**** القرآن أو “متن” الديني والفلسفي ووحدتهما الفصل الخامس
تبين إذن أن القرآن لا يترك لغيره تحديد طبيعته. فتحديده لها شديد الوضوح مضمونا وشكلا وفيهما كليهما يتجاوز المقابلة السطحية بين الديني والفلسفي وخاصة شكلها البدائي بين النقلي والعقلي. ولعله أول نص في التاريخ يحدد طبيعة هذه العلاقة ويعينها في علاقة النظر بالعقد والعمل بالشرع.
ولو ترجمنا علاقة الزوجين الأولين العقد والنظر لكان الأول من جنس الموقف القضوي الضروري للثاني الذي هو القضية باعتباره تحديدا للمنظور المشروط في حصولها ومستوى الدعوى التي تستند إليها من حيث نظرية المعرفة قولا بالمطابقة المطلقة أو قولا بالاجتهاد النسبي الذي لا يدعي المطابقة.
فلكأن الباحث ينطلق من حكم أول هو رؤية علاقة فكره بموضوعه كأن يعتقد جازما أو يفترض مرجحا ما عليه الموضوع وما عليه فكره في علاقته به. وذلك هو المستوى الأول الشارط للشروع في النظر في الموضوع وهو المستوى الثاني. فيكون الموقف القضوي حكما على “مدى” نفاذ الفعل المعرفي الهادي للنظر.
ولكأنه وعي بطبيعة علاقة الذات بالموضوع قبل الكلام فيه. وفيه إذن وعي يميز بين ما في الذهن وما في العين ووعي بنسبة ما بينهما كانت في المرحلة الساذجة من الوعي المعرفي توحي بأن العقل مطلق النفاذ إلى الوجود وبأن الوجود مطلق الشفافية للعقل ومن ثم دعوى علم الشيء “على ما هو عليه”.
ولما أدرك الفلاسفة سذاجة القول بعلم الاشياء على ما هي عليه أو نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة بين ما في الذهن المعرفي وما في العين الوجوي تحرروا منها ولكن بنقيضها الذي لا يقل عنها سذاجة وتمثل في المقابلة الكنظية بين المظاهر والأشياء في ذاتها نفيا لكل نفاذ لـ”ما عليه الأشياء”.
والتشكيك في ما يتجاوز التجربة الحسية كما ورد عند هيوم هدفه التحرر من القبليات العقلية وبيان أنها من مجاري العادات بمصطلح الغزالي وليست من الضرورات الفطرية التي اسنتدت إليها نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة تأسيسا على فطرية الأوليات.والجمع بين الأمرين فلسفي ديني لتأسيس الأخلاق.
ونفس هذه العلاقة بين العقد -تعبيرا عن موقف من القضية-والنظر -تعبيرا عن مضمون القضية-نجدها بين الشرع والعمل. فالشرع مماثل للموقف القضوي لكنه لا يتعلق بقضية بل بعملية يكون الشرع فيها شبه نظام يختاره صاحب العمل لعمله بمقتىض موقف قضوي ليس من الموضوع بل من مدى عمله على علم.
فالتشريع في العمل يشبه الاستراتيجية التي تعد مسبقا لتنظيم مراحل العمل وعلاقاتها بحسب المتوفرمن شروط الإمكان لتحقيق الغاية في خطوات متوالية ومنتظمة ومحددة الأهداف المرحلية والعلاقات بما له بها صلة لأن أي عمل هو بالأساس جزء من توزيع العمل في الجماعة ويحتاج إلى نظام وقوانين وأخلاق.
فلو جمعنا الآن العقد والشرع من جهة والنظر والعمل من جهة ثانية لفصلنابين الديني مسلوب الغاية وبين الفلسفي مسلوب البداية. فالديني الذي يجمع بين البداية والغاية لا بد له من النظر والعمل والفلسفي الذي يجمع بين البداية والغاية لا بد له من العقد والشرع:التلازم بينهما مقوم لكيانهما.
وبسبب الفصل بين الديني والفلسفي بالصورة البدائية التي تتكلم على النقلي والعقلي صار الديني مقصورا على العقد والشرع وصار الفلسفي مقصورا على النظري والعملي. وكلا التصورين دليل على قصور التصور وليس على حقيقة موضوعه. ولست بحاجة لطويل استدلال: فهذا هو أهم مميز للقرآن والإسلام.
وبصورة أدق هذا هو أهم ما يعاب على الإسلام: فهو يجمع بين الديني والسياسي وبين الأخروي والدنيوي. وبلغة فلسفية هو يجمع بين ذروة الفلسفة النظرية أو البحث في ما وراء الطبيعة وطبيعة نظامها القانوني وذروة الفلسفة العملية أو البحث في ما وراء التاريخ وطبيعة نظامه السنني.
والفصل بين الديني والفلسفي يجعل الكلام في أي منهما كلاما فيه بوصفه مبتورا إما من البداية (الفلسفي من دون عقد وشرع) أو من الغاية (الديني من دون نظر وعمل) وهو ما لا يمكن أن يحصل عند من فهم بنية القرآن الكريم: فالعقدي والشرعي غالب على مضمونه والنظري والعملي غالب على شكله.
وكلامي على المضمون والشكل وغلبة العقد والشرع في الأول والنظر والعمل في الثاني كلام يهدف إلى الفصل في المنهج وليس في “الأمر” نفسه لأن النظر لا ينفصل عن العقد والعمل لا ينفصل عن الشرع كلاهما في علاقة شرط بمشروط. لا أنظر من دون عقد ما ولا أعمل من دون شرع ما.
لكن صاحب التسليم الفرضي يخادع نفسه. فهو حتما يميز بين الرواية الأدبية والنظرية العلمية وبين العلم الخيالي والخيال العلمي. فالفيزياء ليست من جنس أفلام الخيالي بدليل التطبيقات التي تجعل الإنسان بالاستناد إلى ما يتوصل إليه من معرفة أسراراها قادرا على “صنع” ما في عالمه الحضاري من تقنيات.
فمن حيث الشكل “الأبدوعي” لا فرق بين الفيزياء النظرية والعلم الخيالي: كلاهما يبدو استنتاجات من مقدمات فرضية. لكن هذه جنس أدبي ليس لها تطبيقات تقنية قادرة على تغيير الطبيعة وتلك علم بقوانين الطبيعة تستطيع التدخل في مجراها وتغييره للأحسن أو للأسوأ.ولحظة حضارتنا يغلب عليها ذلك.
وهنا نتجاوز المقابلة بين العقد الجازم والعقد الفرضي بما يصل بينهما من “الامل” الفاصل بين الغائية والصدفة. فكلا العقدين فيه قدر من الأمل الذي يرجح الغائية على الصدفة. لذلك فكلما تقدم العلم غلب بعد الامل في الغائية على بعد مجرد الصدفة. ولهذه العلة فجل المحلدين أنصاف علماء.
نفس ما قلناه عن نوعي العقد عقد الإيمان الجازم وعقد الفرض المرجح يقال عن الشرع المتعالي على الإرادة السياسوية والشرع المحكوم بمناوراتها. فالاول يأخذ بعين الاعتبار ما يتجاوز تقديم الأداة على الغاية فيحفظ للمباديء القيمية والخلقية دورها ولا يقدم العاجل على الآجل لمصلحة انتهازية.
ذلك أن التشريع سواء اعتبر بهذا المعنى المنسوب إلى المتعاليات أو اعتبر مجرد وضع مؤقت لمصلحة عابرة يبقى المشكل في الحالتين هو ما بين المتعالي من القيم وشروط تعينها التاريخية التي قد تجعل الإنسان يقدم هذه على تلك فيصبح التساهل من المباديء بالفهلوة سياسة وهو خداع وخيم.
ولذلك فحتى القانون الوضعي نضفي عليه ما يسمى بعلوية القانون. لكن علوية القانون الوضعي ليست مجرد إضفاء شكلي بل هي تعبير عن حقيقة مضمرة وهي أن القانون الوضعي ليس نزوات الأفراد أو حتى الجماعات في شكل قوى سياسية بل هي في كل الأحوال بحاجة إلى تأسيس على مبدأ متعال.
وصحيح أن المبدأ المتعالي يمكن أن يستعمل استعمال مجرد حجة إيديولوجية فلا يكون صاحبه صادقا في قوله به لكنه ضروري ومثله يمكن أيضا أن يستعمل المبدأ المتعالي الديني استعمالا توظيفيا.فالأساس المتعالي في القانون الوضعي له مستويان:1-إرادة الجماعة المعبرة عن 2-الحقوق الطبيعية للإنسان. وفي ذلك ضميران:
الأول أن ارادة الجماعة إذا كانت حرة فهي صادقة.
والثاني أن صدق الجماعة المعبرة بحرية عن إرادتها لا تجمع على خطأ.
فينتج إن الصواب هو ما تريده ولا معنى لصواب مخالف لما تريده لأن معنى الحرية هو مسؤولية القرار وتحمل تبعاته إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا.
وبهذا المعنى فحتى القانون الوضعي لا يخلو من “قدسية” إذا تم بشروطه أي إذا كان معبرا فعلا عن إرادة جماعة من الأحرار وليس من العبيد. ذلك أن موقف الجماعة من حقوقها الطبيعية موقف مجانس لموقفها من العقائد الدينية. هو موقف فطري يعبر الوعي بالذات ومصالحها وليس ناتجا عن اكتساب علمي.
وختاما فمضمون الفلسفي ومضمون الديني وشكلهما عندما لا يكونان مبتورين من حيث هما رؤية للإطار العام الذي يتحدد به دور الإنسان ومنزلته في الوجودوما يحتاج إليه ليحقق ذاته بالاستناد إلى ما فيها من مقومات كيانها وشروط بقائهاواجهزة تحقيقها بالعقد والنظروبالشرع والعمل موجودة في القرآن.