القرآن رسالة تذكير للعقل تعلمه بوجود الغيب ولا تتضمن علما به

ه

ما الفائدة الابستمولوجية في النظر والعقد (نظرية المعرفة) والأكسيولوجية في العمل والشرع (نظرية القيمة) بالنسبة إلى المهمتين اللتين انشغل بهما في محاولة فهم القرآن الكريم فهمها يخلصه مما شاب علوم الملة من التحريف ولا يزال للتي تدعي العقل أو تدعي النقل وأهم تحريف هو هذه المقابلة؟
هل كنت أنشغل بعمل ابن تيمية وبعمل ابن خلدون لو لم أكن اعتبر ما قدماه يمكن أن يكون منطلقا لفهم التحريفين أولا وبداية للبديل الممكن ثانيا تمهيدا للاستئناف الذي تطلبه الأمة لدورها في التاريخ استئنافا لا يكرر أخطاء اللقاء الأول بالفلسفة وما يظن علوما تابعة لها خلال اللقاء الثاني بنفس الحكم المسبق أي المقابلة عقل نقل وبين دنيا ودين وما ترتب عليهما من صراع في الفنين النظرين (الكلام والفلسفة حول الإيمان والعلم) والفنين العمليين (الفقه والتصوف حول القانون والأخلاق) وفي أصلهما أو التفسير بخلاف ما يفهم حقا من فلسفة القرآن ورؤيته؟
فمن يدعون الكلام باسم النقل كانوا يزعمون أن علمهم فيه ما يتجاوز العقل. ومن يدعون الكلام باسم العقل يزعمون أن علمهم فيه ما يرد إليه النقل. وذلك في علمي النظر والعقد (الكلام والفلسفة) وفي علمي العمل والشرع (الفقه والتصوف). والتحريف شامل للزعمين. وما حصل في اللقاء الأول مع الفلسفة اليونانية القديمة يتكرر في الثاني معها في الفلسفة الغربية الحديثة.
ومن يمثلون ما سميته بـالمدرسة النقدية وجدت لديهم ما يبدو وعيا حادا بهذه الإشكالية ومحاولات لعلاجها علاجا تدرج من التشكيك والتردد عند الغزالي إلى فتح باب البحث الأبستمولوجي الجدي في النظر والعقد عند ابن تيمية إلى فتح بال البحث الأكسيولوجي في العمل والشرع عند ابن خلدون. فانطلقت منهم ثلاثتهم في سعيهم للتخلص من الرؤية اليونانية لنظرية العلم ونظرية القيمة.
ومهما وثقت في نفسي واعتدادي برؤيتي فإني لم أكن لأغامر في مراجعة شاملة لعلوم الملة الغائية والآلية من دون سوابق تؤيد ما أحدسه من تحريف ومحاولة علاجه. فأهم هذه العلوم التفسير الذي هو أصلها جميعا وما كنت لأجرؤ لو لم أجد بذرات واعدة تحقق مشروع مراجعة جذرية لهذا الأصل ولفروعه الأربعة أي فرعي النظر والعقد أو الكلام والفلسفة وفرعي العمل والشرع أي الفقه والتصوف مع علوم الآلة الخمسة المعلومة.
فلعلوم الآلة الغالبة على علوم الملة خمسة اثنان هما اللغة والتاريخ ويغلبان على علوم الملة الأهلية واثنان هما المنطق والرياضيات ويغلبان على علومها الموروثة عن اليونان خاصة. والخامس لم يكن واضح المعالم ولعل أول من لامسه هو ابن تيمية في كلامه على اللغة ورفضه المقابلة حقيقة مجاز.
لكن النوعين من العلوم تمازجت آلاتها في حدها الأدنى لأن المنطق والرياضيات حتى في الفلسفة وما يعتبر من علومها لم يكن لهما دور يتجاوز ما توصل إليه أرسطو وبعض الشروح دون اجتهاد فعلي من مستوى ما اعتبره ثورة عند ابن تيمية ليس بما ورد في كلامه على المنطق بل على شروط استعمال منطق أرسطو.
ولذلك فكل من يتكلم على نقد المنطق عنده كما في محاولتيه حول المنطق متصورا أن الامر يتعلق به من حيث هو صورة من صور القياس لم يدرك تماما طبيعة الثورة التيمية التي لا تتعلق بهذا الوجه بل بالتحليلات الثواني وشروط استعمال المنطق الميتافيزيقية وأولها اعتبار العقل مرآة عاكسة للموجود.
ونفس الأمر في ما يتعلق بابن خلدون. فمن يتصور أنه ينقد مثالية أفلاطون يبتعدون عن جوهر الإشكال الذي يعالجه ابن خلدون ابتعادهم عن جوهر الإشكال الذي يعالجه ابن تيمية. فلا ابن تيمية ضد المنطق ولا ابن خلدون ضد المثالية إلا إذا حصر المنطق والمثالية في شكلهما الأول عند أفلاطون وأرسطو.
ولهذه العلة جعلت الأسماء الأربعة جزءا من عنوان القسم الثاني من رسالة الدكتوراة في النظام الفرنسي القديم: من واقعية أرسطو وأفلاطون إلى اسمية ابن تيمية وابن خلدون وهو الجزء الذي يحمل عنوان إصلاح العقل في الفلسفة العربية. فالإصلاح هو هذه النقلة من الأولين إلى الثانيين وهو ثورة بحق.
فما سميته واقعية أرسطو وأفلاطون هو ما تكلمت عليه في هذه المحاولة وهو اعتبار الكليات حقائق موجودة فعلا وهي مقومة للأشياء إما المشاركة الأفلاطونية بين المثال المتعالي والممثول المتداني أو بالمحايثة الأرسطية حيث يكون المثال صورة حاصلة في الأشياء. وكلتاهما نفاهما ابن تيمية وابن خلدون.
والغريب هو أن النفي التيمي أكثر صراحة ولم يكتف بالنفي بل ذهب إلى اعتبار الكليات بالمعنى الأفلاطوني والأرسطي ليسا مقومين بل إن دورهما -المعاني-لا يختلف عن دور الألفاظ والكتابة. ولهذا اعتبرتهما أسماء لا غير أي مجرد رموز معبرة وليست دالة على أمر مقوم للأشياء التي تشير إليها.
لكن ابن خلدون حتى وإن لم يستعمل ولا مرة ما يفيد أنه ينفي صراحة الكليات المقومة إلا أنه ينفي المطابقة ومن ثم فلا يمكن إذن أن تكون الكليات في الأقوال مطابقة لما قد يكون ما تحيل عليه في الأشياء. وقد اشار في كلامه على المنطق الأرسطي إلى أن المتكلمين كانوا يرفضون الذاتي والمقوم.
كما أن ابن خلدون لم يشر إلا إشارة طفيفة إلى تعليل سريع لعدم المطابقة بما في المادة مما لا يقبل الصورة بالمعنى الأرسطي أو مما يتمنع عن قبولها فتكون الصورة التي يدرك بها الفكر الأشياء فيها ما لا يطابق مادة الأشياء ومن ثم عدم كفاية المنطق لحسم هذا التمنع في الأشياء على الصورة.
ورغم عدم وضوح هذا الإشكال فإنه في الحقيقة كان ضربة قاصمة لنظرية العقل في مقابل النقل. ذلك أن العقل بهذه الصورة لم يكن كما يتوهم الفلاسفة ممكن تصوره ذا علم من دون “نقل ما”. ابن تيمية كان أوضع في ذلك لما سأل عن العقل هل هو قوة الفكر أو مضمون الفكر: هل العقلي شكل دون مضمون؟
فإذا كان صورة بلا مضمون أي قوة الفكر فلا يمكن تصور معرفة من دونه سواء كانت فلسفية أو دينية وهذه القوة الفكرية المدركة للمضمون المعرفي واحدة في كل العلوم رغم تعدد أدوات الإدراك أو علوم الآلة. أما إذا بقي هذا الشكل من دون مضمون فهو ليس علما بل هو قدرة على العلم وليس علما فعليا.
وعندئذ يصبح السؤال عن المضمون في المعرفة العقلية أو الفلسفية من أين يأتي؟ أليس هو ما يأتي عن طريق الإدراك الحسي والتجربة؟ من هنا السؤال: هل توجد معرفة حسية وتجريبية تامة أم هي دائما استقراء ناقص؟ فكيف يزعم أنها محيطة بالموضوع وأنها تصح مقياسا للحكم على “النقل” المظنون بلا عقل؟
فكانت النتيجة الحتمية هي قول ابن تيمية “لا يمكن أن يتعارض صريح العقل مع صحيح النقل”. ولكن صحيح النقل هنا لا يخص المعرفة الدينية وحدها بل المعرفة الفلسفية كذلك تماما كما أن صريح العقل لا يخص المعرفة الفلسفية وحدها بل كذلك المعرفة الدينية. وهذا ما يوصلني إلى “تحريف علوم الملة”.
وهو العقبة التي لم يستطع تجاوزها لا الغزالي ولا ابن تيمية ولا ابن خلدون: إنها عقبة توهم المعرفة الدينية تتجاوز المعرفة العقلية بمعرفة الغيب. وهذا هو الوهم الذي قضى على كل إمكانية لاستثمار ثورتهم في نقد الفلسفة اليونانية. وهو وهم يتنافى تماما مع القرآن ومع كونه رسالة تذكير.
ولأبدأ بالغزالي. فلو لم يغفل عن كون القرآن لا يمكن أن يتضمن علما بالغيب لما لجأ إلى خرافة الكشف الصوفي بوصفه يمكن أن يجيب عن سؤاله الشهير للخروج من الشك حول “طور ما وراء العقل”. السؤال ثوري. والجواب نكوص لأنه تصور هذا المفهوم الحد دليل على وجود علم يتجاوز العقل عند الإنسان.
ولو تساءل الغزالي عن تناقض هذا الوهم مع اعتبار القرآن رسالة تذكير بمعنى أنها تذكر الإنسان بما نسيه لكان ينبغي أن يستنتج إما أن الإنسان يعلم الغيب أي طور ما وراء العقل أن طور ما وراء العقل ليس علما بالغيب وإنما هو إعلام للإنسان بوجود الغيب أي أن علمه ليس محيطا فيتجاوز عقله.
وقد فحصت القرآن الكريم فحصا دقيقا بحثا عن شيء فيه يثبت أنه يتضمن علما بالغيب أكثر من الإعلام بوجوده فتبين لي سر التحريف. فـمن يعتقد أن القرآن يمكن أن يبقى رسالة تذكير للإنسانية مع تضمنه ما يشير إليه من أن علم الإنسان ليس محيطا حتى لو كان رسولا ولا يمكن أن يعلم إلا الله.
وبهذا يسقط الوهم الذي يدعي أصحابه أن القرآن معجز علميا. فما كان يمكن أن يعد معجزا علميا هو العلم بالغيب. والقرآن تذكير للإنسان بما يعلم وهو يقول إنه لا يعلم الغيب وكلامه على الغيب إعلام بوجوده وليس علما بمضمونه ومن ثم فهذا هو سر التحريف: التحريف هو الإيهام بأن علمنا يتجاوز عقلنا (تحريف المعرفة الدينية) أو بأن الوجود مقصور على ما نعلمه منه (تحريف المعرفة الدنيوية).
ما يتجاوز عقل الإنسان ليس علم الإنسان الديني بل علم الله المحيط بكل شيء. وشتان بين الأمرين. فعلم الله لا يعلمه غيره وفيه ما نعلمه من عالم الشهادة -ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء -وفيه ما لا يمكن أن نعلمه حتى من عالم الشهادة لأن هذا العالم فيه من الغيب أكثر مما فيه من الشهادة. وحينئذ يصبح مفهوما ألا يكون عقلنا مرآة عاكسة للوجود بإطلاق.
فتكون المعاني التي ندرك بها الأشياء الموجودة مثل الألفاظ والكتابة رموزا تشير إلى ما به نعرف الأشياء دون أن يكون ذلك مقوما للأشياء. وبذلك أكون قد أثبت دعواي بأن سر التحريف هو الفهم الخاطئ لكلام القرآن على الغيب إعلاما بوجوده وليس علما بمضمونه. القرآن رسالة للعقل الإنساني لا غير.
ولأنه رسالة تذكير للعقل الإنساني ليحرره من النسيان فإنه لا يتضمن إلى ما يستطيع الإنسان علمه مع الإشارة إلى أن علمه شديد النسبية لوجود الغيب وهو موضوع إيمان لا موضع علم ومن ثم فعلم الإنسان اجتهاد يصيب ويخطي ولا ذنب في الخطأ إذا كان عن حسن نية وليس بهدف الكذب والغش أصلا للتحريف.
فينتج من ثم أن العلم الإنساني كله سواء كان دينيا أو دنيويا اجتهادي وليس فيه ما يتعالى على المعرفة العقلية. وكل ما يزعم متعاليا عليها مصدره البحث عن تأسيس سلطة روحية تكون وسيطة بين المؤمن وربه تتحالف مع سلطة زمانية تكون وصية على المؤمنين: إنه جوهر الباطنية والتشيع ذروة التحريف.
والسنة ليست بريئة من ذلك تمام البراءة. فهي لم تقل بأن العلماء وسطاء بين الله والمؤمنين ولم تقل إن الحكم حق إلهي. لكنها بصورة غامضة ادعت ما يقرب من ذلك عندما زعمت أن العلماء ورثة الأنبياء دون أن تنفي أن الأنبياء لا يعلمون الغيب واجتهادهم غير معصوم لأنه فهم إنساني لا شك أنه أفضل ما يوجد لكنه يبقى إنسانيا بدليل أمره بـ”شاورهم في الأمر” (آل عمران 159) وبدليل {إنما انت مذكر ليست عليهم بمسيطر} (الغاشية 21-22) وكل ذلك يختلف عن أمانة التبليغ وصدقه اللذين هما مناط العصمة.
وأمانة التبليغ التي هي مجال العصمة انتهت مع الرسول ولا يرثها أحد وإلا نكون قد وقعنا في خرافة التشيع القائلة بأن الأيمة يرثون هذا الوجه لكأن الوحي لم يتوقف وبقي في الأيمة إلى يوم الدين. وهذا لا يقره القرآن ولا يحتاج إليه الإنسان بنص القرآن الذي نفى جوهر التحريف المترتب عليه.
وجوهر التحريف المترتب عليه هو ما دحضته الآية 79 من آل عمران: حتى توجد كنسية للوساطة الروحية أساس الوصاية السياسة لا بد من تأليه المسيح الذي تنوبه الكنيسة للوساطة ولتبرير الوصاية وذلك هو ما أخذته الباطنية والتشيع لتحريف رسالة الإسلام التي تذكر ما فطر عليه الإنسان وتغنيه عنهما.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي