القرآن: “متن” الديني والفلسفي ووحدتهما – الفصل الثاني

**** القرآن أو “متن” الديني والفلسفي ووحدتهما الفصل الثاني

كنت دائما أعجب ولا زلت من اعتقاد من يقابل بين الديني والفلسفي أن “العقل” أمر طبيعي في الإنسان وما عداه ليس طبيعيا بنفس الدرجة بل هو مترتب عليه رغم أن كل شيء في حياة البشر يبين العكس تماما لأنه لا يجمع كل قوى النفس حتى لو اقتصرنا عليها وخاصة على صلتها الوطيدة بالبدن.

وهذه الصورة غير الدقيقة عن العقل تعتبر أهم ما ورثته الإنسانية عن الفلسفة اليونانية وينسب إليها خاصة بدعوى أنها نشأت بفضل القطيعة بين العقل واللاعقل أو الميث.والميث باليونانية يعني القصة الخيالية التي عادة ما تكون موضوع الدراما كما في اعتبار أرسطو لها أهم مقومات الشعرية.

فيكون القصد بما قطع معه العقل (اللوغوس) من جنس المقابلة بين ملكة إدراك الواقع وملكة إبداع الخيال وهذه هي الدلالة المقصودة بكلمة ميث وهو قصة ذات حبكة خيالية وليس صوغا لمعطيات واقعية تصف ما في الأشياء على ما هي عليه. ونسب الديني إلى هذا المعنى.فصار الفلسفي واقعي والديني خيالي.

ثم انتقلت المقابلة إلى الموضوع نفسه: موضوع العقل هو الحقيقة التي صارت ما يطابق الوجود الخارجي ذي القيام المادي الطبيعي أو أحيانا ما له علاقة به من القوانين والتي تتصور أحيانا وكأنها عقول مفارقة تحرك الظاهرات الطبيعية.وموضوع “الوحي” هو اللاحقيقة أو الميث كانحراف خيالي عن العقل.

وساد عند الفلاسفة وخاصة أفلاطون وحتى أرسطو أن ذلك من جنس الجنون الناتج عن فورات نفسية عند المتنبئين من جنس الكهنة ولاعلاقة له بنوع من الإدراك قد يكون من رتبة العقل الطبيعية في النفس الإنسانية وقد يكون متقدما عليها تقدم الإبداع الجمالي لمعايير الذوق على العلمي لقوانين الطبيعة.

وحتى نتجاوز الاعتراض السطحي المتعلق بأمرين: 1-شطحات الفكر الديني ودروشاته اولا 2-توظيفات الفكر الديني وتدنيساته يكفي أن أقول إن هذين الانحرافين يوجدان في ما يسمى فلسفة وعقل بدرجة أكبر بكثير مما يوجد في ما يسمى دينا. كلاهما ينحرف وكلاهما يوظف وكلاهما معرض للخلط بين الحق والوهم.

لذلك فلن أهتم كثيرا بالجدل الإيديولوجي لكأن الامريتعلق بالمفاضلة بين الديني والفلسفي بالاستناد إلى هذين الدائين. فالمفاضلة جعلت المدافعين عن الدين ينسبونهما إلى الفلسفة والمدافعين عن الفلسفة بنسبونهما إلى الدين ومن ثم فالأمر يؤول إلى مقابة بين موقفين لم يغص أصحابهما لأصل القضية.

وسأبدأ أولا بدلالة العقل في الفلسفة اليونانية. فالكلمتان المحيلتان عليه هو “لوجوس” و”نوس”. والأول يغلب عليه معنى العلاقة والربط كما في كلمة عقل يعقل عقلا كعقل الناقة ويستعمل للدلالة على الفكر واللغة. لكن ما يرفعه إلى كائن يتجاوز الملكة الإنسانية يحمل أسما آخر هو “النوس”.

والنوس يعتبر مبدأ ناظما ليس للفكر واللسان فحسب بل للموجودات ذاتها وهذا المعنى الثاني يفاد أحيانا بكلمة لوجوس أيضا لكن الغالب التمييز بينهما. فيكون النوس مبدأ “خلق”ونظم وجودي واللوغوس مبدأ نظم وتعبير فكري ولساني.له معنى ثالث وسيط يدرك المعاني أو الحقائق البسيطة ويشبه معنى الحدس.

وعليه يؤسس أرسطو نظرية إدراك البسائط التي تتألف منها الحدود (التحليلات الأواخر) وهو إدراك مباشر خال من الاستدلال وغني عنه ومن ثم فهو نوويسيس (إدراك مباشر) بخلاف النظر الذي هو ديانوويسيس (إدراك غير مباشر) ويقابل الزوجين عند المتكلمين بين الضروري والنظري.

والمعلوم أنه ليس من عادتي التذكير بما يعتبر من زاد المتعلمين لكن ما سأقدم عليه يستدعيه لأن ما يناظره في القرآن مجهول أو لا يقبله من يغفلون عن الدقائق واللطائف الأعمق في الديني بسبب اعتقادهم في المفاضلة التي بينت أنها عديمة الأساس لأن الدائين لا يصيبانهما بل يصيبان أصحابهما.

فالفساد يصيب الفلاسفة ورجال الدين وكلاهما يتحول إلى كنسية وساطة وحكم وصاية (أفلاطون مثلا يعتبر السياسة حكرا على الفلاسفة ويؤمن بالدكتاتورية لاحتكار الفلاسفة الحقيقة). ومعنى ذلك أن نظرية المعرفة الاجتهاد الذي ليس محيطا ينفيها بعض الفلاسفة وبعض رجال الدين من القائلين بالمطابقة.

وقد سبق فشرحت هذا المعنى لبيان أن العقل حتى في هذه الحالة فهو يدرك ما يتجاوزالمدارك الحسية بوصفه “ملكة” تلق وتأويل ثمرتها الفهم. وقد عبر القرآن عن إحدى درجاته بـ”لايفقهون قيلا” بمعنى أن العقل المتلقي في هذه الحالة يجمع بين الإدراك الحسي والإدراك اللساني نفاذا إلى ما يتجاوز حامليه.

والنفاذ إلى ما وراء الحاملين الحسي والقولي يبقى مع ذلك تلقيا وليس بثا رغم أن “صم بكم عمي فهم لا يعلقون” فيها بكم بمعنى أن من شروط غياب “لا يعقلون” ليس غياب السمع وغياب البصر بل وكذلك غياب النطق فيكون لا يعقلون يعني عدم القدرة على التعبير اللساني: بكم.

لكن ذلك يتعلق بالحد الأدنى لأن هذا النص تعريف بالسلب لما يفقده من لا يفهم الخطاب القرآني وإذن فالأمر يتعلق بمقارنة بين ما يحدث للأصم والأبكم والأعمى من عدم الفهم في العالم الطبيعي والحسي وما يحدث لمن يكون فاقدا لشروط تجاوز هذا العالم الطبيعي والحسي عند الكلام على معان أخرى.

وحتى أشرح هذا المستوى الثاني من المعاني قست كل الحواس على المقابلة بين البصر والبصيرة. فنحن نسلم للبعض بكونهم ذوي بصر لكنهم عديمو البصيرة.والقصد أنهم يرون حامل المعنى ولا ينفذون إلى المعنى مثل من يرى السبابة التي تشير ولا يرى المشار إليه. والآية هي المشارة إليها في الحامل المشير.

فيكون القصد أن من لا يفهم القرآن خطاب القرآن حول منزلة الإنسان والعالم الشاهد في الوجود ككل وما يترتب عليه بخصوص دوره الذي يغفله عنه الغرق في الاخلاد إلى الأرض حتى يصبح كالأصم والأبكم والأعمى وغير القادر على الفهم تنبيها إلى مدارك غائية أسمى تصاحب مدارك الوسائط. الأداتية.

والوسائط الأداتية للتلقي والفهم هي الوحيدة التي يمكن أن نقول إنها مشتركة بين الدين والفلسفة بمعنى أنها موجودة في الدين وجودها في الفلسفة. لكن الدين يضيف وسائط أداتية يغلب عليها البث والإفهام أكثر من التلقي والفهم وطبعا فهي تفترضها ولا تتوقف عندها بمعنى أنها شارطة لثمرتها.

وشرطها لثمرتها يعني أنها تحتوي على معيار التحقق من حصولها وهي ما يجعل التمييز بين البصر والبصيرة وقياسا عليها بقية الحواس إذ وراء كل حاسة حادسة من حنس البصيرة بالقياس إلى البصر وهما كذلك فعلان أولهما التسمية والثاني البيان: علمه الأسماء كلها وعلمه البيان.

فلكتا الأداتين متجاوزة للإدراك الحسي وللإدراك العقلي اللصيق بهما إلى ما ما يجعل البصر يصبح بصيرة والسمع سميعة والشم شميمة والذوق ذويقة واللمس لميسة يعني إلى ما يتجاوز حامل المعاني والدلالة إلى اليهما بوصفهما المشار إليها وليس السبابة المشيرة إلى ما وراء مداركنا الحسية وعقلنا.

فتبين حقيقة القرآن فيها تكون بما يريننا الله من آياته في الآفاق وفي الأنفس.فتكون حقيقة القرآن ليست آيات النص بمعنى فقراته وجمله بل ما توحي به مما ينبغي النفاذ إليه وراءها ووراء المدارك الحسية والعقلية دون أن تكون من الغيب لأنها تتعلق بآيات في الآفاق(الأعيان) وفي الأنفس (الأذهان).

فإذا ناظرنا ذلك بالمعادلة الوجودية كانت آيات الله في الآفاق هي مجال العلاقة غيرالمباشرة بالله بتوسط ما وراء العالمين الطبيعي والتاريخي وكانت آياته في الأذهان هي مجال العلاقة المباشرة بين الله والإنسان. فيكون الماوراء ليس من أوهام الخيال بل هي متأصلة في الكيان وسما يشير للعلاقتين.

وبلغة ديكارتية هي علامة فعل الخالق الممهورة في المخلوق ولا يستطيع تصور شيء يدركه من دونها بل هو لا يدرك حقا بمعنى الفرق بين البصر والبصيرة إلا بالقدر الذي يرى فيه هذا الوسم أو الطابع الممهور في كيان المخلوق وهو عند الإنسان مضاعف: فيه ككل مخلوق وفيه الوعي به.

.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي