**** القرآن أو “متن” الديني والفلسفي ووحدتهما الفصل الرابع
المقابلة بين ظاهر معلوم وباطن مجهول ومحاولة رد الأول إلى الثاني بالتأويل يفترض أن الباطن المزعوم خفي على الرسول-سواء تلقاه من الله أو ألفه بنفسه-لكن المتكلم والفيلسوف بالتاويل والمتصوف بالكشف لهم من النفاذ ما عجز دونه الرسول أو تولوا بدلا منه بيان ما كان يخفيه في “مغالطة”العامة.
وهات من الأكاذيب مثل “خاطبوا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذبوا الرسول”وهو عذرأقبح من ذنب. ففيه اعتراف بأنه كذب وبأنهم فضحوا كذبه لأنهم بينوا أن الباطن الذي كان خفيا عكس الظاهر الذي كان جليا ومن ثم فهم بقصد أو بغيرقصد يقفون موقف الباطنية.وتلك علة رفض ابن تيمية لمناهج الأدلة لابن رشد.
والباطن الذي يدعون اكتشافه بالتأويل (المتكلم والفيلسوف) وبالكشف (المتصوف) كلها خرافات وأكاذيب حول الغيب والقرآن ينفي أن تكون معلومة حتى للرسول نفسه ناهيك عن الدجالين من المتكلمين والفلاسفة والمتصوفة. ليس في القرآن أمر خفي بل كل ما فيه جلي بشرط الانطلاق من نظامه البين.
وهذه الرؤية حددت مجال البحث السليم لتبين حقيقة القرآن ومجال فساده بدعوى تأويل المتشابه وتجاوزت الأمروالنهي في ما يشبه دحضا لنظرية المعرفة المطابقة والمحيطة واستبدالها بنظرية المعرفة الاجتهاد النسبي بل ذهبت إلى الحسم في 4 رؤى 1-للطبيعة 2-والتاريخ 3-والعقد والنظر 4-والشرع والعمل.
فأولا بين القرآن أن الخلق يكون بقدر وأن العلم به يكون بمعرفة هذا القدر بالملاحظة والتجربة. وهو لم يتكف بذكر ذلك بل طبقه في الاستدلال على ما يذكر به في الرسالة بمعنى أنه لم يقدم أدلة خرق العادات بل كل حججه مستمدة من الإحالة إلى نظام الطبيعة القانوني ونظام التاريخ السنني.
وهو ثانيا لم طبق نفس الرؤية بخصوص التاريخ لكن النظام ليس قانونيا من جنس قوانين الطبعية الضرورية بل هو سنني من جنس الثوابت الخلقية والسياسية التي تحقق الغاية أو لا تحققها لأنها تابعة للسنن التاريخية التي تتبع أفعال العباد المكلفين بشرط عدم التناقض مع قوانين الطبيعة وثوابت السنن.
وهذان الرؤيتان الأوليان للطبيعة والتاريخ متناسبتان مع مهمتي الإنسان: فالإنسان مكلف بتعمير الارض ولا يمكن أن يحصل ذلك من دون العلم بقوانين الطبيعة وتطبيقها لاستمداد ما يسد الحاجة رعاية وحماية للإنسان فردا وجماعة. وهو مكلف بجعل التعمير يحصل بمعاييرتثبت جدارة الإنسان بالاستخلاف.
فتكون معرفة قوانين الطبيعة للتعمير ومعرفة سننن التاريخ للاستخلاف وكلاهما معين الأدلة القرآنية على مضمون الرسالة من حيث هو تذكير بما يمكن للإنسان أن ينساه رغم كونه مفطورا عليه. ومعنى ذلك أن هذين المهمتين مرسومتان في كيانه وهو لايقوم بدونهما فيكون عين كيانه عين دليل مضمون التكليف.
والآن فلنسأل: هل جهز الإنسان بما يمكنه من القيام بهذين المهمتين لئلا يكون تكليفه تكليفا بما ليس في مستطاعه بحيث يكون له عذر في عدم الطاعة فهما خاطئا لمفهوم القضاء والقدر؟ ففي المهمتين لا بد من العقد والنظر للاجتهاد ولا بد من الشرع والعمل للجهاد وهما مجالا امتحان أهلية الاستخلاف.
وقبل الكلام في ذلك فيلاحظ القاريء الجمع بين العقد والنظر في الاجتهاد والبين الشرع والعمل في الجهاد. ولا بد أن القاريء يتفطن إلى أن الاجتهاد فيه بعدان عقدي ونظري والجهاد فيه بعدان شرعي وعملي وفيهما إشارة إلى التصاحب الدائم بين ما يبدو ممثلا للديني وما يبدو ممثلا للفلسفي.
فلنشرح هذا التصاحب: وسآخذ آكثر الملحين عتوا. هل يمكنه أن يطلب قوانين الطبيعة إذا لم يعتقد أنها موجودة اعتقادا لايمكن اثباته بالعقل: واقعة-فاكتوم؟ وهل يمكن أن يطلب قوانين الطبيعة إذا لم يعتقد أن النظر قادر على النفاذ إلى ما يمكن النفاذ إليه بعقلنا اعتقادا لا يمكن أثباته بالعقل: واقعة-فاكتوم..
الواقعات نقبلها ولا نستطيع ردها ومع ذلك فنحن لا يمكن أن نثبتها بالعقل بل نكتفي بالاعتقاد فيها لنشرع في النظر الذي يوصلنا إلى العلم الممكن بها. لذلك جمعت بين العقد والنظر. والأول ينسب عادة إلى الدين وهي نسبة واجبة حتى إلى الفلسفة والثاني ينسب إلى الفلسفة وهي نسبة واجبة إلى الدين أيضا.
ونفس ما قلناه عن الطبيعة وعلم قوانينها وضرورة الجمع بين العقد والنظر يقال عن التاريخ وعلم سننه وضرورة الجمع بين الشرع والعمل. فالعمل بكل معانيه الاقتصادي والثقافي لا بد فيه من نظام وهو نظام قانوني وخلقي (الشرع).ولا يمكن أن نتخيل جماعة تحقق التبادل والتواصل من دون قوانين واخلاق.
وفي هذه الحالة كما في حالة الطبيعة لا بد أن يكون النظام شرطا في العمل لكنه في الطبيعة معطى ونطلبه منها وفي التاريخ ليس معطى بل هو نوع من التعاقد الجماعي من أجل تنظيم الرعاية (سد الحاجات المادية والروحية لبقاء الجماعة)والحماية الداخلية والخارجية شرطا في التعايش السلمي بين البشر.
هذه الرؤى الخمس: هي التي تمثل أركان ما أطلقت عليه اسم “استراتيجية القرآن التوحيدية” واعتبرت الرسالة تذكيرا بها وتكليفا للرسول بتبليغها وتحقيق عينة منها -سميتها منطق السياسة المحمدية-تبين أن الإسلام هو بحق الدين الخاتم الذي يوحد الإنسانية بهذا التوحيد بين الديني والفلسفي لكونهما عين ما فطر الله الناس عليه.
وإذا كان أدعياء العداء بين الفلسفي والديني لا ينكرون أن ما يدعيه الفلاسفة ليس من صنع الإنسان بل هو ملكات وقدرات أصلها مفطور فيه والمكتسب مهارات حصولها مشروط بها وكانوا يسلمون بالتفاضل بين الناس في إبداع ثمراتها العلمية والعملية فبين أن الامر كذلك في الأديان أيضا.
لكن الأديان أكثر حميمية من الفلسفات ومن ثم فيمكن تصورالاكتمال فيها وختمها لكن الفلسفات تبقى دائما من جنس الاكتساب التقني لعلاج العلاقتين العمودية بين الإنسان والعالم والافقية بين البشروكلاهما متطوربخلاف العقد والشرع اللذين ليسا من جنس الادوات بل هما غاية الوجود الإنساني ومعناه.
ولهذه العلة فالدين الخاتم لا يتكلم في العلم والعمل الجزئيين ومن ثم رفضي لخرافة الاعجاز العلمي بل هو يحدد الرؤى المتعلقة بشروط إمكان العلم والعمل وهي شروط مرسومة في كيان الإنسان وجامعة بين الرؤيتين الفلسفية والدينية في المجالات الخمسة التي حللتها رؤى تؤسس للعلم والعمل وقيمهما.
وبخلاف الرؤى المؤسسة للديني والفلسفي الشارطين لتحقيق الإنسان لمهمتيه تكون العلوم والأعمال الجزئية سواء كانت بأسلوب فلسفي أو ديني ثمرة أفعال الإنسان ومكتسباته التي تحصل بفضل ما له من مقومات فطرية هي المقومات الخمس: الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود.
فبإرادته يطلب غايات وبعلمه يمهد السبل إليها وبقدرته يحقق الممكن منها وبحياته يذوق ما فيها من جزاء وبرؤاه يهتدي بعقله فلسفيا وبوجدانه دينيا فيكون إن احترم شروط الاستخلاف إنسانا بحق وإلا فهو كما يصفه ابن خلدون”فاسد المعاني الإنسانية”.وفي ذلك لا يختلف الفلسفي والديني إن لم يحرفا.
وباستعماله لإرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده يدرك الإنسان بالعقل أو بالحدس طبيعة العلاقة التي بينه وبين عالم الطبيعي والتاريخي ويدرك ما ينقصه وحتى ما ينقصهما بحيث يرى أن له ولهما ما وراء يضفي عليه وعليهما معنى لا يجده في ذاته ولا فيها إلا إذا غفل أو تغافل عن هشاشته وهشاشتهما.
ولهذه العلة فالعلاقة المباشرة بين الإنسان وربه هي التي تمكن من التغلب على ما يترتب على العلاقة غير المباشرة التي هي كلها امتحان لا يتوقف في حياة أي إنسان وأي جماعة.فالعلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة تجعل الإنسان وكأنه عبد الطبيعة والأفقية بين البشر تجعله وكأنه عبد الدولة.
ولهذه العلة كان لنوح وموسى الدور الرئيسي في الدراما الإنسانية كما يصفها القرآن: فالاول يمثل ثورة التحرر من عبودية الطبيعة إذ كلفه الله بأخذ زوجين اثنين من كل شيء واستنباتهما حتى لا يبقى الإنسان عبدا للطبيعة والثاني يمثل ثورة على عبودة الدولة الفرعونية إذ كلفه الله بالتحرير.
وكل هذه الحقائق جلية وليست بحاجة إلى تأويل والبحث عن باطن لأنها صريحة وهي موضوع التذكير من البشير والنذير ولا توجد رؤية مبنية على العقل المزعوم تمثل حقيقة ما ترينه من آيات الله في الآفاق والانفس يستعملها القرآن للاستدلال بها على ما يذكر به دون وساطة ولا وصاية.