ما الذي يجعلنا لا نكاد نشك في وجود “شيء” قائم بذاته وراء إدراكاتنا الحسية على الأقل بعد التثبت وعدم الوقوع في الوسوسة لكننا لا نكاد نثق في وجود “شيء” قائم بذاته وراء إدراكاتنا العقلية ونعتبرها من عمل العقل وليست مثل إدراكات الحواس التي لا ننسبها إلى عملها؟
وما الذي يعلنا نستنتج من ذلك أن العالم نوع واحد من الوجود هو هذا الشيء القائم بذاته وراء إدراكاتنا الحسية رغم أننا نعترف بأننا ما ندركه ليس كل المدرك الممكن إذا سلمنا بقيامه الذاتي ونعتبر ما لم ندركه مردودا إلى ما المدرك الممكن بالحواس؟ونعتبر مداركنا العقلية من طبيعة ذهنية.
ما الذي يجعلنا نرد ما يتجاوز المحسوس الممكن خياليا ووهميا فنخسر من نظرية المثل الأفلاطونية ومن المعتقدات الدينية في عالم آخر اسمى من هذا العالم الحسي رغم أننا لا ننكر أن الإنسان مهما أحجم عن النظر في هذه الأمور غير المسحوسة لا يستطيع الاقتصار على ممكن المسحوس بل يطلب ما وراءه؟
هل يمكن أن نقبل بالحل الارسطي الذي يجعل الصور العقلية محايثة في محسوس الأعيان وفي معقول الأذهان المحسوسة أو محايثة في الأذهان باستثناء المحرك الأول الذي هو عنده بمنزلة الرب وقوانين الحركات الفلكية في العالم السرمي وفي قوانين دورة الكون والفساد الجارية في مادة في ما عداهما؟
وهل يمكن أن نقبل ما تجاوز به العلم الحديث الذي انتقل من الهويات الجورية للموجودات إلى ما بينها من علاقات قابلة للقيس فاعتبرها هي القوانين التي تحكم مسار العالم الطبيعي المادي بالجوهر والإدراك العلمي لا يتجاوز اكتشاف هذه العلاقات وصوغها الرياضي وهي ليست كائنات قائمة بذاتها؟
وبعبارة جامعة مانعة هل يمكن للإنسان أن يكتفي في وجوده بما يرد إلى مداركه الحسية أو العالم الطبيعي فيكون حبيس المحدود والمتناهي رغم أنه لا يستطيع بمقتضى إدراكه العقلي أن يلغي من قيامه الفعلي هذا الوعي بأن كل متناه وراءه لامتناه هو علة قيامه لأن الفاني يعسر تصوره قائما بذاته؟
والعلاقة بين الفناء والبقاء ليست علاقة سببية فيكون القصد وكأننا نعتبر ما يتعالى على العالم الطبيعي وعلى مدراكنا الحسية سببا لوجود هذا العالم القائم بذاته وراء مداركنا الحسية القائمة بنا بل هي علاقة بين مقومة لكلا المفهومين:فالفاني تعني ما لا يقوم إلا بما فيه من بقاء.
خذ لك أي مدة بين لحظتين مهما كانت قصيرة فأنت لا تستطيع تصورها عقليا إلى قابلة للقسمة إلى ما لا يتناهى من لحظات البقاء ولو لطرفة عين.فيبدو هذا الأمروكأنه يضفي المصداقية على نظرية هيجل في الجدل بمعنى أن النقيضين “فناء”و”بقاء”متلاحمان فيكون الأول عدما والثاني وجودا والحصيلة الجدلية صيرورة.
ولو كنت أصدق حل هيجل لما وجدت معضلة بالنسبة إلي. فمشكل هيجل هو القفز غير المعلل من معنى الفناء إلى معنى العدم. فالفناء لا يعني العدم بل هو يعني محدودية مدة القيام.والقيام مهما قصرت مدته ليس عدما. والبقاء لا يعني الوجود بل هو يعني لا محدوديةالقيام. ومهما طالت مدته فليس هو الوجود.
والحاصل من تلازمهما في تقديرنا لنوعي القيام بالمدة لا يعني أن المدة ستكون أمرا في نسبة الصيرورة للوجود والعدم في جدل هجل. وهي إذن ليست نقلة من أحدهما إلى ثانيها وتوليفا من حاصلها تضادهما. إنها شيء قيام ليس لتقسيمه نهاية رغم أن له أقساما ذات نهاية نسبية لأنها كيان فان باق في آن.
وهذا القيام الفاني الباقي في آن هو ما به يعرف القرآن الإنسان. فسواء كان خيرا أو شريرافهو فان وباق في آن حتى وإن كان وجه الفناء يغلب على وجوده المتناهي ووجه بقائه يغلب على وجوده اللامتناهي وذلك هو الفرق في المعتقد الإسلامي بين العالمين أو الدارين أي الحياة الدنيا والحياة الأخرى.
والبقاء المحيل على الفناء محيط بالفناء المحيل إلى البقاء.فالإنسان لا يتصور مدته منحصره في حياته الدنيا لا ينفي أنها فناء لكنه يؤمن بأنها تحيل إلى البقاء إذ هو لا يستطيع تصورها من أن يضع لها قبلا وبعدا كلاهما ينتسب إلى البقاء المحيل على الفناء: الإنسان هو الإحالتان المتبادلتان.
وقد يتوهم الكثيرأن البقاء المحيل على الفناء هو عين علاقة الروح بالبدن. ون الفناء المحيل على البقاء هو عين علاقة البدن بالروح. لكن الإسلام يدحض ذلك لأن البعث لا يقتصر على الروح فيه ولأن الإنسان لا يعتبر نفسه في ما قبل الدار الأولى وما بعدها روحا بلا بدن أو بدنا بلا روح.
ومن هنا يأتي القول بأن ما يتجاوز المدركات الحسية من أوهام الروح بل والروح نفسها من أوهامها عن نفسها فتكون من جنس “الكاوزا سوي” اي علة نفسها.وما كان علة نفسه فينبغي أن يكون سابق الوجود عن إيجادها لسبق العلة على المعلول فلا يكون إلا باقيا أي أنه يأتي عليه حين لم يكن فيه شيئا.
وبذلك يتبين أن الصوغ المفهومي في عبارته الدينية عندما نترجمها إلى عبارة فلسفية أدق من عبارة هجيل التي أفسدتها القفزة غير المبررة التي ذكرت أعمق فلسفيا من كل أعمق فلسفة تصورناها متجاوزة للمنطق الارسطي وحتى الأفلاطوني لأنها تميز بين الفناء والعدم وبين البقاء والوجود.
ونأتي الآن إلى مفهوم الوجود والموجود. والانطلاق من الثاني لفهم الأول. فهو اسم مفعول من “وجد” بمعنى أول هو أدرك شيئا قائما بذاته مثل وجد الضالة أي ما كان يبحث عنه فأدركه. وهو إذن معنى معرفي صار ذا دلالة على قيام المدرَك. لكن لمعنى وجد دلالة ثانية لها علاقة بالثروة والقدرة.
كما في كلمة “فرموجن” الألمانية التي تعني القدرة والثروة وهي إذن معنى دال على القوة إما مباشرة أو بما يرمز إليها ويحققها مثل الثروة.والمعدم مثل الموجد كلاهما يدل على الثراء والفقر. ويمكن أن نعتبر ذلك دالا على كثافة القيام بالذات أو قوة الحياة رمزا إليها بملكية ما تستمد منه.
ولما كان ذلك من أجل البقاء والديمومة فإن البقاء والديمومة هي “المقدار” القيامي في الموجود والوجود من ثم معنى لاحق للبقاء وليس سابق عليه. ولذلك فلا يمكن أن نتكلم على الله بصفة الموجد بل نكتفي بالكلام عليه بصفة الموجد أي اسم فاعل بمعنى أنه يعطي القدر المعلوم من الديمومة.
فتكون الديمومة المعطاة باقية من حيث المعطي وفانية من حيث المعطى له. والمعطى له فيه إحالة إلى المعطي والمعطي فيه إحالة إلى المعطى له. وتلك هي العلاقة المباشرة بين الله والإنسان في ما سيمته المعادلة الوجودية التي تتعلق “المقدار” القيامي للإنسان في علاقته بمصادرالقيام.
وبهذا المعنى فالإلحاد “موقف قضوي” وليس قضية أي إنه مقدار الحكم المعرفي وليس حقيقة المحكوم به أو عليه. ذلك أن الحقيقة التي هي مضمون القضية في الحكم المعرفي لا يحددها الموقف القضوي الذي يتعلق بدرجة الاعتقاد وليس بالكثافة القيامية التي لصاحب الموقف القضوي:درجة من عدم الوعي بالذات.
فلا يمكن أن يوجد إنسان واع بذاته حقا ويدعي أن إرادته مطلقة وأن علمه مطلق وأن قدرته مطلقة وأن حياته مطلقة وأن وجوده مطلق بل هو يطلقها كلها أو بعضها عندما ينسى مدى كثافته القيامية فلا يرى مثلا أنه لا يعيش بعد آنه لحظة أخرى وهو يجرب ذلك يوميا عندما ينتقل من اليقظة إلى النوم.
فما يحصل للإنسان في لحظة الانتقال من اليقظة إلى النوم أو العكس من النوم إلى اليقظة يعيش الإنسان ما يعيشه من ينقطع عليه نور المصبح فجأة وينار فجأة. لكنه يعيش بين الانقطاع والإنارة لحظات حلم فيها نور آخر مع غياب نور اليقظة وظلام ا لنوم. وفيها جيمعا نحن أمام تلازم الفناء والبقاء.
والأمر الثاني: 2- التزم بالمبدأ العام الذي جعلني أقدم على قراءة القرآن قراءة فلسفية. فلو لم أكن اعتقد أن القرآن هو “متن” الديني والفلسفي وأن تفسيره هو:1-البحث في ما وراء فلسفة الدين 2-وفلسفة الطبيعة 3-وفلسفة التاريخ 4-وفلسفة العقد والنظر 5-وفلسفة الشرع والعمل.