**** القرآن ومناظيره: الدين والديني وما بينهما الفصل الثاني
لكن حقيقة القرآن التي تتجلى في آيات الله التي يرينها في الآفاق والانفس، أعني في العالم ببعديه الطبيعي والتاريخي، وفي الإنسان بدنه وروحه، لا تكتفي بما يدل على هذه الحقيقة، بل هي تشير كذلك إلى أن الآفاق والانفس ليست هي الوجود الباقي بل هي الوجود الفاني وأن ما وراء غيبي هي أحد رموزه. فالمستويات التي رأيناها في الفصل الاول رغم ما بينا من تناسق وتناغم بينها سواء: • في نظام العالم الطبيعي • أو نظام العالم التاريخي (بعدي العالم) • أو في نظام البدن • أو في نظام الروحي (بعدي الإنسان) والتناظر التام بينها وبين نظام القرآن نفسه كرسالة متعلقة بتذكير الإنسان برسالته تبدو عبثا. فلو لم يكن وجودنا مليئا بما لا يفهم وخاصة بما يبدو عليه من “مجانية” إذ لا يفهم الإنسان “حاجة” الله لخلق عالم كله ثغرات ونقائص لو اعتبرناه مقصورا على ما يمكن أن ندركه بعقولنا التي يحيرها كل شيء فيه وخاصة المصدر والمصير والحرية والضرورة والخير والشر وهلم جرا من المغلقات. ولا أحد أكثر من القرآن كلاما في هذه المسائل وخاصة في الإنسان ونقائصه وعيوبه التي لا تحصى والتي تجعله وكأنه “صنعة” فاسدة أو صنعة صينية غير متقنة، ومع ذلك فالله ينسب إلى نفسه صنعه على أحسن صورة ونفخ فيه من روحه وعلمه الأسماء كلها واعتبر خلقه أحسن تقوم ثم “رده أسفل سافلين”. كل الإشكال المحير هو هذه المنزلة الجامعة بين اقصى الكمال وأقصى النقص في كيان الإنسان. • فلكماله استخلف • ولنقصه احتاج إلى الرعاية التي تخرجه مما يترتب على هذا النقص. فلكأن خلق الإنسان له بداية كاملة هي مثاله الاعلى الذي سيكون مآله في الغاية فيكون كل التاريخ هو خلق الإنسان المتصل. فتكون عين النسبة بين الديني من حيث هو في الفطرة والديني من حيث هو في الإسلام الخاتم. وبين البداية والغاية مراحل التكوين المتصل إلى يجعل ما كان تاما في المثال يصبح تاما في الأعيان. وحينئذ يكون أحسن التكوين في المثال وليس في الأعيان فيكون تعريف الإنسان: حرية تسهم في خلق ذاتها. ولذلك فالقرآن في عرضه لسلسلة الأديان والرسل يكاد يقص علينا هذه التكوينية التي هي تدرج في تحقيق ما في الفطرة المثال نقلا إياها من المثال إلى الأعيان في تجارب دينية لا يقال فيها النظر والعملي بل هي اساسا سياسة ذات وجهين أحدهما يربي الإنسان والثاني يحكمه: فيستكمل التاريخ الطبيعة. وقد حاولت بيان عينة من ذلك من خلال شرح سورة هود التي قال عنها الخاتم إنها شيبته هي وأخواتها محاولا فهم علة تشبيها له وهي في آن نسق توالي الرسالات في عملية التكوين التاريخي لإنسانية تسهم في “خلق” ذاتها بما من الله به عليها من حرية إرادة وصدق علم وخير قدرة وجمال حياة وجلال وجود. وفعلا فالسورة حتى وحدها من دون اخوتها تشيب راس الإنسان الذي يراها كما توحي بذلك: فهي في آن: • فلسفة تاريخ • وفلسفة وجود • وفلسفة دين • وخاصة رسالة مذكرة بكل ذلك تذكيرا يكون من يكلف بها بشيرا ونذيرا أخيرا في تاريخ الإنسانية كلها ومكلفا بإنتاج عينة من السعي لتحقيق مثال البداية في تاريخ الغاية. وأن نعتبر عمل الوسط هو الحكم في ما مضى من تاريخ البشرية قبل نزول القرآن (ابراهيم) وعمل المخاطب الذي سيعود إليه هو الحكم في ما يلي بعد نزوله (محمد). • والثلاثة الأولى تتألف من نوح وهود وصالح • والثلاثة الثانية بالترتيب المعكوس من موسى وشعيب ولوط.
فلنقرأ الآن البنية العميقة للسورة. وقد حاولت شرحها بهذا المنطق والمنطلق دون تأويل تحكمي وإن كانت فرضية قراءتها تنطلق من بنية رياضية تشبه المصفوفة التي فيها تناظر بين ثلاث عناصر أولى وثلاثة عناصر أخيرة وبينهما وسط هو المركز في فهم التناظر بشرط أن نقرأ الثلاثة الأخيرة في ترتيب معكوس بالقياس إلى الثلاثة الاولى. ولا بد من اعتبار القراءة مستندة إلى منظور القرآن: فلا نوح ولا هود ولا صالح ولا لوط ولا شعيب ولا موسى رسل لقومهم حصرا فيهم ومن ثم فلا يمكن قراءة أفعالهم وكأنها خاصة بشعوبهم حصرا للديني كمعنى عام في الدين كحالة عينية بل المطلوب الانطلاق من الديني عامة في أي دين متعين أمرا واقعا. ذلك أن الأمر يتعلق بالواحد في الاديان المتعينة تاريخيا والتي تتضمن السورة منها ست حالات تنسب إلى الثلاثيتين واثنين إلى الوسط بينهما (ابراهيم) إلى المخاطب الذي شيبته السورة والذي عاد في رسالته الخاتمة إلى إبراهيم (محمد). وتفترض السورة ما قبل نوح وما بعد موسى قبل محمد: آدم وعيسى. ولغز السورة في آدم وعيسى ومفتاح فهمها في إبراهيم ومحمد. • فالأول تميز خاصة بفعلين يمكن أن يعتبرا مفتاح فهم للسورة: أسئلة الأفول وتحرير الإنسان من يكون أضحية. • والثاني تميز بفعلين يمكن أن يعتبرا مفتاح فهم للسورة: العودة إلى ابراهيم وتأسيس سياسة تربية دون وساطة وحكم دون وصاية. أما اللغز الوجودي فهو يرد إلى آدم وعيسى وما بينهما من تماثل وجودي (ذكره القرآن) وما بين الأول والثاني من شرح للغز الوجودي وما ترتب على تحريف دور الثاني بالقياس إلى تجريم الأول في أصل التحريفات التي عرفتها البشرية بين البداية الآدمية والنهاية العيسوية في تاريخ الإنسانة الروحي. فلا أحد يشك في أن الاستخلاف تم قبل أن يقع ما وقع لآدم وحواء في الجنة -القصة رمزية طبعا-ومن ثم فلا يمكن أن يعتبر ما حصل بعد ذلك عقابا، بل هو كان بداية الفعل الذي لأجله استخلف آدم: حرية الاجتهاد صوابا وخطأ من آدم وحواء والأنزال هو للفرصة الثانية لإثبات جدارتهما بالاستخلاف. والاخراج من الجنة لم يكن عقابا وشفع بعفو عن الخطأ في الاجتهاد دون تجريم للجنس الذي لا علاقة له بالخطأ. فوجود الزوجين يجعل الجنس طبيعيا وليس جريمة صارت خطيئة موروثة لتأسيس الوساطة الكنسية نائبة الشفيع ولتكون مؤسسة للحكم باسم الحق الإلهي أعني اساسي التحريف اللذين ألغاهما القرآن. وكل التحريفات بين آدم وعيسى ينسبها القرآن إما إلى غلبة ما في آدم من معدنه أو ما في الوسطاء والاوصياء الذين يتحالفون لاستغلال أداتي استعباد الإنسان: إما من الطبيعة أو من الإنسان بالسيطرة على سد حاجاته المادية والروحية. وهما عبوديتان تمثلان مدار فلسفة التاريخ في سورة هود.
والآن نستطيع بدأ الشرح: فماذا فعل نوح؟ أمران: تخلص من سلطانين للطبيعة في أسرته وفي العالم. • وذلك بالثورة الروحية • والثورة التقنية صنعا للسفينة وزرعا للأزواج من كل شيء حتى يحرر الإنسانية من العبودية للضرورة الطبيعية سواء في العلاقات العاطفية أو في العلاقات الاقتصادية نوح هو الاول في المثلث الأول. ويناظره في المثلث الثاني الأخير الذي هو الأول من النهاية إلى البداية. ماذا فعل موسى؟ أولا التحرر من الطبيعة حاصل على الأقل برمزين فهو وصل إلى اسرة فرعون عن طريق رمز الطبيعة الماء وتخلص من فرعون به. لذلك فثورته ضد العبودية السياسية وليس الطبيعية. وهي الثورة الثانية: 1. الأولى تحرر الإنسانية من عبودية الطبيعة لأنها “زرعت” من كل زوجين اثنين فصارت تنتج حاجتها بنفسها وليست تابعة للطبيعة مباشرة 2. والثانية تحرر الإنسان من عبودية السياسة لأنها خرجت على أعتي دكتاتورية سياسية ثيوقراطية هي دولة فرعون وهامان. لكن الثورتين فشلتا.
ونبدأ بفشل الثانية: فالشعب الذي اراد موسى تحريره لم يتحرر بل فضل العيش المادي في العبودية (طلب مأكولات) وصنع وثنا جنيسا لوثن الفراعنة ولكنه بمال مسروق وهو العجل الذهبي ذو الخوار. وهما ما به يسيطر المرابون على العالم إلى اليوم أي بمعدن العجل (الربا) وبخواره (الإيديولوجيا). وعندئذ نفهم فشل الثورة الاولى كما سيتبين في رسالة هود الثاني من المثلث الاول وفي رسالة شعيب الثاني في الرجوع من موسى إلى لوط. • فالأول هود تبين أن علة عدم نجاحه أصحاب المال والاقتصاد • والثاني شعيب تبين أن علة عدم نجاحه نظام التوزيع والمقاييس المغشوشة: الاقتصاد نظام التوزيع العادل وواضح أن للأمرين هذين علاقة بالعبودية الطبيعية وبالعبودية السياسية لأن سلطان أصحاب المال ذو علاقة بالطبيعة ونظام التوزيع ذو علاقة بالسياسية. فيكون الرسولان هود وشعيب قد بينا العائق الأساسي في فشل الثورتين على سلطان الطبيعة وسلطان السياسة عند نوح وموسى. فإذا وصلنا إلى صالح الاخير من المثلث الاول ولوط الأول من المثلث الثاني -ذكرنا الترتيب المعكوس-. فكلاهما يتعلق بشرط الحياة نفسه: الماء عند صالح والجنس عند لوط. فهما المشكل الذي يفشل الثورتين ويتعلقان بما يترتب على العبوديتين من استبداد وفساد في شروط الحياة الإنسانية. وعندئذ نلتفت إلى الوسط بين الثالوثين أي إبراهيم: فأولا هو من جاءه الرسولان ليعلماه بمآل قوم لوط. ولكن أيضا ليبشراه بابن. والبشرى هي المشكل. فقد يظنها الكثير متعلقة بابنه اسحق. وليس كذلك لأن سارة لم تلد اسحاق في آخر حياتها بل مباشرة بعد هاجر بسبب الغيرة وتلك علة استبعادها. الابن الذي بشر به هو الذي عاد إليه ليعالج كل هذه القضايا انطلاقا من ثورته التي عرفت طبيعة ما تستند إليه هذه الرسالات. تحرير الإنسانية من عبادة الطبيعة أساس تحريرهم من عبادة السياسة بعلاج يتعلق بتربية بلا وساطة وبحكم بلا وصاية. وتلك هي الثورة المحمدية والرسالة الخاتمة.