن اتعرض لحصادهما من الخارج أي استعمالهما ضد القطب السوفيات إلا عرضا لأني لم أعلل إلى النقلة إلى استعمالهما ضد استئناف دور الإسلام.
ذلك أن هذا الاستعمال يبدو واضحا فيما يتعلق بالابنلادنية كما تعين في الداعشية. لكنه ليس واضحا فيما يتعلق بالخمينية: ما زالت تقدم نفسها على أنها تحارب الهيمنة الغربية وإسرائيل وقد انطلت حيلتا الخمينية على المرحوم عرفات بطعم اعطائه سفارة أمريكا وعلى الإخوان بتكريم قاتل السادات.
لم أر في حياتي سياسا يعتبر الكلام فعلا إلا بين العرب. ولولا الربيع العربي لظلت الشعوب العربية تعتقد أن حزب الله مقاوم وأن البعث السوري قومي وممانع وأن إيران تحارب الشيطان الأكبر وأنها ثورة إسلامية إلخ.. مما استعمله من يتصورون أنفسهم دهاة من ساسة الملالي لتوظيف من تصور نفسه خاصة.
ولا زلت أعتقد من أكثر من ثلاثة عقود أن نخب العرب التي تعيش على نبض بيروت هم سجناء الضاحية ودجل حزب الله وإيران وهم من العامة التي جعلتها هذه الدعاية تتوهم أنها من الخاصة وتحاول اقناع العرب بأن من يحتل مائة مرة ما تحتله إسرائيل صديق لهم وعدو لما يساعده بالحماية الجوية لتحقيق ذلك.
فضل الربيع العربي أنه أجبر إيران ومليشياتها للإعلان عن أجندتهم الخفية التي فضحت الأقوال بالأفعال فاضطروا للإعلان الصريح عنها ليس بالشعارات فحسب (ثارات الحسين والأعلام والإعلام) بل وكذلك بتفصيل الاستراتيجية (احتلال أربع عواصم عربية واعتبار بغداد عاصمة لإمبراطورية فارس).
طبعا سيقول الكثير إني بهذا مؤيد للحلف مع الغرب واسرائيل وينسى من يتهمني بذلك أن كلامي هذا ليس جديدا وما كنت لأعيده لولا ما اراه الآن من محاولات اعادة تعويم من يدعون الممانعة لعل الخداع ينطلي من جديد بعد أن فضحته ثورة الشباب وخاصة في سوريا واليمن. كلامي هذا سابق على الربيع.
قلته ردا على هيكل منذ أن كنت في ماليزيا لما كان يعتبر العرب مجبرين على الاختيار بين إيران وإسرائيل مثلما كان يقول إن العرب مجبرين على الاختيار بين السوفيات والأمريكان. وهو كما يعلم الجميع عميل غربي بداية وعميل شرقي غاية والحصيلة أن فكره يصب ضد استئناف الإسلام دوره.
همي هو بيان أن العرب لا خيار لهم إلا أن يكون الخيار الثالث: لا هم مع إيران ولا مع إسرائيل ولا هم مع السوفيات ولا مع الأمريكيين بل هم مع قيم الدين والعقل الكونية التي هي مضمون الثورتين الروحية والسياسية: تحرير الإنسان من الوساطة وتحريره من الوصاية لأنه مكلف ومسؤول فرض عين.
إذا كنت لا أرضى أن نكون مجبرين على الاختيار بين التبعية لأمريكا أو التبعية للسوفيات فمن باب أولى ألا أرضى بأن نكون مجبرين على التبعية لذيليهما ولأداتيهما رغم توهم من يتصورون أنفسهم دهاة الملالي أنهم يناطحون الكبار: ينسون أنهم في كل تاريخ الإسلام لم يكونوا إلا أداة أعدائه.
ولا أريد أن أذكر بهذا التاريخ فما أظن أحدا يجهله ويحق له أن يتكلم في معادلة الإقليم الاستراتيجية. لذلك فكلامي يتوجه لمن يتجاهله وليس لمن يجهله. فهذا التجاهل هو الذي يشككني في صدق النخب التي تحاول أقناع شعوب الإقليم بخرافة الممانعة التي فضها الربيع. وهذا وحده كاف ليجعله ثورة.
فبفضل فضح خدعة أدعياء الممانعة القومية وخدعة ادعياء الحداثة العربية بيّن أن معركتهم ليست للأمة بل عليها وأنهم بوعي مخادع يسهمون في الحرب على استئناف المسلمين تاريخهم الذي يجعلهم بمنطق العصر قادرين على تحقيق شرطي السيادة أي الحماية والرعاية الذاتيتين شرطي حرية الإنسان وكرامته.
فتبين أنهم حلفاء الأنظمة القبلية والعسكرية التي تنوب الاستعمار المباشر وتدير الاستعمار اللامباشر ومن ثمّ فما يسمى بالحداثيين العرب والممانعين لا يختلفون عن الأنظمة الوظيفية في دور توطيد التبعية للغرب ولذيلية في الإقليم: إيران وإسرائيل لتهديم روح الأمة من الداخل بأدعياء الانتساب إليها.
وأكاد أجزم أن إيران قد انتهى دورها الغربي وتلك علة لجوئها إلى بوتين: حققت المنتظر منها وينبغي أن تفقد كل ما توهمت أنها حققته تمهيدا لما يريد الغرب تكليف إسرائيل بعد أن أزاحت إيران بميليشياتها من يمكن أن يعوق إسرائيل في السيطرة على الإقليم. فتفكيكها أيسر من العراق وسوريا.
كل أعداء الربيع العربي في الإقليم هم أدوات الغرب والشرق لمنع الاستئناف الإسلامي: بعد سقوط السوفيات استراتيجيو الغرب أدركوا أن من يمكن أن يملأ الفراغ في العالم الثالث وخاصة في دار الإسلام هو العامل الجامع لما كان يعد محميات تحت سلطانه من الشعوب التي تصبو للتحرر والتحرير من الهيمنة.
ولست بالغر الذي قد يدعي أن المسلمين لهم من القوة المادية ما يمكن أن يخيف الغرب. لكن ما يخافه الغرب وإن لم يكن موجودا بالفعل في الحاضر فهو موجود بالفعل في عدم نسيانه للماضي منذ أربعة عشر قرن وفي عدم غفلته عن إمكان المستقبل بعد موت الفكر المضاد الذي كان يحاربه فكر الغرب الرأسمالي.
وكلنا يعلم أن ما يسيطر على كل حاضر هو ماضيه ومستقبله. ذلك أن كل استراتيجي يخطط للمستقبل بتقدير أثر الماضي في الحاضر لأن التوقع هو دائما تعيين الممكن الأرجح من الممكن عامة بالقياس إلى ما حدث في علاقات القوى المتجاورة مكانا وزمانا والمتنافسة على الثروة ماديا والتراث روحيا.
وماكنت لأتكلم في فن الاستراتيجيا لو لم أجد الوصلة بينه وبين جوهر الفكر الفلسفي الذي هو طلب بنية مجردة في التقدير الذهني تكون أداة لإدراك ما تفترض انه بينة قوانين الظاهرات التي يتقوم بها الوجود العيني إذا اعتبر كيانا ذا صيرورة قابلة للحصر في مثلها العليا شرطا لوجودها الفعلي.
لذلك فلا يمكن الكلام في الاستراتيجيا من دون هذه العلاقة بين البنى الرمزية أساسا التقدير الذهني والبنى الفعلية أساسا للوجود العيني والوصل بينهما ليس تطابقا بل هو تقاربيا: كلما اقتربت التقديرات الذهنية من التعيينات الفعلية كنا أقرب إلى الإدراك العلمي لموضوعنا دون وهم المطابقة.
المطابقة غير ممكنة لعلم الإنسان لأنها غاية لا تدرك بمقتضى شرطها المستحيل على الإنسان: الإحاطة. العلم متناه والوجود لا متناه المحددات. وهذا لا يكون لغير الله بالنسبة إلى المؤمنين وغير المؤمن بالله يؤمن باستحالته فلا يقول إلا بالصدفة ويبقى متحيرا في تعليل النظام المتنافي مع الصدفة.
وإذن فمن المفروض أن يكون غير المؤمن قائلا بالفاتاليسم أي أن ما يحدث بمقتضى ضرورة الصدفة التي هي ضرورة عمياء ليس لها غاية سابقة ومن ثم فهي خالية من النظام. ومن المفروض ألا يستدل الملحد بالعلم لان من شروطه القول بأن للأشياء قوانين منتظمة متنافية مع القول بالصدفة.
وقبل العودة إلى موضوعي اريد أن اختم هذا الاستطراد الفلسفي بما أجبت به أحد الطلبة النجباء سألني عن دلالة معارضتي للقول بالخصوصية الفلسفية وادعاء الكونية. وبصرف النظر عن كونه اعتبرها مميزة لما يسميه مشروعي بالمقابل مع مشروع الشيخ طه عبد الرحمن فإني اتبنى هذا الموقف قبل ظهوره.
فلست غبيا حتى لا أرى الفرق بين سيارة ألمانية وسيارة يابانية وسيارة فرنسية وسيارة أمريكية وربما “خردة” عربية. لكن قوانين الميكانيك واحدة. ما أتكلم عليه ليس الأساليب الثقافية التي تظهر في اختلاف السيارات مثلا بل الواحد الذي بمقتضاه يعمل محرك السيارة وعلاقته بقوانين الطبيعة من حوله.
وما قلته عن السيارة فهو للتقريب. لكنه يصح على كل ما هو علمي وفلسفي وديني إذا نظرنا فيما فيه من كلي وكوني وجردناه عما هو جزئي وخصوصي. هما متلازمان إن صح التعبير: التعين في الجزئي والخصوصي ما قد يخفي الكلي والكوني الذي هو موضوع المعرفة العلمية والفلسفية والدينية إذا كانت معرفة.
ولهذه العلة كنت خصما لإسلامية المعرفة حتى قبل أن يظهر القول بالخصوصية الفلسفية التي هي موقف ما بعد حداثي أعجب أن يدعيه من يدعي الانتساب إلى الإسلام: فالإسلام يتميز عما عداه من الأديان أنه “يدعي” الكونية ومخاطبة كل البشرية بل وكل الموجودات المكلفة وحتى غير المكلفة.
لا يمكن الجمع بين ما بعد الحداثة والإسلام: فالإسلام “يدعي” الكونية في الديني وفي معرفته كما تدعيها الفلسفة قبل انحراف ما بعد الحدثة الكونية في الوجودي وفي معرفته. والإسلام يتميز حتى على هذه الفلسفة بكونه يعتبر الديني ومعرفته مثل الفلسفي ومعرفته من مقومات الفطرة التي فطرنا عليها.
ولا أنفي وكذلك لست غافلا عن كون الفلسفة بعد هيجل انفصلت نهائيا عن العلم وأصبحت إيديولوجيا ومن ثم فما بعد الحداثة يحق لمفكريها أن يتوهموا أن كل شيء كما يقول نيتشة “سردية” فاعلة وذلك هو جوهر البراغماتية النظرية (لا أتكلم على العملية في السياسة): الكذب النافع أو القصة الفاعلة.
ولا أنفي ان ذلك يمن أن يفهم فهما موجبا بكونه غاية الكنطية التي تنفي أن يكون للإنسان علما بحقائق الأشياء في ذاتها. لكن هذا من التواضع الزائف. نعم ليس لنا علم محيط. لكن علمنا الحذر يميز بين الصدق والكذب رغم محدوديته. والدليل علمه بمحدوديته. فهي شهادة أمانة.