القرآن، بنيته العميقة أو مشروع الرسالة الكوني – الفصل السادس

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله القرآن

وصلنا الآن إلى الفرع الثالث أعني فرع النظر والعقد وما بعدهما. والنظر كما هو معلوم لا يتعلق بالبصر بل بأمر يتجاوز المعرفة المباشرة وهو “الدي-نويا” أو الحدس اللامباشر الذي فيه مسافة بين مقدمة ونتيجة قد تطول وقد تقصر إنه مشروط بمعرفة مباشرة “نويسيس” ختم بها ارسطو التحليلات الأواخر.

وإذن فالمعرفة المباشرة ليست إدراكات الحواس بل ما يصحبها من تجاوز لتفرقها إلى ما يصل بين عناصرها لتحصل منها تصورات تشبه إدراك الماهيات وراء ظهورها للحواس. وهذا النفاذ إلى ما يتصوره القائلون بنظرية المعرفة المطابقة حقائق الأشياء وتصوراتها البسيطة من أعسر نظرية المعرفة.

ففيها حكمان: أول حكم بـ”هوية ما” لموضوع الإدراك وحكم بوجود ذلك المدرك وهما مقوما كل إنية: ماهية متعينة بوجودها في الأعيان. والفينومينولوجيا هو منهجها الأساسي الفصل بين الحكمين بوضع الحكم بوجود هذه “الحقيقة” في الأعيان بين قوسين والاكتفاء بالمعنى في تجربة الإدراك كمعيش Erlebnis.

والتعالي الفينومينولوجي هو موضوع الحكم الثاني بوجود المعنى في الأعيان تعينا للقصدية أو المعنى المدرك في الذهن يوجد خارجه. وهذا هو الموقف الطبيعي الذي لا تبدأ الفلسفة والدين إلا بتجاوزه. وأول من صاغ ذلك صراحة ابن سينا إذ فصل بوضوح بين الماهية والوجود أو المعنى بحد ذاته ووجوده.

وهذا الفصل هو أساس الفرع الثالث في القرآن أو نظرية النظر والعقد وما بعدهما: وهو ما يتبين من ثنائيتين تستحقان التوقف عندهما :

  1. ثنائية الخلق والامر.

  2. وثنائية القضاء والقدر.

وكلتا الثنائيتين تقدمان الوجود على الماهية. فالقرآن يقول إن الله يقضي ويقدر والله يخلق ويأمر.

وكما نعلم فالعطف لا يفيد الترتيب لكن العنصر الثاني في الزوجين مشروط بالأول لأننا لا نتصور أمرا لمعدوم ولا تقديرا. فالقضاء والخلق مترادفان والأمر والتقدير مترادفان. لكن القضاء والقدر أعم من الخلق والامر لأنهما يتضمنان حكمين في فعلين: فالخلق فعل فيه حكم قضاء والامر فعل فيه حكم قدر.

ولولا ذلك لاستحال أن نفهم ما يبدو تناقضا في القرآن: القول بكسبية المعرفة (يولد الإنسان لا يعلم شيئا) وبفطريتها في آن (الميثاق مشروط بشهادة الطرف الثاني الإنسان وهي شهادة على علم وبينة). وهو ما يقتضي التمييز بين فطرية الوعي بالحقائق وكسبية إدراك الوجود المتعين في الخارج.

ولهذه العلة لا يوجد علم من دون حقائق سابقة في الاذهان وتجارب لاحقة في الاعيان وتلك هي العلة كذلك لما بينه ابن تيمية بأن العلم البرهاني الوحيد موضوعه المقدرات الذهنية لكن الوجودات العينية علمها دائما نسبي واحصائي ولا وجود فيه لكليات تعلم علما تاما ابدا بل هي تصنيفات تقنية وعملية.

والمقدرات الذهنية لم يذكر منها ابن  تيمية إلا نوعين هما العدد مثالا من الرياضيات والمنطق مثالا من أنظمة أنساق المعاني المجردة بحسب الغرض من النظام المطلوب بحيث إن أنواع المنطق وأنواع الرياضيات يمكن اعتبارهما لا متناهيين حتى وإن كنا لان نعلم منهما إلا ما نحتاج إليه منها وهو قليل.

وبوصفها مقدرات في مبدعات لموضوعها ولنظامه دون ادعاء وجوده الخارجي ومن ثم فلا مرجعية خارجية لها لكأنها “ماهيات” مجردة يبدعها خيال الإنسان وبعضها يمكن أن يطابق مداركه التي تتجاوز الأذهان إلى الأعيان خلال التجربة فيكون ذلك علما بموجود خارجي.

ولكن في هذه الحالة يكون القول بالمقدرات الذهنية غير مقصور على الرياضيات والمنطق النظري بل يمكن أن نضم إليه السياسيات والمنطق العملي. فمثلما أنه يمكن للخيال الإنسان أن يبدع في النظر والعقد أنساقا رياضية ومنطقية لترتيب المعاني يمكنه كذلك أن يبدع أنساقا سياسية ومنطقية لترتيب القيم.

ولا يمكن للإنسان أن يعلم الطبيعة والتاريخ من دونهما والنوع الاول من المقدرات الذهنية أساس لعلوم الطبيعة وما بعدها والنوع الثاني منها أساس لعلوم التاريخ وما بعدها. والطبيعة حالة خاصة من المقدرات الذهنية الرياضية والتاريخ حالة خاصة من المقدرات الذهنية السياسية.

وهذا ما أفهمه من “علمه الأسماء كلها” إذ إن الله في المشهد الرمزي للاستخلاف اعتبر ما علل حكم الملائكة بعدم أهلية آدم للاستخلاف هو عدم علمهم بهذه القدرة العجيبة التي تجعله مبدعا لما سيمكنه من تعمير الارض بدل الفساد فيها  بفعل حر الاختبار فيه إثبات اهلية الاستخلاف أو نفيها.

ومما يؤيد هذا الفهم -وهو ليس تأويلا-هو أن كلمة “يعقلون” في القرآن لا علاقة لها بما يسميه فلاسفتنا القدامى وحداثيونا بالعقل بل هو فهم الكلام وإدراك العلاقة بين الدوال والمدلولات حالات خاصة من العلاقة بين المعاني التي تتجاوز المدلولات الخارجية إلى ما تعتبر هذه حالات خاصة منها.

ذلك أنه لو كان الكلام مقصورا على الدلالة ولا يتجاوزها للمعاني الاعم لكان الإنسان عاجزا عن تصور منشود غير موجود ولاستحال فهم التغير في الموجود بمقتضى انشداد إلى المنشود ولكانت الابستمولوجيا منافية لوجود الأكسيولوجيا ولصحت نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة ولما تقدم العلم أصلا.

ولو كان فكر الإنسان محصورا في الدلالة -علاقة اسم بمسمى عند جماعة-لكان الفكر مرآة لما يسميه أدعياء الحداثة عقلانية فلا يكذب ولا يصدق بل يكتفي بعكس الموجود خارجه. فلا توجد مرآة تتجاوز عكس الموجود بما تقتضيه صقالتها وتتخيل أمورا لا تراها فيها لكنها تراها مابعدا متجاوزا لما فيها.

فاعلية الإنشاء أوسع من فاعلية الخبر في كل لسان. والإنشاء شرط المنشود المتجاوز للموجود سواء كان التجاوز في شكل البديل الشرطي اساسا لكل افتراض نظري وعقدي أو حتى البديل الفعلي أساسا لكل افتراض عملي وشرعي. وهما منطلقا كل تغيير للموجود باسم المنشود.

وتلك هي العلة في قول القرآن بأن كل أمة لها رسول بلسانها وقوله إن القرآن نزل بلسان عربي لعلكم تعقلون أي تدركون هذه المرونة بين ما تمكن من الأسماء من التحرر من الغرق في الموجود الخارجي لرؤيته من عل فنتمكن من التمييز بين الحق والباطل والجميل والقبيح والخير والشر والجليل والذليل.

عدم المطابقة في المعرفة هي شرط الهامش بين الموجود والمنشود. ذلك أن  المطابقة لو كانت حقيقة لكان الإنسان فاقدا للفرق بين الموجود Etre والمنشود  Devoir  être ولأصبح التمييز بينهما الذي هو شرط الحرية مستحيلا ولما وجدت  القيم غاية للعمل على علم أو الأكسيولوجيا.

وأكثر من ذلك فالعلم نفسه مستحيل من دون هذا الفرق: فما يعمله النظر  ويؤمن به العقد ليس ما ندركه بحواسنا بل ما نعتبره مثلا لما ندركه بحواسنا  وحتى بفكرنا: كل النظريات في الطبيعة وفي التاريخ وكل العمليات فيهما  مصدرها منظور لحالاتها المثالية وليس لمجرياتها الامبيريقية التي لا تضبط.

فجميع الاشكال الهندسية مثلا لا وجود لها في الامبيرياء بل هي أشكال مثالية وجودها هو حدها او تعريفها وما نرسمه منها على الورق مشروط بتعيينها: فإذا لم أحدد شعار الدائرة لا يمكنني أن أرسمها لأن شعاعها يمكن أن يكون بما شئت من المقدار. وهذا التقدير هو الذي ينقلني من الماهية إلى الوجود.

وفي الحقيقة الانتقال هو من وجود مثالي-الماهيات-إلى وجود عيني -الإنيات-في علم الإنسان. والأول تقدير ذهني والثاني تعيين حسي. لكن علم الله بعكس علمنا “يؤنن بقدر” لأنه يخلق الموجود بقدر. هذا ما يقوله القرآن وطبيعي أن تكون المعرفة الإنسانية بالعكس: علم الحقيقة فطري وعلم الوجود مكتسب.

والرمز القرآن لفطرية علم الحقائق هو تعليم آدم الأسماء كلها يعني في الحقيقة القدرة على التسمية لأن كلها يعني كليها وليس كلها لأن كلها لامتناه وعلمه مستحيل على الإنسان لعدم الإحاطة وإذن فالقصد كليات الحقيقة التي تنتقل من الفطرية الى الكسب بالتعامل مع العالمين الطبيعي والتاريخي.

وبذلك لا يكون القرآن متضمنا للعلوم بل هو يذكر الإنسان بما عليه فعله حتى يحصل جزءها غير الفطري أعني ما تعين منها في العالمين الطبيعي والتاريخي إذا بحث عنها الإنسان بالاجتهاد الذي يطلب آيات الله فيها أي ما صبغها به من نظام هو قوانين الطبيعة وسنن التاريخ في مجراهما الفعلي.

تكلمت على النظر ولم أتكلم على العقد وعلى علاقتهما. لذلك فالكلام في الفرع الثالث لم ينته. لابد من فصل آخر يتكلم في العلاقة بينهما رغم ما يظن عادة من كونهما متقابلين بل ومتنافيين. وما سأبينه هو أن كل علم مضمونه عقدي بمقتضى التسليم بوجوده وشكله نظري بمقتضي بيان نظامه.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي