القوى السياسية، تصنيفها بالمرجعيات؟ أم بالغايات؟

ه

حاولت حصر أصناف القوى السياسية أو الأحزاب بمعيار الغايات لتخليصها من تصنيفها بالمرجعيات مع استعمال معيار شكلي نتج عن صدفة تاريخية هي جلوس النواب في برلمان الثورة الفرنسية. لكني لم أبين القصد البعيد لأن ما ورد في كلامي كان شبه مقصور على رفض التعدد اللامعقول للأحزاب في تونس وخاصة بعد الثورة.
أريد اليوم أن استكمل هذه المحاولة لبيان القصد البعيد ويهم خاصة الحركات الإسلامية التي جعلها غرقها في التصنيف بالمرجعية تضيع الغائية التي بقيت ضمنية ومتعددة بتعدد التأويلات المرجعية باختلاف الفرق الكلامية والمذاهب الفقهية.
وقصدي البعيد هو تحريرها من هذا الخطأ التاريخي الذي لا يمكن من دون تجاوزه التحول إلى قوة سياسية بالمعنى الحديث للكلمة فضلا عن الوزن الذي يصبح عظيما لأن الاختلافات الفرقية والمذهبية تصبح شبه تيارات في نفس القوة السياسية التي تتحدد بغاياتها وليس بتأويلاتها لنفس المرجعية.
سأبدأ أولا بالقول إن التحديد بالمرجعية ليس خاصا بالإسلاميين: فالذين يتكلمون على الوسطية والديموقراطية والحداثية واليسارية والقومية كلهم يتحددون بالمرجعيات العامة ويختلفون بتأويلاتها ومن ثم فهم غارقون في نفس المأزق الذي غرقت فيه الحركات الإسلامية. وتلك هي علة التعدد الزائف والذي هو عبث ناتج عن قصور نظري في فهم دلالة القوة السياسية.
وأكثر من ذلك فإنهم قد جعلوا الغايات مرجعيات لعدم التمييز بين المفهومات ما يعني أنها أصبحت لا تعني شيئا. فهي قد أصبحت من جنس من يخلط بين الدولة ونظامها السياسي أو بين الكيان (الدولة) وأدوات تحقيق وظائفه (النظام).
فالديموقراطية أداة ونظام حكم وليست مرجعية. فمرجعيتها هي طبيعة المشاركة في الحكم من منطلق تعريف الحرية السياسية. والوسطية منزلة في مرجعية وليست غاية ولا مرجعية كذلك. وهلم جرا من التصنيفات العبثية في الاحزاب التونسية.
هبني الآن حذفت صدفة التموقع في المجلس النيابي للثورة الفرنسية -يسار يمين-وذكرت الأصناف الخمسة التي ذكرتها في تصنيفي السابق الذي كان الهدف منه بيان عبث تجاوز هذا العدد خمسة:

  1. فعبارة اليمين لا معنى لها في ذاتها لا كمرجعية ولا كغاية للفعل السياسي بل المعنى الضمني لما يمثله موقف الجالسين يمنة في لا مجلس.
  2. واليسار نفس الملاحظة حول 1.
  3. ويسار اليمين لكن الجمع بين اللامعنيين صار ذا معنى لأنه يحدد علاقة بين المعنيين الضمنيين في الاولين لأن المعنى الذاتي هنا هو حاجة الطرفين أحدهما إلى الآخر لتحديد موقف مؤلف من الضميرين.
  4. ويمين اليسار نفس الملاحظة حول 3.
  5. والوسط هو الذي يتردد بين الأولين أو بين المؤلفين منهما بحسب الانتهاز في اتباع من يصل منهما إلى الحكم.
    فعندما أزيل الكلمتين يمين ويسار وأعوضهما المعنى الضمني للمواقف أكون عرفتها بالغاية فاعتبرت الأول مهتما بالشروط المشجعة لإنتاج الثروة مثل حرية الملكية وشرعية الربح إلخ…وطبيعية الفروق الطبقية التي تنسب إلى ثمرة العمل. والثاني عرفته بالعكس أي تشجيع التوزيع العادل للثروة مثل الحد من حلق الملكية والحد من الربح إلخ.. وعدم طبيعية الفروق الطبقية التي تنسب إلى استغلال السلطة.
    ثم اضطر الأول إلى أخذ شيء من الثاني ليس من أجل الحد من الصراع الاجتماعي فحسب بل لأن الانتاج يحتاج إلى الاستهلاك ومن ثم فلا بد من توسيع عدد المستهلكين بتوزيع للثروة يمكن من الموازنة بين العرض والطلب. واضطر الثاني إلى أخذ شيء من الاول ليس من أجل الاعتراف بحق الملكية وشرعية الربح والقبول بشيء من الفروق الطبقية الناتجة عن ثمرة العمل بل لأن التوزيع العادل يقتضي إيجاد ما سيوزع ومن ثم فلا بد من تشجيع دوافع الانتاج.
    فتبين أن الغاية لا يمكن أن تكون اقتصادية بحتة ولا اجتماعية بحته بل أكثر من ذلك تبين أن الاقتصادي بحد ذاته يقتضي موازنة دقيقة بين الانتاج والتوزيع ومن ثم بين اللامساواة والمساواة في آن بمعنى أن المساواة عمل خلقي وظيفته تعديل ظاهرة طبيعية أي إن البشر بخلاف وهم صاحب العقد الاجتماعي لا يولدون متساوين ولا أحرارا بل يصبحون متساوين وأحرارا بالتعديل الخلقي والقانوني الذي يتدارك ما ينتج عن الفروق الطبيعية بتعديلها الخلقي. والتعديل الخلقي هو بدوره يؤدي وظيفة طبيعية أسمى من الأولى: فالفروق تؤدي وظيفة طبيعية هي ما يترتب عليها من تنافس في تحقيق شروط البقاء وتعديلها الخلقي هو بدوره يؤدي وظيفة طبيعية أسمى وهي تحقيق شروط العيش المشترك السلمي لأن التفاوت المشط بين الطبقات يؤدي إلى الحرب الاهلية الدائمة بين الطبقات.
    وبهذا المعنى فالتعديلان أي أخذ الأول من الثاني البعد الاجتماعي وأخذ الثاني من الاول البعد الاقتصادي مسألة سياسية بامتياز بمعنى أنها العلاج الخلقي والطبيعي لشروط العيش المشترك السلمي في الجماعة أيا كانت بما تحققه من توازن بين الطبيعي والخلقي في حياة الإنسان: وهو ما يخرجه من التاريخ الطبيعي ويسمو به إلى التاريخ الروحي.
    بعد هذا الاستنتاج الذي يثبت أن ما حدث في القوى السياسية في الحضارة الغربية لم يكن من الصدف التي ليس لها اساس في طبيعة الأشياء بل هو تطور حتمي في تنظيم القوى السياسية التي يمكن أن تكون ذات قاعدة شعبية وازنة تستطيع أن تحكم وقاعدة شعبية وازنة تستطيع أن تعارض وكلتاهما تعترف بالأخرى لأنها صارت مثلها ولا تتميز عنها إلا بالدرجة وليس بالطبيعة: فكلتا القوتين تعترف بالحاجة إلى توازن بين الاقتصادي والاجتماعي لكن التمايز بينهما كمي وترتيبي بمعنى مقدار العاملين وأيهما المقدم. وبين أن الكم والترتيب ليسا ثابتين ومن ثم فالتداول يصبح مفهوما: إذا وقع ضيم للإنتاج يصبح أصحابه أصحاب الأغلبية في الجماعة ويكون أصحاب الاستهلاك هم المعارضة والعكس بالعكس مع عدم تجاهل حاجة كلا الفريقين أحدهما إلى الآخر ومن ثم فلا وجود لعداوة جذرية في التنافس السياسي لأنه ليس كيفيا بإطلاق بل هو في الحقيقة تنافس كمي ومتردد بين الصفين بتردد الازمة في الاستهلاك أو في الانتاج.
    وحتى تحد الدولة الحديثة في هذا التداول لمنعه من أن يتحول إلى أزمات حادة أوجدت وظائف تدخل الدولة في رعاية المؤسسات الاجتماعية وفي رعاية المؤسسات الانتاجية. ولهذه العلة اعتبرت الدولة الحديثة بخلاف تخريف صاحب الدولة المستحيلة وصديقة نافي الأخلاق عن الحداثة أكثر خلقية وأسمى من دولة الفقهاء التي هي كذبة لم توجد أصلا لأن الفقهاء كانوا دائما كما نراهم اليوم مجرد خدم عند المستبدين ومن شذ منهم عن ذلك كان نادرا ولا يتجاوز شذوذه بعض النكت الشعبية عن شجاعة في الاقوال لا تغير الأفعال.
    وآتي الآن إلى أمر ورد في مقالتي حول تصنيف الأحزاب ولا يمكن أن يقبل به لا الإسلامي ولا أضداده من الأحزاب التي تنتحل أسماء يزعمونها حداثية أعني اليساري (الجبهة في تونس الليبرالي والقومي. فقد اعتبرت القوة السياسية الإسلامية إذا كانت بحق معبرة عن رؤية الإسلام وحددت نفسها كقوة سياسية بالمعنى الحديث فإن الكلام على المرجعية عديم المعنى ولا يبين حقيقة أهدافها بل لا بد من تحديدها باعتبارها يمين اليسار بالمعنى الذي ذكرت حينها والآن:
  6. فهي بالمعنى المطلق وخاصة في عهد الرسول والصحابة كانت يسارا خالصا بمعنى أنها كانت مهتمة بتوزيع شروط الحياة وليست مهتمة بإنتاجها خاصة وهي لم تكن منتجة بل المنتج كان إما الطبيعة أو الشعوب التي فتحت أرضها ومن فيها من العبيد والخدم والثروات. ولم يكن التغير متعلقا بمصدر الثروة بل بتوزيعها ما يعني أن الجماعة التي يتعلق بها التوزيع توسعت فصارت الأمة ولم تبق القبيلة كما كان عليه الأمر في الجاهلية. وحتى يتحقق ذلك وضعت ابواب الميزانية أو الانفاق من بيت مال المسلمين بالمعنى المحدد في البقرة 177.
  7. لكن بمجرد أن أصبحت دولة مستقرة أصبحت أمام مشكل كبير هو أن هذا التوزيع الاشتراكي إن صح التعبير لثروة لم يقع إنتاجها فعليا بل هي إما انتاج الطبيعة أو ثمرة الفتح لم يعد ممكنا فأصبح في الحقيقة مقصورا على الحكام والحاميات واصبحت وظائف التوزيع الاشتراكي من جنس ما حدث في البلدان الشيوعية مقصورة على النمنكلاتورا وبقية الشعب تعيش على الكفاف.
    وكان لا بد من التفكير في تشجيع الانتاج بالطرق المتاحة. وهو أمر لم يصبح حاجة حقيقية إلا في العصور الحديثة ولم تكتشف الأمة سره إلا بعد أن غلبت على امرها لأن من تغلب عليها حقق ذلك بإنتاجه “الصناعي” الذي جعله أكثر سيطرة على الانتاج الطبيعي وعلى الغزو وتلك هي بداية الاستعمار الغربي وسر نجاحه في استعمار دار الإسلام كلها.
    ومن ثم فإذا كنا نريد أن نكون قوى سياسية تدعي المرجعية الإسلامية وحددناها بالأهداف وليس بالمرجعية لأن كل المسلمين يمكن أن يزعموا الإسلام هو الحل فلا بد من أن نحدد الهدفين اللذين تتحدد بهما أي قوة سياسية يمكن أن تكون لها قاعدة شعبية كافية للحكم أو للمعارضة الوازنتين دون أن يكون ذلك مصدرا للعداوة مع غيرها ودون أن يعير ذلك بأحكام المرجعية في بعدها الماورائي (كافر ملحد إلخ…).
    وهو ما يعني أنها ينبغي أن تكون بالغاية الأصلية الثابتة في نصوص الإسلام أعني عدل التوزيع وبالغاية المعدلة لها وهي تشجيع الإنتاج. فتكون بذلك كما عرفتها يمين اليسار بالمعنى الاصطلاحي الحديث أي إنها تقول بالعدل الاجتماعي وبشرطه أي الانتاج الاقتصادي الذي يحققه. ولما كان الامر متعلقا بمهمتي الإنسان في الدنيا أي التعمير والاستخلاف فلا حاجة حينئذ للمقابلات التي تتأسس على المرجعية بمعناها الذي تترتب عليه الأحكام الفقهية في صلتها بالأخرى. ولذلك فالبقرة 177 بدأت بأن نفت أن يكون الدين الحق متعلقا بالعبادات المشعرية مقدمة على الجمع بين الغايات العقدية التي تتأسس عليها العدالة الاجتماعية في الجماعة التي بنيت من أجل تحقيق شروط حياة البشرية التي يعرفها القرآن بالأخوة (النساء 1) وبالتعارف والمساواة (الحجرات 13). وهذا كاف ليتحرر الإسلاميون من الخلافات حول تأويل المرجعية الذي يترك للضمائر الفردية وليس للعمل السياسي ويكتفون بالغايات من السياسي في الرؤية القرآنية التي لا تعتبر الحكم جزءا من العقيدة بل هو كما عرفه ابن خلدون في كلامه على علم الكلام اجتهاد الجماعة لرعاية المصالح العامة.

يقوم على الموقع عاصم أشرف خضر مع مجموعة من طلاب الأستاذ ومتابعيه.
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي