القوى المتصارعة، معادلتها الاستراتيجية في قلب دار الاسلام – الفصل الثالث

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله القوى المتصارعة معادلتها الاستراتيجية في قلب دار الاسلام

وصفت كلامي على العلاقة بين الخصوصية والكونية بالاستطراد الفلسفي في بحثي حول المعادلة الاستراتيجية لإقليمنا في اللحظة الراهنة بوصفه قلب دار الإسلام. لكنه ليس استطرادا في الحقيقة لأن المعادلة الاستراتيجية خصوصية لكن درسها كوني بمعنى أن درس الخصوصية ليس خصوصيا بل كوني.

لذلك وقبل أن أعود إلى المعادلة الاستراتيجية علي أن اختم بتفسير هذه المقابلة الناتجة عن عدم التمييز بين خصوصية الموضوع وكلية علمه. وهي إشكالية أرسطية لم يتجاوزها أحد قبل ابن خلدون في العمل وابن تيمية في النظر. فثورة ابن خلدون الحقيقة ليس جعل التاريخ فلسفيا بل جعل الفلسفة تاريخية.

فلأول مرة في تاريخ الفلسفة صار التاريخ فلسفيا بفضل جعل الكلي تاريخيا وليس ثابتا كما كان في فلسفة أرسطو أفلاطون: هو حصيلة تطور المعرفة الإنسانية بوصفها تراكمية نقدية لذاتها ومن ثم فالكلي أو المشترك الإنساني في المعرفة العقلية هو الفرضية الأساسية في العلم: التدرج نحو كلية القوانين.

ومن ثم فالمقابلة بين الكلي والجزئي ليست من نفس المستوى. والتمييز بين هذين المستويين هو ثورة ابن تيمية: فهو يؤكد أن المعرفة الكلية والضرورية لا توجد عقليا إلا في المقدرات الذهنية ودينيا إلا في المعقدات الإيمانية. لكنها في الوجود الخارجي جزئية دائما سواء كانت عقلية أو دينية.

والعلم الإنسان في الحالتين يجمع بين كلي المقدرات الذهنية (في المعرفة العقلية) وكلي المعقدات الدينية (في المعرفة الإيمانية) وجزئيهما فيكون في الأوليين كليا وكونيا ويكون في الثانيين جزئيا وعينيا. والكونية تخص القوانين المطلوبة أو صورة المعرفة والخصوصية تخص الموضوع أو مادة المعرفة.

ولهذا ضربت مثال السيارات في البلاد التي عرفت بصنع أفضل أنواعها: فهي كلها تعمل بقوانين كلية وتتعين في أساليب مختلفة. القوانين الكلية هي مطلوب العلم (الميكانيكا وشروط تلاؤمها مع موانع الحركة في المكان: الآيروديناميك) الأساليب خصوصيات ثقافية يمكن درسها وهو أيضا كلي.

في حالتنا: القوانين الاستراتيجية كلية لكنها الوضعيات الاستراتيجية جزئية خصوصية. ومن ثم فعلمها كلي وكوني رغم أن موضوعها جزئي وخصوصي. ولما كان الكلي هو بدوره تاريخيا فتاريخه كوني وكلي. ومعنى ذلك أن كل من يريد أن يعود إلى حال العلم الوسيط بدعوى الخصوصية الحضارية غبي.

لا أحد اليوم يصل به السخف إلى رفض الطب الحالي والتداوي بطب ابن سينا. ولا أحد اليوم يرفض علم الفلك الحالي ويرجع لخرافات ابن رشد في الفلك. إلخ إلخ.. وهذا يصح أيضا على الكلام في علم الاخلاق وفي علم تنظيم المجتمع والحياة السياسية والمدنية وحتى الروحية. تلك هي شروط الاستئناف.

والحصيلة أني سأتكل في الوضعية الاستراتيجية التي هي خصوصية كلاما ليس خصوصيا بل هو كلي بمعنى أنه يبحث في القوانين الكلية التي تحكم الاستراتيجية حتى وإن كانت الوضعية خصوصية بما هي موضوع البحث: تاريخ العلاقة السلمية والحربية (وجها السياسة الداخلية) في كل مجموعة وبين مجموعات الإقليم.

والإقليم يتحدد بما بين أحياز مكوناته دولا وجماعات متنافسة عليها: أي

  1. الجغرافيا ببعديها

  2. الثروة السبيل إليها

  3. والتاريخ ببعديه

  4. التراث والسبيل إليه

  5. وما يجعل المرجعيات الروحية فيه متواصلة ومتفاصلة تواصلا وتفاصلا يحيل إلى أصل واحد سواء كان نقليا أو عقليا.

تلك هي مقومات الإقليم.

وأهم خاصية لإقليمنا أنه يمثل ملتقى القارات القديمة الثلاث: افريقيا وآسيا وأوروبا وهو من ثم بؤرة كل ما حدد التاريخ القديم والوسيط والحديث سواء في مستوى الأديان وثمراتها أو الفلسفات وثمراتها دون أن أنفي أني يكون لطرفيه اي الشرق الأقصى والغرب الأقصى دور يبقى ثانويا في راهن التاريخ.

الغرب الأقصى أي الأمريكتان تم القضاء على شعوبهما ماديا واستقر بديلا منها شعوب أوروبية الثقافة بالأساس والشرق الأقصى حتى وإن استأنف دوره فهو قد تغرب في الكثير من شروط حياته المادية والسياسية وحتى الاجتماعية رغم أن مستقبل دوره لا يزال مجهولا.

ومثله الغرب الأقصى (الولايات المتحدة) الذي صار بديلا من الغرب الاقصى الذي أفنوه: لم يعد أوروبيا بل هو مستعمر لأوروبا استعماره لنا. ومن ثم فالوضعية الاستراتيجية التي أتكلم عليها هي وضعية إقليمنا والاقليم الأوروبي او الغرب الأوسط: ما يحيط بالأبيض المتوسط وملتقى القارات القديمة.

هما في الحقيقة أقليم استراتيجي واحد رغم ما بقي لدى اليمين الأوروبي وكاريكاتور التأصيل والتحديث العربيين من مواقف لا تعبر عن حقيقة المعادلة الاستراتيجية لهذا الإقليم الواحد بين فكي الكماشة التي يمثلها الغرب الاقصى (أمريكتان) والشرق الاقصى (الصين والهند): كلانا بطن رخو تابع وضعيف.

ورغم أنه من العسير الفصل بين جناحي الإقليم أي الشرق الأوسط (اقليمنا) والغرب الأوسط (أوروبا) بل وحتى الفصل بينهما وبين الشرق ألأقصى والغرب الاقصى في زمن العولمة فإن على الأقل منجيها مضطر للكلام على الشرق الأوسط (أي مشرقنا ومغربنا وفيه إيران وتركيا) لأن مشكلي حاليا هو وضع الربيع.

ولا يمكن فهم ما يتميز به الربيع من دون الانتباه إلى ظاهرتين ثوريتين إهمالهما هو سر عدم فهم ما يجعل الشرق الادنى والغرب الادنى إقليما واحدا في أعمق أعماقه ماضيا وحاضرا وخاصة مستقبلا: فهو يمثل الصلح بين الحضارتين العربية الإسلامية والأوربية المسيحية رغم ابتعاديهما عن أصليهما.

وهو لكونه فعل الشباب بجنسيه يمثل إرهاصات لظاهرة التغير لا متناهي الصغر الذي يحكم التاريخ المديد: ضفتا الابيض المتوسط بصدد الاتحاد حضاريا. أكاد أجزم أنه بعد اقل من قرن ستوجد لغة تواصل مشتركة بين الضفتين عمادهما الاساسي ثلاثة أصول لاتيني وعربي وجرماني يتكلمها الجميع واختلاط عرقي.

وحتى الاختلافات الدينية العقدية وخاصة الممارسات والشعائر ستتقارب إلى حد عجيب بدأنا نرى إرهاصاته لدى شباب الأحياء الشعبية في أوروبا بفضل ظاهرتين هما الفنون الشعبية والممارسات الرياضية وما يتصل بهما من شعائر شبه دينية يتمازج فيها جمع الاعراق التي تعيش في اوروبا وفي شمال أفريقيا.

ولا يسألني أحد عن موقفي من الظاهرة. فهي ظاهرة لا مرد لها أيا كان الموقف الذي يقفه زيد أو عمرو. فحال التواصل بين البشر وزوال الحدود في الفضاء الافتراضي يحول دون منع هذه الظاهرة التي هي نوع من توحيد الحضارات وتجاوز ما بينها من صراع بخلاف راي القائلين بصدام الحضارات.

وفي الحقيقة لم يعد أحد يقول بها إذا ما استثنيا التطرفين اليميني واليساري في الغرب والتأصيلي والتحديثي في الشرق وكلاهما بصدد خسران المعركة التواصلية بين البشر. فالتزاوج بين الشعوب العضوي والثقافي ظاهرتان عالميتان غنيتان عما كان يحققها أي الغزو العسكري المباشر: تحدثان طوعا لا كرها.

وهذه الظاهرة تلغي نظرية صدام الحضارات وتلغي صدام الخصوصي والكوني. لأنها تحد من التنافي بين الحضارات ومن التنافي بين الخصوصيات الثقافية والكليات الطبيعية في كيان الإنسان. وسأختم هذا الفصل بالكلام على الكوني والخصوصي في الاستراتيجيا فيم يتمثلان بالقياس إلى علم الطبيعة.

وليكن مثالنا قانون جاذبية نيوتن وهو مثال مناسب لأن ما هو جاذبية في الطبيعة هو دافعية في الاستراتيجيا التي هي علم ما بين مطالب السياسية في الداخل والخارج لتحقيق شروط الحماية والرعاية في التنافس على الجغرافيا والثروة المادية وعلى التاريخ والثورة الروحية والمرجعيات التي تؤسسها.

فما هو الكلي في قانون الجاذبية هو الثابت الكوني مضروب في كتلة جرم 1 في كتلة جرم 2 مقسوم على مربع المسافة الفاصلة بينهما. وكل هذه المعاني متغيرات وهي كلية كبنية بين متغيرات تصبح خصوصية عندما نحدد قيم هذه المتغيرات: مثلا مقدار كتلة الأرض ومقدرا كتلة الشمس ومقدار المسافة بينهما.

ولما كنت أعرف الاستراتيجيا بأنها علم الدافعية وليس علم الجاذبية بين الأجرام السياسية للشعوب الدول فإن ستكون عكس قانون نيوتن: يوجد ثابت كوني يمكن تحديده ربما في الفصول الموالية مضروب في جرم دولة 1 مقسوم على جرم دولة 2 مضروب في الجذع التربيعي للمسافة الفاصلة بينهما.

وليكن مثالنا العلاقة بين تركيا وإيران حاليا: الثابت الكوني هو علاقة الإنسان بشروط قيامه التي هي الأحياز الخمسة وهو ثابت أي القسط من الأرض وثمرته والقسط من التاريخ وثمرته والمرجعية التي يختصمان عليها. وحينها يمكن تحديد مقدار ما يمكن ان يحصل بينهما من صراع في التاريخ.

لكني أقدم هذا المثال دون أن أكون قد درست فاعليته بصورة تطبيقية. لذلك فإني لا أقدمه باعتباره حقيقة علمية بل هو فرضية مؤقتة قابلة للتصديق والتكذيب بدراسة تاريخ العلاقة بين كيانين سياسيين متحادين وبين كيانين سياسيين غير متحادين. وغالبا ما يحالف كل من المتحادين المتحاد مع المتحاد معه.

والتاريخ في هذا المثال يثبت أن فارس منذ أن تأسست الدولة العثمانية حالفت أجوارها الأوروبيين والدولة العثمانية حالفت أجوارها العرب. وصادف في هذه الحالة تحقق الشرط الثاني الذي حان وقت ذكره. فالتحاد ليس جغرافيا فحسب بل هو مرجعي: السنة العثمانية السنة العربية مثلا.

فلما فتحت الخلافة القسطنطينية وهي مركز ديني مهم في المسيحية اراد البابا الرد بنفس المقدار فكلف الاسبان والبرتغاليين باحتلال المدينة ومكة. فتحالفوا مع دولة فارس ضد الخلافة التي اضطرت للحرب مع فارس ونفس الشيء تحالفوا مع المغول ومع الصليبيين بما يؤيد فرضيتنا في الدافعية السياسية.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي