لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالقضاء والقدر بين تحريف الجبرية وتعريف الحرية الفصل الرابع
نجمع اذن في الفصل الرابع بين ممثلي الإرادة (النخبة السياسية وهي تتداول على الحكم والمعارضة) وممثلي الوجود (النخبة الرؤيوية وهي عادة ممثلة للرؤية الدينية والرؤية الفلسفية) للنظر في علاقتهما بمسألة القضاء والقدر كما حددناهما علاقة بين فعلي الله والإنسان الحرين بتناسب. وأولى علامات فساد هذا التزاوج بين نوعي النخبة الممثلة للإرادة والممثلة للرؤية هي عدم صحة التمثيل بمعنى أن النخبة السياسية لا تمثل إرادة الأمة بحق وأن النخبة الرؤيوية لا تثمل رؤية الأمة بحق. وليس معنى التمثيل الحق التطابق او الوحدة النافيتين للتعدد الثري في وجهات النظر والمواقف. بل معناه ما وصفته بصدام الحضارات الداخلي بين كاريكاتورين من التأصيل والتحديث في الرؤى وفي الإرادة. فالساسة يخلطون بين التجديد الإصلاحي التهديم الساعي إلى استبدال تراث بتراث فيتنكر كلى الموقفين لتناغم أبعاد الزمان التاريخي للأمم الحية ومثلهم الرؤيويون وهم توابع لهم بعكس الواجب. وأقصد أن الرؤيويين خدم عند السياسيين الذين هم بدورهم خدم عند حماتهم ضد شعوبهم في جل بلاد العرب إما صراحة كما في الكثير منها أو بخداع يرتدي رداء مقاومة المستعمر في الأقوال والخضوع لخيارات في الأفعال وهو ما أثبتته التجربة وخاصة في البلاد التي أنظمتها أكثر كلاما على المقاومة والتصدي. وأقصد بعدم التناغم بين أبعاد الزمان التاريخي الحرب على الماضي حدثه وحديثه وعلى المستقبل حديثه وحدثه بحيث يكون الحاضر صدام حضارات بين النخب الحاكمة والنخب المعارضة فلا يجمعهم قاسم مشترك هو الواحد في المتعدد المتناغم وهو معنى المرجعية المشتركة التي يتبعها السياسي تبعية العمل للنظر. ويكفي أن أضرب مثالين يبرزان بكامل الدقة ظاهرة صدام الحضارات الداخلي وهو غير الخارجي. فالخارجي هو حرب الولايات المتحدة على كل الحضارات التي لم تصبح نسخة ممسوخة من نمط الحياة الامريكية ويسمون ذلك الدفاع عن حقوق الانسان كلما رأوا صمودا لحضارة مختلفة أمام قيم أمريكا المشوهة. صدام الحضارات الداخلي هو حرب هذه العقلية التي يستعملها من مكنهم الاستعمار من رقابنا ليفرضوا بقوة الدولة وأجهزتها ما تريده أمريكا من توابعها حتى يصبح ما تفرضه مطلبا لنخب هذه الشعوب يربونها ويحكمونها بها بحيث تستطيع بعض فاجرات تونس تغيير كل قيم الإسلام من اجل التبعية والذل القيميين. والحكام الذي هم خدم لا يستطيعون إلا تقديم الولاء لسادتهم تصورا أن الفترينة التي يزينون بها تبعيتهم هي الحداثة: والمثالان الأبرزان في ذلك قديما هما أتاتورك وبورقيبة وكل الأنظمة التي حكمت العرب والمثالان الأقربان هما طرطور السعودية والإمارات اللذين سيفلسان بلديهما قريبا دون فائدة. فشباب الخليج بجنسيه لا يقل حماسة من شباب بلاد الربيع للمطالبة بالحرية والكرامة وليس بشبائه منهما ترضي أمريكا بحيث يصبح الانتخاب في بلادهم تمثله الراقصات كما في مصر وأدنى الصحفيين مما نرى في مصر العسكرية وذباب الإمارات والسعودية. شباب الخليج المتعلم بجنسيه لن يقبل بهذه الخدع. وجميعنا يعلم أن طراطير العرب ممن يحاربون حضارتهم وشعوبهم لو لم يستقووا بحاميهم لكانت نفخة نفس الشباب قد جرفتهم في يوم واحد. لكن سيطرة المخابرات الاجنبية على أدوات عنف الدولة -الأمن والجيش-جعل الجزائر في تسعينات القرن الماضي ومصر وسوريا وليبيا حاليا تصبح مستعمرات شبه مباشرة. وكلنا يعلم أن كل الشعب في الاقليم من الماء إلى الماء يغلي وهو محكوم بالنار والحديد وبالمخابرات والسجون والتجويع والترويع اللذين وصلا حتى إلى بلاد النفط بعد أن حلبت من قبل الحامي الذي لم يعد يخفي أنه يطالب علنا بالجزية ويعير الانظمة بأنها “شادة في إشارة” من نظام ترومت وناتنياهو. وما تكالبهم على تركيا الحالية إلا لأنها تسفه دعويين: 1. أن العلمنة هي الطريق الوحيدة للنهوض وعلمنة تركيا أثبتت السقوط ومثلها تونس. 2. وأن استعادة الذات والتحرر من التبعية هي الطريق الوحيدة للنهوض السريع. فما تحقق في عقدين بفضل استعادة الذات لم تحققه 8 عقود بسبب فقدانها الذات. وما فشل فيه أتاتورك وهو من أبطال الحرب العالمية الأولى وما فشل فيه بورقيبة وهو من مثقفي الأجيال العربية الاولى لن ينجح في اميو الثورة المضادة الذي هم مجرد بيادق بيد بيادق وظفهم ناتن ياهيو ولوبيات إسرائيل في أمريكا وأوروبا لتكرار تجريبية لاورنس العرب وتخريب حضارة الإسلام. والآن نفهم لماذا اعتبرت بيتي الشابي في ثورة الشباب دالتين على الطابع الروحي لهذه الثورة: فهما تشيران إلى ضرورة إصلاح نظرية القضاء والقدر التي سيطرت خلال عصور الانحطاط بسبب ثرثرة المتكلمين والفقهاء والمتصوفة حول أفعال العباد وتكبيل اوغاد القبائل والعسكر للأسياد بتحريف قيم القرآن. فكان الشابي بعبقرية شبابية-توفي وسنه دون الثلاثين-قد صاغ شعريا آية قرآنية تعرف العلاقة بين أفعال العباد وأحكام الخلق والأمر أو القضاء والقدر: لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. الشابي جلعها: إذا غير شعب ما بنفسه غيّر الله ما به. ورمز لذلك بإرادة الحياة والجمود ضمنا بالموت. والإشكال الفلسفي هو كيف تكون الإرادة الأسمى (إرادة الله في التغيير) تابعة للإرادة الادنى (إرادة الإنسان في التغيير) وهو إشكال دال على سذاجة المعترضين به. نسوا ما يقوله الله نفسه بأنه يكتب على نفسه ما يحد به إطلاق إرادته ليبقي محلا لإرادة خليفته حتى لا يكون التكليف ظالما. ويكفي مثالا واحدا من القضاء. فلا يمكن تصور المشرع الذي يعبر عن إرادة الجماعة بوضع القانون نافيا للقضاء الذي يعبر عن إرادة الجماعة بتوسط نص المشرع أن يكون حق الاجتهاد في فهم التشريع وفي تطبيقه وحتى مراجعته مع حفظ المقامات لأن هذا الـ”حتى” لا ينطبق على علاقة الإنسان بربه. ولذلك قلنا إن حرية الإنسان تبقى دائما في إطار قوانين بعده الطبيعي وسنن بعده الروحي والقوانين والسنن كلاهما تشريع إلهي حر لا يلغي حرية الإنسان من حيث الاجتهاد في الفهم والجهاد في التنفيذ لأن هذين يبقيان في إطار القوانين والسنن يمتنع الخروج عنها ولو بمخالفة المأمور به والمنهي عنه. فالمأمور به والمنهي عنه يدخل ضمن “الفورشات” أو مجال الإمكان للحرية الإنسانية. ولهذا يمكن للآية أن تقول إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وهم لن يغيروا ما بأنفسهم بالخروج من إطار القوانين البايولوجية والسنن التاريخية التي يجري في إطار فعل الإنسان الحر والمكلف. فلو قلت لابني مثلا أنت حر قوانين البلاد أن تتجول في مدنها من الشمال إلى الجنوب أو من الجنوب إلى الشمال وأنك إن فعلت الخيار الأول تجازى إيجابا وإن فعلت الثاني تجازى سلبا فقد شرعت له بحرية ما سيختاره بحرية مع العلم بالجزاء والعقاب وله الخيار بينهما لأنه مكلف ومسؤول عن أفعاله. وما هو ممكن بين حريتين من نفس الدرجة (أنا وابني) فمن باب أولى أن يكون أكثر قابلية للإمكان بين حرية مطلقة هي حرية الله وحرية نسبية هي حرية الإنسان المكلف في إطار تحدده قوانين الإرادة المطلق وسننها للإرادة النسبية. جعل الأمر وكأنه تمانع بين إرادتين من علامات السذاجة الكلامية. وهي سذاجة عند اصحاب الموقفين القائل بالحرية التي يترتب عليها الزعم بخلق الإنسان لأفعاله والقائل بالجبرية الزاعم نفس الزعم والقائل باستحالته مستنتجا مها ألحبرية. كلاهما يقول بنفس القول ولا يدريان. يختلفان في النتيجة ويتفقان في المقدمة: عدم التمانع يلغي خلق الفعل ونفي الحرية. ونفس هذه العلاقة توجد بين صاحب الرؤية وصاحب السياسة. فحرية صاحب الرؤية أوسع من حرية صاحب السياسة. لأن الاولى تتعلق بالكليات والثانية بالجزئيات. والكلي يتعين في متعدد الجزئي. فيكون للسياسي هامش الاختيار لتحقيق الرؤية الكلية بطرق جزئية متعددة قد تلمح الرؤية لبعضها تمثيلا لا حصرا. وقد يكون أفضل مثال عن ذلك أن الرؤية التشريعية في القرآن والسنة تعتبر رؤية واحدة لكن المذاهب الفقهية متعددة وتطبيقاتها أكثر تعددا لأن كل مذهب فيه عدة مدارس. والكل له شيء من حرية الفهم والتأويل وخاصة في قضية التنزيل وتحديد المناط اللذين لا يشترطان الإجماع لاستحالته فعلا. ولا بد هنا من قول شيء قد لا يستسيغه من يظنه تقليلا من علم الله: فعلمه بأفعال الإنسان بعدي وليس قبليا ولذلك يقول حتى نعلم كذا.. وتلك علة توثيق الافعال بالمتابعة. وليس لتكون حجة يوم الحساب إذ من يجرؤ فيشكك في ما يقوله الله يومها لكن حرية الفعل تعني أنه لا يعلم إلا بعد حصوله. وكل من يقول غير ذلك ينفي دلالة التكليف ودلالة “حتى نعلم..” إذ لو كان العلم قبليا لكان عدم منعه تيسيرا له ومنعه نفيا للحرية. وكونه بعديا يعني إثبات الحرية دون استنقاص لعلم الله لأنه هو الذي اختار ذلك ليكون الإنسان محجوجا فلا يتعلل بأن الله كان يعلم أن سيرجم وتركه يفعل. وهذه هي الحجة التي اخرجت الأشعري من صف الاعتزال. فما وقف فيه “حمار الشيخ” ويقصد زوج امه أبا علي الجبائي هو حجة الحجاج بين الاخوة الثلاثة والقصة معلومة. فبها اثبت سخافة القول بالتحسين والتقبيح العقليين. ولا يقول بهما إلى من يجهل الفرق بين صفات الشيء الذاتية والأحكام القيمية. والحقيقة الأعمق التي تبين مثنوية الاعتزال أي القول بالخالقين هو رد المنشود إلى الموجود. فالقول بالتحسين والتقبيح العقليين يعني أن الوصف القيمي للأفعال من صفات الشيء الذاتية فتكون القيم مثل الطبائع وهو من ثم من المقومات الذاتية للموصوف بها. فلا تبقى أمرا مع الخلق بل كلها خلق. وهو ما يعني في الغاية أن الاعتزال بعدم التمييز بين الخلق والامر يقول بالطبائع ولا يميزها عن الشرائع فيكون الكلام على الحرية الاعتزالية خدعة لأن الطبائع لا تعترف بالحرية بل حكمها هو حكم الضرورة. فيكون الإنسان يخلق بالطبع مثل أي قوة طبيعية ولا علاقة للقيم بالتشريع الإلهي.