القرآن: “متن” الديني والفلسفي ووحدتهما – الفصل الثالث

**** القرآن أو “متن” الديني والفلسفي ووحدتهما الفصل الثالث

أعلم أن أدعياء الالتزام بقواعد الفكر الفلسفي كما وصفته والمركزين على القطيعة التي بينت دلالتها والتي يعتبرونها بداية الفكر العقلاني سيعيبون على كلامي أنه يقارن الفلسفي بما لا يقبل المقارنة معه حسب رأيهم. وحتى أزيل كل حججهم فإني جدليا سأقبل أن ما في القرآن ليس وحيا بل هو كلام بشري للرسول.

ذلك أن طلبي في المحاولة ليس إثبات الطبيعة المنزلة للقرآن بل بيان أن القرآن حتى لو قبلنا بأنه من تأليف الرسول فإنه أبلغ حجة في المسألة المتعلقة بقضية المعرفة الإنسانية من كل النظريات الفلسفية التي عرفتها البشرية إلى حد الآن. والفلسفة نفسها في ما توصلت إليها الآن يجعلها تتخلى عن كل أوهامها.

وكل أوهامها تعود إلى عقيدتين ينسون أنهما من أفسد العقائد: 1-أنها علمية وعقلانية 2-وأن العلم الإنسان محيط بحيث يمكن أن يعلم الأشياء على ما هي عليه. والاولى ليست صحيحة حتى في عصر أفلاطون وأرسطو ناهيك عنها اليوم والثانية من أكبر أدلة الحماقة التي تنتج عن وهم المطابقة.

والقرآن -حتى لو سلمنا جدلا بأنه من تأليف الرسول وليس منزلا-ينفي أن تكون الرؤى الفلسفية والدينية علوما بل هي رؤى لآفاق مشروطة في العقد والنظر وفي الشرع والعمل محددة لشروط إمكناهما بمعنى أن الإنسان لا يمكن أن ينظر وأن يعمل من دون أن يكون له رؤية ما قد تكون ذات أسلوب ديني أو ذات أسلوب فلسفي. وكلاهما غاية الثاني أو ينتهي إليه.

والقرآن ينفي الإحاطة على المعرفة والعمل الإنسانيين بل الأول اجتهاد والثاني جهاد وهما محدودان بمحدودية مقومات موجود الإنسان أعني إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده. فهذه جميعا محدودة ومدركة لمحدوديتها. فلا أحد يتوهم أن إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجود مطلقة بل هي شديدة النسبية.

ولهذه العلة فأنا في هذه المحاولة لا أريد أن يظن القاريء أن الشواهد القرآنية التي أبني عليها تستمد دلالتها أو حجيتها من سلطتها الدينية بل هي تستمدها من مضونها القضوي بصرف النظر عن موقفي القضوي منها أعني بصرف النظر عن درجات اعتقادي بها ولا أشترط من القاريء ذلك.

ذلك أن ما يعنيني هو إزالة الاحتجاج بالمقابلة بين نصين أحدهما يستمد سلطته من كونه من المقدسات والثاني ليس منها. ذلك أن مجرد إدعاء أن الفلسفي علمي وأن العلمي محيط نخرج مما ليس مقدسا فندعي للعقل قدرة قدسية في المعرفة وحصر الوجود في العالم المادي وليس مجرد أداة إدراك شديدة النسبية.

ذلك أن ما يعنيني هو إزالة الاحتجاج بالمقابلة بين نصين أحدهما يستمد سلطته من كونه من المقدسات والثاني ليس منها.فمجرد إدعاء أن الفلسفي علمي وأن العلمي محيط نخرج مما ليس مقدسا فندعي للعقل قدرة قدسية في المعرفة وليس مجرد أداة إدراك شديدة النسبية لحصرالوجود في العالم المادي.

وإذا لم يحصر الوجود في العالم المادي فينبغي أن نحدد المقصود بما ليس ماديا في المعرفة الفلسفية حتى لو توهمناها علمية وما هي بالعلمية. فما في الفلسفة أي فلسفة مما ليس بمادي من موضوعاتها يجعلها بالضرورة “تؤمن” بما هو جنيس ما يؤمن به الدين لأنها ليس لها طريق برهانية توصل إليه.

ولا يهمني الفرق بين تصورات ما ليس بمادي من الوجود ما يعنيني هو أن الفلسفة -إذا ما استثنينا الفلسفات المادية وهي أدنى ما عرفت الفلسفة من الرؤى-تنتهي دائما إلى ما وراء ليس من طبيعة الموضوع الذي حددت ما وراءه حتى لو قال أصحابها بوحدة الوجود الطبعانية كما في فكر سبينوزا.

فالطبيعة في هذه الرؤية لها وجهان. فبما هي طابعة Naturans تختلف عنها بما هي مطبوعة Naturata. فتكون المقابلة بين الفاعلية والانفعالية مقابلة فلسفية “خاصية”مجانسة للمقابلة بين الخالقية والملوقية عبارة دينية “عامية”. ولا يهم إذا هذا المافوق محايث في المادون فالفرق الكيفي باق.

لست أقارن بين علمين -لاالدين موضوعه العلم بمعناه التقني الذي يتعلق بقوانين الأشياء طبيعية كانت أو تاريخية ولا الفلسفة كذلك- بل بين رؤيتين لمنزلة الإنسان بكل أبعادة في الوجود أو بكل مقوماته إرادة وعلما وقدرة وحياة ووجودا ولدوره فيه وشروط قيامه المناسبة لهذه المقومات أداة وغاية.

وما أريد إثباته أو أطروحة المحاولة هي أن الديني والفلسفي في القرآن وجهان لعملة واحدة أي إن القرآن رؤية دينية وفلسفية في آن وهو ما بعد الديني وما بعد الفلسفي لأن ما فيه هو أولا عمل تفكيكي لأسلوبي الرؤية وللتجارب السابقة لنقدها وتقويمها استنادا إلى كونهما من مقومات وجود الإنسان.

والقصد أن القرآن يعتبر الإنسان ديني وفلسفي بالطبع بمعنى أن له رؤية فلسفية تتعامل مع العالم الطبيعي والتاريخي بوصفهما مجال امتحان إرادة الإنسان وعلمه وقدرته وحياته ووجوده بأسلوب ينطلق من الطبيعي إلى التاريخي وما بينهما من ما بعد يصل بينهما ويتعالى عليهما.

ولا يبقى الفلسفي فلسفيا إذا اقتصر على الطبيعي والتاريخي ولم يسم إلى ما ورائهما أيا كانت طبيعته. ولا يبقى الديني دينيا إذا لم ينزل إلى ما دون الماوراء إلى إلى التاريخي والطبيعي ليحقق شروط قيامه باعتباره مستعمرا في الارض ومستخلفا: يشتركان في البداية والغاية بترتيب مختلف.

والديني يفعل نفس الشيء ولكن في الاتجاه المقابل بمعنى أن مساره يبدأ حيث ينتهي مسار الفلسفي: يبدأ من التاريخي إلى الطبيعي وما بينهما من ما وراء يتعالى عليهما وهو المستوى الثاني من علاقة الإنسان بالله أو بمبدأ الموجود.فيتحدان في ضرورة الماوراء وإن اختلفاء في تحديد طبيعته.

وما كان ذلك يحصل فيهما أي ما كان للفلسفي أن يطلب ما وراء غاية لبداية مما دون وما كان للديني أن يطلب ما دون غاية لبداية ما وراء لو لم يكن الماوراء في الحالتين من مقومات الفعلين وهو عين العلاقة المباشرة بين الله والإنسان العلاقة التي تتجلى في الحاجة إلى الماوراء بتقديم وتأخير.

وهذا الوصف للعلاقة الذي حاولت عرضه بكل أمانة نجده في القرآن ما يجعله أسمى من ا لوصف الفلسفي لها. ذلك أن القرآن لا يحقر من الرؤية الفلسفية ولا ينسبها إلى الخيال بل ما يعيبه عليها هو قصورها عن إدراك طبيعة حظور الماوراء ومتاه ظنا أنه خيالي وأنه بعد يبنى على “علم” فلسفي.

ومنطلق الفصل الذي خصصه ابن خلدون بعنوان “ابطال الفلسفة وفساد منتحلها” لا يقصد العلوم التي يظن أنها مضمون الفلسفة بل هو يقصد هذه المفاضلة بين الديني والفلسفي والتي ترد الماوراء فيها إلى ما حصل في معرفة العالم الشاهد بوصفها هي السعادة الاخروية لأنهم يردون الوجود إلى الإدراك.

ورد الوجود إلى الإدراك يفيد أمرين: 1-معرفي ويتمثل في توهم الإحاطة في العلم الإنساني 2-ووجودي ويتمثل في اعتبار الإنسان مقياس كل شيء وجوده وعدمه. والجمع بين الأمرين هو الرؤية السوفساطية التي تقول بهذا المعنى: الإنسان مقياس كل شيء. ومنه القول بالمطابقة: علمي مطابق للوجود.

ومن ثم فما يختلف عن علمي وهمي (نظرية بارمينيدس في التوحيد بين الوجود واللوجوس). وبهذا المعنى ليس الغيب وحده هو المنفي بل وكذلك لامتناهي المجهول إذا قسناه بمتناهي المعلوم. ما يعلمه الإنسان من الوجود لا يتجاوز الصفر بكثير إذا قسناه بالمجهول منه. والحمد لله أن الفلسفة وخاصة بعد انتقال التشويه المعرفي إلى التشويه العملي تحررت. فهي تحررت من الوهمين حتى وإن وقعت في ضديدهما:

الأول وهو معقول ويتمثل في المبالغة في نفي أي دلالة وجودية حقيقية لعلم الإنسان نفيا لعلم الحقيقة (كنط وفرضية الشيء في ذاته).

والثاني لم يعد معقولا حتى بهذا المعنى لأنه جعل كل معرفة”سردية”نفيا ليس لعلم الحقيقة فحسب بل لوجودها في ذاتها.

فتكون الفلسفة قد انتقلت من نفي القول الموجب بالمطابقة إلى القول السالب ليس للمطابقة فحسب بل لما يمكن أن تحصل معه مطابقة ولو جزئية وناقصة .وهذا هو معنى القول بالسرديات أو بالرؤية المناظيرية عند نيتشه. لكن المراوحة بين قطبين متنافيين يحولان دون وظيفة “النور الفطري” أو الطبيعي بالمعنى الديكارتي.

وقد يترتب على هذه النتيجة وهمان كل سعيي هو تحرير فكرنا منهما: 1-الظن بأني أتكلم على ما سماه ابن تيمية درء التعارض ردا على القائلين به والساعين لإزالته بالتأويل. فهذا الظن الأول معناه القول بالفصل الأصلي والوصل بين نقل لا عقل له وعقل لا نقل له. وهما دليلا سخف المقابلة بينهما.

ثم بعد ذلك وهو ألاخطر : توهم النقل الديني فيه علم الغيب وليس مجرد إخبار بوجوده وبالدعوة إلى الاعتقاد في وجوده مع الاعتقاد في حجبه في الحياة الدنيا. ولذلك فابن رشد يؤول آل عمران 7 تأويلا يجعل الـ”و” فيها عطفية لا استئنافية ما يعني أن العقل الإنساني يعلم الغيب بالتأويل.

لكن لا نقل من دون عقل لأن الأول هو مضمون التجربة الروحية والثاني هو شكل التعبير عنها. ولا عقل من دون نقل لأن الشكل العقلي للعلم الطبيعي مثلا هو التجربة العلمية. خرافة المقابلة بين النقل والعقل دليل جهل بهما معا وليس مسلكا يتأسس عليه تأويل الاول كظاهر بالثاني كباطن.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي