القرآن ومناظيره: الدين والديني وما بينهما – الفصل الخامس

**** القرآن ومناظيره: الدين والديني وما بينهما الفصل الخامس

فماذا تبين البنية العميقة الواحدة بين: • الثيوقراطيا أو بين التربية (الوساطة) والحكم (الوصاية) باسم الله والانثروبوقراطيا • أو بين التربية (الوساطة) والحكم (الوصاية) باسم الإنسان؟ ولنا عن ذلك مثالان: • الاول علاقة الثورة الفرنسية بالكاثوليكية • والثانية علاقة الثورة الماركسية بالهيجلية. 1. فالأول يدعي أصحابه القطع بين السياسة والدين أو فصل الدولة عن الكنيسة. وهو النموذج العلماني اليعقوبي أو الفرنسي. وفي الحقيقة كل ذلك مغالطة: فالأمر لا يتعلق بفصل السياسة عن الدين ولا الدولة عن الكنسية بل بجعل السياسة دينا والدولة كنيسة أو بصورة أدق بالاستحواذ على الوساطة والوصاية. 2. والثاني يدعي أصحابه القطع بين المثالية والمادية أو التحرر النهائي من الدين وتبني بديلا مما كان يؤسسه أي الوساطة (الحزب بدلا الكنيسة) والوصاية (طبقة العمال بدل الدولة). ومن ثم فالمثالية لم تلغ بل ضمت لسلطة الدولة المادية كما أن الكنيسة لم تلغ في اليعقوبية بل ضمت لسلطة الدولة. والسؤال هو فيم تتمثل سلطة الدولة التي جمعت بين ما كان للدين في التربية والحكم باسم الله دينيا وما كان للفلسفة في التربية والحكم باسم الإنسان (وفيه يحايث الله في فلسفة هيجل تأويلا للمسيحية) فأصبح للدولة التي تمثل القوة الفعلية التي تجمع بين المادي والروحي: تلك هي البنية العميقة. وهكذا نجد العلاقة بقراءة سورة هود والثورتين اللتين فشلتا إزاء الطبيعة (نوح) وإزاء التاريخ (موسى) وما بينهما من تعين للعقبات التي أدت إلى فشل الثورتين أعني العلاقة بالطبيعة الخارجية ونظامها (هود وشعيب) والعلاقة بالطبيعة الداخلية ونظامها (صالح ولوط) والقلب الذي بقي وعدا استقباليا. ولا نفهم هذه العلاقة إلا إذا عدنا من علة فشل ثورة موسى إلى علة فشل ثورة نوح وما بينهما من إشكال اقتصادي اجتماعي عند هود وشعيب وإشكال مائي جنسي عند صالح ولوط والسؤال المطلق عند إبراهيم ملتفتا إلى ثورته وإلى البشرى المستقبلية التي قدمت له رغم أن زوجته مسنة وعاقر. وشرط فهم هذا الفشل الاعتماد على النظرية التي وضعتها وتتعلق بالرمزين: • رمز الفعل (العملة) • وفعل الرمز(الكلمة). 1. فالأول هو شرط التبادل بتوسط أداة التقويم للبضائع والخدمات المادية أو الاقتصاد وشرطه العمل. 2. والثاني هو شرط التواصل بتوسط أداة التقويم للمعاني والنظريات الرمزية وشرطه النظر.

وبخلاف ما يتبادر إلى الأذهان وما تصور الماركسيون أنه ثورتهم على المثالية فإن الكلمة والتواصل والنظر مقدمة على العملة والتبادل والعمل لأن أدوات هذه ومناهجها مستمدة من تلك. ومعنى ذلك أن علاقة الإنسان العمودية بالطبيعة أساسها علاقته الافقية بالتاريخ. وإذن فالثورة الثانية شرط الأولى. ذلك أن نوحا لم يبن السفينة بعلمه بل بعلم الله. لكن الإنسانية عليها أن تبني السفينة بعلمها. ومن ثم فثروتها على العبودية الطبيعية مشروطة بثورتها على العبودية السياسية. وذلك هو اساس الرؤية القرآنية: تحرير الإنسان من الوساطة في التربية ومن الوصاية في الحكم هو أصل منزلة الخليفة. منزلة الخليفة هي التي يعرف بها ابن خلدون الإنسان بوصفه “رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له”. وهو لا يكون كذلك إلا إذا لم تفسد فيه “معاني الإنسانية” فيكون حرا روحيا (التربية التي لا وساطة فيها) وحرا سياسيا (الحكم الذي لا وصاية فيه). وفساد معاني الإنسانية هو علة فشل ثورة موسى. كيف ذلك؟ ألم يصنع اليهود بعده العجل الذهبي ذا الخوار؟ إنه دين العجل: • فمعدنه (الذهب) هو تحول رمز الفعل (العملة) من أداة تبادل إلى معبود وأداة سلطان على المتبادلين. • وخواره هو تحول فعل الرمز (الكلمة) من أداة تواصل إلى معبود وأداة سلطان على المتواصلين. ولما تصبح العملة أداة سلطان على المبادلين يصبح الاقتصاد ربويا يستعبد الإنسان بالحكم المسيطر على الثروة ولا يحرره من الطبيعة ولما تصبح الكلمة أداة سلطان على المتواصلين تصبح الثقافة إيديولوجية يستعبد الإنسان بالتربية المسيطرة على التراث ولا يحرره من التاريخ: سر الثورة القرآنية. فالقرآن يعتبر الربا واختلاف الأقوال عن الأفعال أكبر جرمين في الأخلاق الإسلامية: • فالله أعلن الحرب على الربا • والله يعتبر من يقولون ما لا يفعلون أشد مقتا عنده. وهما في الحقيقة تعين الشرك أو عبادة غير الله أي عبادة من: • يستعبد الناس بالعملة (الربا) • ومن يستعبدهم بالكلمة (الإيديولوجيا) دين العجل أي سلطان العملة (معدن العجل) وسلطان الكلمة (خوار العجل) هما البنية العميقة للثيوقراطيا والانثروبوقراطيا ولذلك اعتبرتهما بنية سطحية تبدو متنافية في الظاهر لكنهما متحدان في العمق بمعنى أن ما كانت تؤسسه الثيوقراطيا هو ما استحوذت عليه الانثروبوقراطيا فتبين عبودية لمافية العجل. وهذا هو جوهر العولمة: الإنسان لم يتحرر من وساطة التربية ووصاية الحكم إلا وهميا لأن ما كان بيد الكنيسة والحكم بالحق الإلهي صار بيد المافيات الحزبية وبالحكم بالحق الطبيعي. الوساطة والوصاية انتقلت من إيديولوجيا توظف الديني إلى ايديولوجيا توظف الفلسفي: تحريفان يرفضهما الإسلام. ولذلك فليس بالصدفة أن يتحالف الذراعان (إيران وإسرائيل) وسنداهما (روسيا وأمريكا) ضد الإسلام لأن هؤلاء جميعا يتأسسان على تحريف الدين ويتكلمان باسم الثيوقراطيا والانثروبوقراطيا لكنهما يعملان بالأبيسيوقراطيا أو ببعدي دين العجل: الربا أو عبودة العملة والايديولوجيا أو عبودية الكلمة.

كيف الآن نفهم ما يترتب على فشل ثورة موسى التي وصفنا هنا من ضرورة فشل ثورة نوح؟ أليس الإنسان الآن قد حقق التحرر من الطبيعة؟ ألسنا في قمة التحرر التكنولوجي من سلطان الطبيعة على الإنسان؟ ذلك هو الوهم الذي علينا فهم عمق تخفيه. فالإنسان الذي يبدو قد تحرر صار عبدا للطبيعة الداخلية. التحرر من الطبيعة الخارجية بالتكنولوجيا أوهم الإنسان بما يمكن أن نسميه خرافة نيتشوية أعني إرادة القوة أو مرض إثبات الإرادة والقدرة وهو تسيب الطبيعة الداخلية لدى الإنسان التي لا يشبعها شيء عدى تهديم ما حولها ومن ثم شروط قيامها الذاتي بحيث إن الأمر كله هو نزعة الانتحار الجماعي.

ما يجري من إخضاع للطبيعة الخارجية مترتب على:

• عبودية العملة أو جعلها أداة استعباد علته التنافس الربوي على تركيم الثروة • وعلى عبودية الكلمة أو جعلها أداة استعباد إيديولوجي على تركيم التراث. وكلاهما يقتضي تحويل الطبيعة من كائن حي إلى كائن ميت مثله التاريخ. فتفهم حينها كيف أن الانتاج المادي لم يعد لسد حاجة الحياة بل لقتل الحي من العالم نباته وحيوانه وحتى إنسانه من أجل تركيم الثروة الميتة كمن يجمع الغذاء خوفا من الجوع والانتاج الرمزي لم يعد لسد حاجة الفكر بل لقتل الوجود جماله وجلاله وعلمه وإنسانه من أجل تركيم التراث الميت. هذا الخوف المادي والروحي الذي يدفع البشرية إلى حتفها هو الذي يجعلها تفسد شروط بقائها العضوي • فتفسد الغابات والحيوانات والمناخات ولا تبقي إلا على “البلاستيك” الذي لا حياة فيه • وتفسد شروط بقائها الروحي فتفسد اللغات والحضارات ولا تبقي إلا الأدوات الرمزية الخادمة لعملية الإفساد الاولى وهذا المراكمتان هما جوهر العولمة التي هي عبودية كونية لدين العجل أعني للعملة التي صارت أداة سلطان على المتبادلين ولم تبق أداة تبادل وللكلمة التي لم صارت أداة سلطان على المتواصلين ولم تبق أداة تواصل. والسلطانان هما ما كان خفيا في الثيوقراطيا والأنثروبوقراطيا وما كشفته سورة “هود”. لكن ما كشفناه من وراء ذلك هو دور ما بشر به إبراهيم وزوجته: ويكفي أن نصل ذلك بمن قبل إبراهيم وبمن بعده في سورة هود: صالح ولوط. فكلاهما رمز لشرطي الوجود الحي عامة والإنساني خاصة أي الماء والجنس. وقبلهما هود وشعيب أو المشكل الاقتصادي ونظامه وما قبلهما نوح وموسى أو صاحبا الثورتين. فتفهم حينها أن البشرى لا تعلق بإسحق بل بمحمد الذي استأنف الإبراهيمية دون الاقتصار على الفعلين اللذين عرف بهما ابراهيم (أسئلة الأفول وتجاوز الأضاحي البشرية) بل بالتصدي لما يعوق ثورتي نوح وموسى. والبدء يكون بثورة موسى لأنها هي التي تجعل ثورة نوح قابلة للتحقيق دون فساد وسفك للدماء. وأختم بالكلام في طبيعة المشترك بين الديني والفلسفي من حيث موضوع العلاج وطبيعته: فليس لأي منهما دعوى الكلام العلمي في الجزئيات. هما يبحثان في الرؤى التي تحدد شروط إمكان الكلام العلمي والعملي في الإنساني سواء عرفناه دينيا بالاسترواح الاستخلافي أو فلسفيا بالاستعقال الانساني. ولا يمكن أن نجد ذلك في العلوم ولا في الأعمال لأنهما من أدوات الاسترواح الاستخلافي دينيا والاستعقال الإنساني فلسفيا. وكل من يحاول البحث عن قوانين علمية جزئية للطبيعة أوسنن جزئية للتاريخ في آيات القرآن النصية لا يرفع من شأن القرآن بل يحط منه لأنه يؤرخنه إذ إن العلم تاريخي بالجوهر.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي